العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ

الفارس النبيل... في ترجّله الأخير

تقاسيم على أوجاع الوطن

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الاسبوع الماضي وأنا أكتب في هذه الزاوية، عن الشاب صاحب الدراجة الذي كان ينقل أخبار هيئة الاتحاد الوطني إلى قريته قبل خمسين عاماً، لم أكن أعلم أنه سيكون آخر يوم في حياته. فبعد الإفطار الثلثاء الماضي كان يحتضر على سريره بالمستشفى، بعد دخوله في غيبوبة في اليومين السابقين. كنا نجلس حول سريره وعيوننا على الأجهزة، انخفض ضغطه وهدأت حركة رئتيه، وتوقف نبضه عند الساعة السابعة وخمسين دقيقة، وعلى رغم محاولات الإنعاش التي استمرت ربع ساعة أسلم الروح في هدوء بعد حياة حافلة بالكفاح والكدح والعرق الصبيب.

واليوم أقف لأتحدث ليس عن الأب العطوف، وإنما عن قطعةٍ ثمينةٍ من التاريخ الوطني الحديث، من منظور المواطن العادي. فالرجل عاصر الهيئة شاباً في العشرين، وشارك لسنوات في المظاهرات العارمة ضد الإنجليز، يتابع «صوت العرب» كل مساء حتى هزيمة العرب الماحقة في 67. ولحسّه الديني العميق بقيت في نفسه مرارةٌ شديدةٌ لِما شاهده يوم رحيل عبدالناصر، إذ «خرج الناس يحتجّون على رب العالمين بسبب موت جمال عبدالناصر»، كما كان يقول عند حديثه عن تلك الفترة.

في مطلع السبعينات رحل المحتل وأعلن الاستقلال، وفي نهايتها برزت ثورة الخميني فأخذ يتابع أخبارها في الإذاعات. وعندما بدأت نُذُرُ المواجهة مع الأميركان في العام الثاني للثورة، ولمّحت إيران إلى احتمال إعلان الجهاد، كان قد عقد العزم على قرارٍ خطير. كنت عائداً من الكلية مساءً، فالتقيت الرجل الذي تجاوز الخمسين حينها أمام غرفته، فاستوقفني قائلاً: «يا ولدي، ربما تعلن الجمهورية الإسلامية الجهاد، وحينها سأترككم وأذهب إلى الحرب»... هكذا بكل بساطة وتلقائية المجاهدين الأوائل الكبار.

الرجل الذي عاش شبابه في زمن الاستعمار بهذه الروحية والحماسة، كان المستقبل يخبئ له في عهد الاستقلال مفاجآتٍ من العيار الثقيل. فابنه البكر دخل في زمن «أمن الدولة» السجن 15 عاماً، وفي فترةٍ من فترات اشتداد القمع الداخلي مطلع التسعينات خلا بيته من أبنائه الخمسة، الذين استضافتهم سجون أمن الدولة استضافة غير كريمة، وهو الأمر الذي ظل يدمي قلبه طويلاً طويلاً.

في عامه الأخير أقعده المرض، وكنت أحمل إليه الأخبار المهمة، وأحياناً الصحف ليرى الصور ويقرأ المانشيتات. وكان كثيراً ما يعلّق وهو يرى مشاهد القتل اليومي في فلسطين، آخرها اجتياح غزة، بكلماته التلقائية: «مساكين الفلسطينيين، لاعبه بهم اسرائيل لعب»، وأحس في نبراته المتكسرة جبلاً من الأحزان والحسرات، كأن قلبه يتفتت إلى قطعٍ صغيرة.

عندما انحنيت على نعشه لإلقاء النظرة الأخيرة وقبّلته على جبهته، وددت أن أهمس في أذنه بعبارة واحدة فقط: «ارفع شكواك إلى جدكّ محمدٍ غداً»، ولكن لساني خانني وانحبست الكلمات في صدري.

في الخامس من رمضان اختاره الله إلى جواره، وكان قد وُلد في الخامس من رمضان أيضاً قبل خمسة وسبعين عاماً. رحل ولم يتسع صدر الأرض لسماع تظلّمه، وعجز القضاء الوطني عن توفير العدالة والإنصاف لأمثاله من المواطنين المتضررين من القوانين والإجراءات الجائرة طوال ثلاثين عاماً. في المقابل، صدرت قوانين لحماية من تجاوزوا الحدود وأمعنوا في إذلال الناس. والآن يقف في ساحة القدس، بين يدي ملكٍ لا يُظلمُ عنده أحد، هناك سيجد من يستمع إليه حتماً. له الرحمة ولنا الصبر وللوطن الصلاح

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً