العدد 821 - السبت 04 ديسمبر 2004م الموافق 21 شوال 1425هـ

تمديد الأزمة الأوكرانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قرار المحكمة العليا في أوكرانيا بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسة وإجراء الجولة الثالثة منها قبل نهاية الشهر الجاري وضع الأزمة في طور جديد. فالقرار هو تمديد للأزمة المفتعلة، ولكنه أيضاً يرفع من حدتها السياسية في وقت تشير المعلومات إلى وجود بذور حركة تمرد ربما هددت في حال اندلاعها بانقسام البلاد وانهيار الدولة.

القرار ليس سليماً لأنه أوقف الأزمة في مكان ونقلها إلى مكان آخر. فالمعارضة تعتبر القرار انتصاراً لوجهة نظرها التي فرضتها من خلال تحريك الشارع واستخدام التأييد الأميركي - الأوروبي لها. والطرف الناجح في الانتخابات يعتبر أن المحكمة خضعت لضغوط الشارع وتعرضت لإغراءات مالية دفعتها جهات أوروبية وأميركية لقلب النتيجة من دون تحقق من صحة الاتهامات.

القرار إذاً لم يحل الأزمة، بل عمد إلى تأجيلها إلى فترة قصيرة وربما أسهم في مفاقمتها في حال أصر كل فريق على موقفه بغض النظر عن النتيجة التي ستسفر عنها الدورة الثالثة. فالنتيجة هنا لم تعد تصويتية لها علاقة بنسبة الأوراق في صناديق الاقتراع بل باتت محكومة بالسياسة الدولية وانهيار الثقة بين أهل البلاد. فأوكرانيا أصلاً دولة مركبة سكانياً من شطرين، الأول غربي تسكنه غالبية كاثوليكية مدعومة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والثاني شرقي تسكنه غالبية أرثوذكسية مدعومة من الاتحاد الروسي. ومجموع الدولة يتوزع على غالبية أرثوذكسية تمثل 55 في المئة من السكان وأقلية كاثوليكية تمثل 45 في المئة وبالتالي فإن النتيجة واضحة منذ الآن بعد التحشيد المتبادل بين المنطقتين الشرقية والغربية. فالتحشيد قام ظاهرياً على أساس سياسي - ديمقراطى، إلا أنه باطنياً تشكل من استقطابات سكانية - طائفية، إذ ناصرت كل طائفة مرشحها، إلا أن الإعلام الغربي ركز على أنصار فيكتور يوشينكو (الموالي للولايات المتحدة) وأهمل الاعتراضات التي نفذها أنصار فيكتور يانكوفيتش (الموالي لموسكو). وهذا التحيز الإعلامي أثار الكثير من الشكوك بشأن البعد السياسي للمسألة وطموحات واشنطن في التقدم إلى كييف لتضييق الخناق الجيو - سياسي حول روسيا.

قرار المحكمة الأوكرانية ليس حكيماً لأنه جاء في حال من الانقسام الأهلي استنفر فيه كل فريق قواه لمواجهة الآخر. وهذا يعني أن كل فريق لن يقبل نتيجة التصويت في الدورة الثالثة بذريعة أن النتيجة إذا لم تكن لمصلحته سيعمد مجدداً إلى تعطيلها مستخدماً الشارع للضغط أو التهديد بالانفصال. وفي الحالين تتحمل التدخلات الخارجية وتحديداً الأوروبية - الأميركية المسئولية المباشرة عن تأزيم الوضع وتدويله لحسابات استراتيجية وعسكرية لا صلة لها بمصالح أوكرانيا.

تمديد الأزمة لن يكون في مصلحة أوكرانيا. فالتمديد في ظروف تسودها الشكوك المتبادلة يعني انهيار الثقة وبالتالي احتمال انهيار الدولة التي سيصعب عليها احتواء التداعيات في بلد منقسم ثقافياً ولغوياً وطائفياً ويخوض معركة الدفاع عن هويته من دون اكتراث بطبيعة النظام. فالمعركة هي من يقود الدولة ومن يشرف على إدارة مؤسساتها وليست معركة لها صلة بالديمقراطية والبرلمانية. وحين تنتقل المعركة من صناديق الاقتراع إلى السياسة ومن السياسة إلى الهوية، فإن الصفة الأخيرة تتغلب على كل الألوان السابقة. معركة الهوية ستقود الدورة الثالثة للانتخابات وخصوصاً أن غالبية الشعب تسكن في المناطق الشرقية وتعتبر نفسها حضارياً كتلة تاريخية من الصعب فصلها عن روسيا.

إلى ذلك، تعتبر الغالبية الأرثوذكسية نفسها في موقع المظلوم، لأن الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) أسهم في تدخله السافر في سرقة انتصارها ومصادرته عن طريق الإعلام ومحطات التلفزة. فالنتيجة برأي هذه الكتلة السكانية صحيحة، وإن مرشحها فاز فعلاً في الانتخابات بغالبية نسبية تعكس التوازن الديمغرافي (السكاني) بين الطائفتين. فالأرثوذكس أكثر من الكاثوليك والأقلية المسلمة في شبه جزيرة القرم دعمتها وبالتالي فإن النتيجة صحيحة والتزوير تم من الطرف الآخر المهزوم.

والسؤال: هل ستكرر الدورة الثالثة الأرقام نفسها في الدورة الثانية أم أن التدخل الخارجي (السياسي والإعلامي) ترك تأثيراته على المزاج الشعبي؟ من الصعب توقع النتيجة من الآن، إلا أن الواضح من التوتر الأهلي العام أن التدخل الخارجي زاد من نسبة الاستنفار الداخلي وأعاد استقطاب الناس وتحشيدهم وفرزهم على أساس مذهبي. وهذا من الأمور الخطيرة في بلد يعاني أصلاً من انقسام تاريخي - جغرافي، والتعايش فيه حصل في فترة قصيرة ولم ينجح في إعادة تشكيل هيئة الدولة كقوة سياسية تملك تصورها الخاص والبعيد عن لعبة الطوائف.

قرار المحكمة الأوكرانية مدد من عمر الأزمة، وفشل في حل المأزق الذي ظهر في انعدام الثقة بين الطرفين. فالأزمة الآن أخذت فرصة إضافية، والنتيجة ليست بالضرورة ستنتهي إلى تفاهم، بل ربما إلى انشقاق جديد يطاول وحدة الدولة حين تنتقل الأزمة من الصناديق إلى مكان آخر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 821 - السبت 04 ديسمبر 2004م الموافق 21 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً