العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ

الإسلام والديمقراطية... امتناع تنميط الدولة

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

لعلهم يحسنون صنعا اولئك الباحثون الهادئون، عندما يتلمسون ويلمسون الفارق بين الاسلام كدين يعتني بالعبادات والاخلاق العامة ومعاملات اهله فيما بينهم، وبينهم وبين الآخرين، وبين الديمقراطية باعتبارها شكلا للحكم، اي لعلاقة الدولة باجتماعها، أو وصفا لطريقة الحكم بالشراكة، مع ما يعني ذلك من افكار وقيم حاكمة على علائقها لافراد فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة، كجامع يجمعهم بارادتهم ومن أجل مصلحتهم جميعا.

هؤلاء إذاً، يلاحظون اختلافا لا يصلون به إلى حد اعتباره تضادا أو تناقضا بين الاسلام والديمقراطية، ولكنهم في الوقت نفسه يرفعونه إلى مستوى الاختلاف بين مشروعين حضاريين، هما المشروع الاسلامي الذي يأتي من مكان ونظم معرفي مغاير للمكان والنظام المعرفي الذي تأتي منه الديمقراطية، وينشغلون بالبحث عن مقام الاتفاق في مستوى التماثل بين الديمقراطية والاسلام، ملحين، تجنبا للخلط والتعسف، على تظهير اطار ومقدار التنوع أو التمايز بينهما.

الإسلام لم يقدم نمطاً للدولة

هل بامكاننا ان نبدأ كلامنا عن الاسلام والديمقراطية من نقطة أخرى؟ من السؤال عن رؤية الاسلام لمسألة الدولة: هل هي ضرورة أم لا؟ واذا ما كانت ضرورة فهل وصفها الاسلام؟ أي هل اقترح لها شكلا معينا ليستوعب في تطوره المستجدات في المعرفة والاجتماع، مرتكزا على المسلمات الفقهية في ضرورة مراعات الازمان والاحوال، أي التوليف بين الثوابت والمتغيرات؟ ما يعني في النهاية ان هناك اطروحة نظرية اسلامية لها تمثلاتها ومثالاتها المختلفة في التاريخ، وان هذه النظرية قابلة لاستيعاب المستجدات، من دون ان يكون ذلك مساساً بأساسها ومسلماتها، بحيث اذا ما تواجهنا، من خلال هذا المنطق، مع عدم امكان المسامين، في تجاربهم الحديثة (إيران مثلا) على مستوى بناء الدولة، تجنب او تفادي تطبيق الوصفات المعمول بها في التجارب الديمقراطية الحديثة (الاستفتاء، الانتخاب، حكم الاكثرية، فصل السلطات... الخ)، ليكون علينا بالتالي ان نتدبر اسسا نظرية لاعتبار الدولة في شكلها الحديث، وآليات انتاجها (الديمقراطية)، دولة مطابقة أو غير مناقضة للمفهوم الاسلامي للدولة، كأننا هنا قد عدنا إلى ما بدأنا به، اي السؤال عما اذا كان الاسلام قد اقترح شكلا الدولة؟

في محاولة للاجابة الاجمالية عن هذه الكومة من الاسئلة، يمكننا الاستناد إلى قول اسلامي بالغ الوضوح، ومسلكية اسلامية تقتضي مزيدا من التدقيق، حتى نتجنب الوقوع في التعميم فعندما اكد علي بن ابي طالب انه «لابد للناس من امير بر أو فاجر» لم يتخل عن العدالة كهدف لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولكنه وضع وجود الدولة، مجرد وجودها، في المقام الاول، على اساس ان عدمها جور مطلق، بينما جورها الفعلي، التطبيقي، نسبي، فاذا ما ارتفعت نسبة الجور فيها كان علاجها بالاعتراض والاحتجاج والانقلاب المشروط بالعدل أولا... اذاً فقد تعامل علي مع الدولة كضرورة، اما منشأ ضرورتها فهو الانتظار والنظام العام، الأمن والفيء، اي الانسان والعمران، بما يقتضي ذلك من اطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية، ويستولي الجور على الغالبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى، ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم ونعود إلى المأثور «سلطان غشوم خير من فتنة تدوم».

اذاً فالدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، وان كانت بعد ان يبنيها تعود لتسهم في اعادة بناته وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتتجدد به.

الضرورة في قواعد السلوك انما تقدر بظروفها ومقاديرها، فاذا كانت الظروف متغيرة، أي تغير وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسئولياته وحقوقه وواجباته، وتبعا لذلك تغيرت الادوار، فلابد ان تتغير الدولة شكلا، واداء، ودورا، ومصدر شرعية، وآليات تحقيق، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع.

وهذا يعني انه من الصعب تنميط الدولة، أي اقتراح نمط واحد لها في كل الامكنة والازمنة، والاسلام في الاساس، لاحظ حسب القرآن الكريم، مدى التعدد والتنوع البشري، فلم يطمح لإلغائه، بل دعا إلى احترام الخصوصيات، وجعلها مصادر حيوية في العالم (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات: 13).

على هذا لا يعود الاسلام وصفا جاهزاً بين المجتمعات او داخلها، وهو يمر بالخصوصيات المجتمعة على اساس حفظ التعدد في الوحدة، وهذا من علامات عمقه التوحيدي.

هل اكون حتى الآن قد قدمت مسوغات لرأي بانه لا داعي للمقانة أو المفاضلة بين الاسلام والديمقراطية لان الديمقراطية هي حتى الآن الشكل الأقل إضراراً بالمجتمع، نظراً اللاشكالية الدائمة في علاقة الدولة بالمجتمع ولأن الاسلام لم يقدم نمطا أو شكلا للدولة، وان الله لا يتعبدنا بشكل من اشكال الدولة؟

الاختلاف ليس مناطا للقطيعة

تقديري، مع الحاح على البحث والتدقيق، هو اننا لسنا مع الاسلام والديمقراطية، بين نظامين حضاريين، بل نحن مع نظام حضاري اسلامي تاريخي متحرك متجدد على اصوله، نازع بعمق إلى استيعاب التعدد وتجاوزه، اي رفعه الى مستوى اطروحة انسانية على شرط الحرية. ومن هنا تصبح الديمقراطية، التي كانت ومازالت، تعبيرا عن شوق انساني إلى الحضور في المشهد عطفا على الحضور في المعتقد من خلال الانتماء الديني أو الثقافي، تصبح منجزا تاريخيا دائم الانجاز، تنجزه لينجزك، تعيد به انجاز الاسلام فروعا معروضة على اصولها ويعيد الاسلام انجازه طريقا تتسع وتضيق وتعتريها الالتواءات والمطبات من مكان لآخر، ومن زمن لآخر.

أي ان الديمقراطية تقع نظريا في نظام الافكار الاسلامي العام، المقاصدي، ولا تتعارض مع قيمه، اما انها محكومة منشأ بسياق حضاري مختلف، فهذا ظلم للاسلام الذي كان شورويا في الواقع بصرف النظر عن الخلاف في فهم آيات الشورى في القرآن، إلى ذلك فإن الاختلاف الحضاري لم يكن يوما حجة للمسلمين للقطيعة مع الآخر، والا فكيف انتشر الاسلام واخترق الحضارات لو لم يكن متفهما لها، وموسع لشراكة معرفية وتاريخية مع منجزاتها؟ والانسان عموما، والمسلم ليس استثناء، هو في الحصيلة مجموع تراكمات ثقافية تبادلية، والاسلام كدين لا يهدف إلى قطيعة بين المسلمين وغيرهم، والاختلاف ليس مناطا للقطيعة، بل هو مناط للتواصل والتعارف والتثاقف، أي التكامل.

والقرآن يعتبر ان الامة التي يجب الحرص على وحدتها، او اعادتها الى الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد، على موجب الايمان واللقاء في الواحد، هي الانسانية جمعاء وهذا ليس مشروع دولة كونية، تقوم على الالغاء والمصادرة الشمولية، بل هو مشروع ديمقراطيات تتعدد بتعدد المجتمعات، ولكنها تشترك في فضاء الحرية وتلتقي فيه.

ان التعدد والمتعدد، المتحقق دائما، والضروري والحضاري والديناميكي دائما، لا يمكن ان يتناغم ويتجنب الالغاء المتبادل، بالعنف المباشر وغير المباشر، الا من خلال وعيه للحرية كشرط وجود وحضور وفعل وايمان.

صيانة الثابت من تعقيدات المتغير

هل هذه دعوة إلى فصل الدين عن الدولة؟ لا يجوز هنا بالذات ان نساوي بين العارض والذاتي في محدداتنا، اي بين ما هو مكتسب، وما هو جزء من التكوين وكل ما يأتي من قبل الآخر باعتبار انه آخر له مكوناته، من دون ان يتماهى مع الذات ليدخل في تعريفها، لا يجوز - او لا يمكن - ان تتخطى علاقتنا به ووعينا له حدود عدم امكان ازالة الذاتي بالعرضي، لان الذاتي الذي لا يعلل فلسفيا لا يزول، من هنا فإن فصل الدين عن الدولة الذي كان ممكنا واشكاليا في معناه الكامل في الغرب، غير ممكن في معناه الكامل في حالتنا، على الأقل فإن المسيحية في الغرب وافدة، بينما الاسلام والمسيحية في حالنا نابعة، اي نبعت منا ونبعنا منها، وهذا تعقيد اضافي ونوعي لا بد من مراعاته، وبناء عليه، وسواء كان الدين لدينا اسلاما او مسيحية، فإن غاية ما هو متاح من دون كسر، هو التمييز بين الدولة والدين، الى الحد الذي يمكن ان تترتب عليه افكار وسلوكيات تقترب من نحو من انحاء الفصل النسبي، اي من دون بلوغ الالتحام القسري، بمعنى اننا قد نكون مدعوين الى حماية الدين وصيانته من الدولة، ومن آليات انتاجها ومترتبات ادائها، أي صيانة الثابت من تعقيدات المتغير، حماية للمتغير بالضرورة، أي الدولة، من الثابت كذلك، باعتبار انهما حقلان من الضروري والمفيد ان يتناغما في النتائج من دون خلط عشوائي، أو تعسفي أو غير منهجي بينهما، اعتبارنا ان عملية التمييز التي تجوهرت فصلا في الغرب لم تفصل تماما، ومازال الحراك السياسي والاجتماعي بنسبة أو بأخرى في الغرب محكوما بشائبة من الدين، ما يعني ان العملية محكومة بنسب متفاوتة من التمييز الذي لا يصل الى حد الفصل المفهومي والميداني الا تعسفا وهذه العملية في الغرب على اشكالياتها قد أدت فيما ادت الى حفظ الدين في سياقه ومساره الانساني الفاعل بعدما كان الخلط قد عرضه الى الارتهان لسياق المتحرر أي الاندحار بفقدان الصدقية باعتباره ملاذا لا منصة انطلاق ضد الآخر اي ضد الذات.

الدولة في الغرب تحتوي الكنيسة

لقد كان رد الفعل الأوروبي ضد الخلط بين الدين والدولة، بحجم الفعل الذي تبلور في مجمع نيقية (325م) اذ ظنت الكنيسة تحت اغراءات الجاه والسلطة، انها احتوت الدولة، والواقع ان الدولة هي التي احتوت الكنيسة في سياق الاستبداد الامبراطوري الروماني الذي عاد ليكتشف في المسيحية غطاءه الايديولوجي السهل وغير المكلف، حتى كان عصر الانوار تخليصاً للمسيحية من هذا المنزلق، أو المهوى، فترتب عليه لون من التراجع المسيحي (المسيحية) ثم ما لبث البعد الديني فيها ان اخذ يستعيد حيويته وعافيته على ايدي الذين اشتغلوا على انسنته، وتحديث معارفه، والمعرفة به، وتمثله في السلوك اليومي والعلائقي، وصولا الى تيار دي شار دان ومدرسته المعاصرة.

لا يكدح إلى الله إلا الأحرار

اننا مضطرون للتمييز حتى لا نقع ثانية في ذرائعية مكشوفة، وقد كان الاسلاميون الجزائريون قساة في ذرائعيتهم، اي جعلهم الاسلام ذريعة، عندما توسلوا الديمقراطية الى الاستبداد المكنون أو المنوي، والذي تجلت النية المبيتة فيه من خلال العنف العشوائي «الاستبدادي منشأ» الذي مارسوه ويمارسونه من أجل ديمقراطية شكلانية، اي استبداد مقدمين بذلك ذريعة الدولة لأن تجسد استبدادها عنفا، بدا وكأنه مضاد في حين انه كان تأسيسياً تأسست عليه الدولة وتأسس عليها.

واذا ما كانت الغائية «القصد» والله تعالى هو مقصد المقاصد «الله الصمد» هي الشرط الالهي والحرية هي الشرط الانساني الالهي جوهرا فاننا نبطل الغائية بابطال الحرية، وكذلك نبطل الحرية بإبطال الغائية ومن دون غائية تصبح الحرية على خطر تحولها الى فوضى عارمة ومدمرة ومن دون حرية تصبح الغائية اعاقة، واحالة الدنيا على الآخرة، وللشهود على الغيب اي تتعطل الحياة، ويصبح الخلاص الأخروي فرضية مفرغة من المعنى «أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون» (العنكبوت: 2).

ومن هنا فان الديمقراطية بما هي نظام ملائم للحرية، ضابط لها، مشروط بالخصوصيات وهي التي تضمن ان يبقى الشرط الغائي على الهيئة وانسانيته، وعلى ذلك نكف عن جعل ثنائية الالهي والانساني ثنائية متقابلة ويصبح كل منهما مجالا أو فضاءً لتحقق الآخر «يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه» (الانشقاق:6)، «كنت كنزا مخفيا فأردت ان أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف»، «الخلق كلهم عيال الله»، وهل يكدح الى الله الا الاحرار، الذين تحرروا بالمعرفة، بمعرفة الحق، عرفوا فلزموا؟ اذا فالحرية مآلها الى الحق والحقيقة ومنتهى الحق الى الحرية، لأن الحرية هي الحقيقة الثابتة، والتي نجدها على الطريق من المعلوم الى المجهول، أي طريق كشف الجهالات بالمعارف، وابعاد الجور بالعدل، والعنف بالاعتدال، والتطرف بالتوسط، والغلبة بالتسوية، والتسوية بالمزيد من التسوية.

مصطلح المستبد العادل تلفيق

بين مفهومين متناقضين

طالما ان شكل الدولة وطريقة تشكيلها ليس شأن الدين، لا الاسلام ولا غيره، وحيث لا وصفة دينية ملزمة للدولة، وطالما ان شأن الدين بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى، هو اداء الدولة، اي عدالتها، وطالما ان العدالة من دون حرية هي جور آخر، فالمستبد العادل تلفيق بين مفهومين متناقضين لا يجتمعان ابدا ولا يرتفعان أي اما مستبد وإما عادل.

وطالما ان الحرية من دون عدالة ليست حرية، بل فوضى حاضنة لتوائم أو ضرائر من الاستبدادات المدمرة، فان الديمقراطية لا بمعناها السياسي الصرف وحده، بل وبمدلولها الواسع الذي يمتد الى الشأن الاجتماعي والرعائي والتنموي الشامل، هي التي تجمع الحرية الى العدالة في بنية مدنية كمفهومين متشارطين تعريفا وتحقيقا الى حد دخول كل منهما في تعريف الآخر.

وبناء على ذلك لا يعود من شأن الفقه أو الفقيه ان يصف شكل الدولة أو يقترح طريقة تشكيلها، الا في حدود كونه شريكا متكافئاً مع الآخرين من أهل المعرفة بهذا الشأن وأهل ضد الجور ويصبح الفقه ثقافة معيارية، معيارها الحرية، والعدالة، الحق والقانون اي ديمقراطية تحث على العدل، وتحرض ضد الجور وتتعاطى مع مضمون الدولة ومعناها لا شكلها ومبناها، ومن موقع ارشادي حاضن، لا مولوي قابض، لأن المولى هو الله في المطلق وفي التاريخ لما للولاية على الامة فهي للامة.

معرفة الدين لا تتم الا بشرط الحرية

مبكرا استرعى انتباهي منذ ربع قرن تقريبا، المرحوم علي شريعتي عندما بادر بتأثير من هواجسه الوحدوية والنهضوية الى اقتراح حل معرفي لا سياسي فقط، لمسألة الامامة والسياسة أو الامامة والخلافة، منطلقا من هم اسلامي يمر بالخلافات المذهبية ويتعداها الى التوفيق بين المختلفين في قراءة التاريخ الاسلامي على موجب السياسة وبين استحضاره كرافعة حضارية يضعفها الخلط أو المزج بين مفاهيم متمايزة فاقترح شريعتي وقتها في كتابه «أمت وإمامت» اي «الأمة والامامة» التفريق بين الامامة كشأن ديني ثقافي واعتقادي جامع يرعى شئون الانسان المسلم كما هو مستخلف ومكرم، وبين الخلافة التي ترعى شأن الانسان الطبيعي أيا كان انتماؤه أو ايمانه العام أو التفصيلي وهذا يدخل اساسا بالدين بلحاظ تدرجه في نظام المقاصد الشرعية، ما يعني ان اختلاف الطبائع يسهم في تفسير الخلاف في الخلافة أو عليها، من دون ان يمس بالدور الحضاري للانسان (الاستخلاف) وكرامته الاثيرة عند الله وهذا يتيح ان نستكمل الدورة المعرفية التي لم يخترعها شريعتي ولكنه استأنفها بالتمييز عاموديا وأفقيا بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة، بحيث تتحصل لدينا لائحتان من المعارف والسلوكيات. معارف وسلوكيات الاجتماع في الدين، ومعارف وسلوكيات الاختلاف في الدولة، ونبحث لهاتين اللائحتين عن مناطق وفضاءات ومفاتيح ومنهجيات وأبواب للتكامل، وعلى اساس ان الاختلاف شرط للتكامل، وان التكامل مآل حضاري وتوحيدي للاختلاف حتى لا يعم الخراب الدينا فلا يعود الواحد منا أو الجماعة على طمأنية لمآلهما في الآخرة.

والا فان الاستبداد هو في انتظار اي حراك اسلامي مسيس، اذا ما كانت الدولة الدينية هي الهدف الحصري له؟ والاستبداد الديني اقسى واذا كان الاستبداد الديني مسوغا للاستبداد العلماني، فإن الاستبداد العلماني الجهلاني اياه، من شاه ايران الى صدام ربما كان اقل فتكا بالدين وأهله من استبداد أهل الدين بالدين واهله والاستبداد الذي يمتد من تفاصيل الحياة الى المعرفة بالدين والحياة، هو مصادرة واجتثاث للدين وللمعرفة به فان معرفة الدين لا تتم الا بشرط الحرية، ولعل الحرية هي النصاب الاعلى لهذه المعرفة، تحققها وتتحقق بها.

في النهاية لسنا ملزمين بوضع الله خيارا إلهيا أو انسانيا في مقابل الانسان، ان في ذلك عدوانا معرفيا على الألوهية بلحاظ الاطلاق الكامل في تعريفها ذاتا، وصفات... والانسنة اي انسنة المفاهيم الالهية تعني عدم موضعتها لأنها تصبح خلافية مفرقة بدل ان تكون مقامات وفاق جامعة تحت سقفها ومعناها، كما انه اعتداء على الانسان بوضعه في موضوع مصدره ومقصده (الله) أي تحويل المغيا الى وسيلة، وتحويل الوسيلة الى غاية بمعنى ان تأليه الانسان هو الغاء لانسانيته.

ان التوحيد يقتضي اعتدالا في الرؤية تتيح معرفة اسباب وشروط التأله والانسنة واذا ما نقلنا هذه المعادلة الى التاريخ، الى السياسة والاجتماع فان دولة مدنية جامعة لمكونات مختلفة على نصاب التوحيد الحافظ للوحدة، ونصاب الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد، هي التي من شأنها ان تحفظ لنا الدين والانسان تحت ظل السماء المفصولة مفهوما عن الأرض الموصولة مضمونا بهذه الأرض ومن عليها، بالدولة المدنية التي تأبى ان تحقق ذاتها في المس بمكونات الفرد والجماعة، والدين أولها، لحفظ الجماعات حقها في التعبير عن نفسها كمتحدات لا تنقض الدولة أو تصادرها، وهنا يتاح لنا التوفيق بين الفرد والجماعة، ونعيد انتاج ديمقراطيتنا بعيدا عن املاءات الشمولية الدينية أو المادية... وبعيدا عن العقل الذي يريد انتاج الرأسمالية على موجب الامبراطورية وحقها في التعامل الاذعاني لها من قبل الآخرين، بعدما انتجها سابقا على موجب الامبريالية والحرب الباردة.

الديمقراطية هي المناخ

الملائم للمحبة والعدل

المواطنة بما هي تكييف وتكيف للافراد الذين تتكون منهم المجتمعات والجماعات في الوطن الواحد وظل الدولة الجامعة، هي النصاب الضامن لنظام العلائق بل ربما كان محورها أو عمودها الفقري، بحسب اصولنا المؤسسة وحراكنا التاريخي والحضاري والمعياري الذي تشكل المسألة الاخلاقية حجر الزاوية في عمارته «انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق» «ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فهم صنفان فإما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» واذا ما كانت المحبة شرطا للدين وهل الدين الا الحب؟ كما يقول الامام الصادق (ع) فان العدل لا يمكن ان يكون الا ثمرة والمحبة في الله لجميع عيال الله... والا فلن تكون ولن يكون عدل، والديمقراطية هي المناخ الملائم للمحبة والعدل كذلك.

هذه البنية الفوقية المواطنة كشكل وهي شبه حصر على التعديل والتطوير، واذن تمضي الديمقراطية آلية للارتقاء الفردي والجمعي إلى المواطنة، وفي إطار المواطنة على مقتضى الديمقراطية، يتراجع الخوف على الجماعات المكونة بلحاظ تمايزاتها الثقافية أي يكف الآخر عن ان يكون استفزازاً للهوية المحفوظة بالحرية، هل هذا استبعاد للبعد الالهي من التشكيل السياسي؟ ان الاستخلاف لا يمكن ان يقوم على المطابقة بين المستخلف والمستخلف، «بالكسر ثم الفتح» فكيف اذا كان المستخلف «بالكسر» خالقا منزها، وكان المستخلف «بالفتح» مخلوقا عجولا جزوعا هلوعا؟ اي أنه مزود بصمامات امام ضد الطغيان. اذا ما استقامت الامور بينه وبين الله على التقوى والقيام بالامانة، ولعل الديمقراطية هي الاطار والفضاء الذي يوفر للمستخلف ان يكدح الى المستخلف ليلاقيه على موجب الحرية... وموجب ان ابن آدم الخطاء مكلف شرعا بالعدالة، اي الحرية وقادر على انجازها بنسبة مجزية ومفتوحة على المزيد.

الدولة تنتج الدين على منطقها لا منطقه

هل نريد ثقافة أو دينا تنتجه الدولة، أو تعيد انتاجه على موجبات مزاجها وحاجاتها التي قد تكون مشروعة وغير مشروعة؟ والدولة الدينية تنتج الدين قطعا، ولكن على اساس انها دولة وليس على اساس انها دين ولا تختلف الدولة العلمانية عن الدولة الدينية في ذلك وان كانت العلمانية في الدولة تنتج الدين سلبيا، اي ضد الدين، فان ذلك يربي النزوع الى اعادة انتاج المضادات الحيوية وبشكل عصبي، وايديولوجي مغلق مشدود الى العنف والدين الذي ينتج الدولة تعود الدولة لتنتجه على منطقها لا منطقه، لانهما اثنان ولا عيب في هذه الثنائية بل العيب في توهم الواحدية، التي تؤدي عمليا إلى الغاء الدولة بالدين، والغاء الدين بالدولة.

ان الثقافة والدين بمعناه المعرفي المتجدد والحياتي لا بمعناه التأسيسي من انتاج المجتمع، والدولة الديمقراطية بما هي ضامن للحريات تحت سقف القانون، يمكنها ان تحمي عملية انتاج الدين والثقافة من أي عدوان عليهما أو تشويههما، أو الخلط العشوائي المتصف بينهما، والحرية هي ضمانة عدم العدوان أو التشويه، لأنهما يأتيان من جهة الجماعات العصبية العصابية التي تريد انتاج الدين على مقاسها (المتبدل) لتعطل الحرية في داخلها وحولها اي ان الديمقراطية تحمي الناس والمواطنين المؤمنين من عملية اعادة انتاج الدين على حسبهم لا لحسابهم بشرط الحرية، أو شرط الحريات التي ينحصر نظامها الضامن لاستمرارها وحيويتها بالديمقراطية في مقابل اي كم من الحريات لا ناظم له، فيتحول الى فوضى تمهد لتأسيس استبداد مركزي أو استبدادات طرفية يلغي بعضها بعضا بالعنف الدوري، اي المادي وغير المباشر، المعنوي، اي التهميش أو التكفير

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً