العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ

أخيراً تجرأت أوروبا خارج قواعدها

لم يحصل وأن تجرأت أوروبا بملامسة وتقبيل كأس العالم خارج أراضيها في تاريخ منافسات نهائيات كرة القدم فيما مضى. وكانت دائما تتقمص دور ولي العهد رغماً عنها، وتلبس الفضة حانقةً كارهةً، وتتحين الفرصة يوماً- بالتحديد في أحد أيام يوليو- للانقضاض على المُلك والاستيلاء على العالم الكروي والتتويج بالذهب. ولا يكون هذا إلاّ خارج قواعدها؛ حتى لا تُوصف بالجُبن وقلة الجسارة والتموقع في الثغور. أو حتى لا يُطلق على عناصرها (منتخباتها) أنهم يؤدون حرب عصابات، وليؤكدوا للعالم أن حربهم الكروية حربٌ مفتوحةٌ على جميع الجبهات. هي الحرب بين الغرب وأقصى الغرب - هناك ما وراء البحار- ولا مكان لدخول شرقي أو شرق أوسطي، أو إفريقي بين السلاطين. فهم كومبارس لمسمى كأس العالم إلاّ فهو (كأس أوروبا وأميركا الجنوبية)؛ لذلك غالباً ما يطالب المسئولون هناك بتقليص الفرق الآسيوية والإفريقية. إذا هي الحرب الكروية التاريخية المستمرة التي تتجدد كل 4 سنوات بين طرفي المعادلة، يتأرجح الظفر بجولاتها بين هذا وذاك. كل يتمناها على أرضه؛ ليسهل الانتصار ولكن، ما أروع الانتصار خارج جبهاتك! ويتجدد السؤال في كل مرة بعد كل جولة: لماذا تفوقت المنتخبات التي فاز أحد فرقها بكأس العالم؟ والسؤال المطروح بالتحديد هنا بعد فوز إسبانيا بالكأس العالمية بجنوب إفريقيا: لماذا تفوقت المنتخبات الأوروبية على منتخبات أميركا الجنوبية في هذا المونديال؟

لقد أثبتت مباريات كأس العالم أن لعبة كرة القدم يمكن تغيير مسماها إلى لعبة العقل والقدم. فالجانب البدني والمهاري لم يعد فارقاً بين لاعبي المنتخبات المشاركة. فجلها تضم بين عناصرها لاعبين ذوي مهارات احترافية عالية، ومقومات بدنية رفيعة، حتى فرقنا العربية تزخر بالمواهب ذات المواصفات العالمية، وهي تراوح مكانها عقداً بعد آخر، وجل اهتمامها وغاية مناها أن تصل إلى النهائيات وليكن ما يكون.

إذاً، ثمة حقيقة أو قل بالأصح معادلة رياضية لا يختلف على صحتها وعلميتها في عالم المنافسات الرياضية شخصان وهي: الإعداد البدني + الإعداد العقلي + الإعداد النفسي + الإعداد المهاري = الإنجاز الرياضي.

والسؤال المطروح هنا: هل تتساوى الفرق في تطبيق أبعاد هذه المعادلة على عناصرها؟

كما ذكرت أعلاه أن الإعداد البدني لم يعد فارقاً، غير أن العقلية والثقافة والتميز الذهني والاستعداد النفسي هو الذي يتلاعب بالكرة ويمررها ويقذفها ويسكنها الشباك، وهو الذي يُرجح جانباً على آخر. فعقلية اللاعب الأوروبي يغلب عليها طابع الواقعية والذكاء والثقة بالنفس والاتزان والطموح والطرف الأقوى، ويمكن أن أطلق عليها (عقلية لاعب المسافات الطويلة لسباقات العدو). أما اللاعب اللاتيني فيتميز بالحماس الزائد والروح القتالية والاستعراض، غير أنه في الوقت ذاته يتسم بالاندفاع والانفعال وحب التفوق على أقرانه لدرجة الأنانية لينال شرف التوقيع على عقد جديد أو التجديد. ولا يختلف اللاعب الآسيوي عن العربي، فكلاهما يكتفي بالأداء الجيد وعدم الثقة بالنفس والروح الانهزامية، وتفتقر أكثر منتخباتها إلى المحترفين في الأندية والدوريات العريقة. وللاعب الإفريقي شأن آخر، فبالرغم من القوة البدنية وتعدد المواهب والمحترفين في أعرق الأندية والدوريات إلاَ أن اللاعب لا يمكن التعرف عليه في المنتخب، فهو ميال إلى طريقة اللعب في ناديه أكثر من المنتخب؛ والسبب أنه احترف صغيراً فشب على ذلك. ويمكن أن أطلق عليه (لاعب المسافات القصيرة في سباقات العدو) ويتراجع عند الأمتار الأخيرة من خط النهاية.

لعل القارئ يظن أني حصرت السبب في التفوق لهذا العامل وحسب، كلا عزيزي، أظنك تماماً تتفق معي أن أكثرية لاعبي المنتخبات الأوروبية المتميزة يلعبون للدوري المحلي نفسه للمنتخب، حتى وإن لم يكونوا في الدوري نفسه، فهم متواجدون بالقرب منه، وهذا الأمر يتيح للمدرب سهولة اختيار اللاعبين، والتعرف على امكاناتهم عن قرب، كما يريحه كثيراً في عملية تجميع اللاعبين، وييسر انسجامهم وتفهمهم لأسلوب اللعب؛ كونهم ينتمون إلى مدرسة واحدة وفكر واحد. ولا نغفل أن المدربين لغالبية أندية الدوري هم من الدولة نفسها، وبالتالي لا يحتاج اللاعب الكثير من الوقت لاستيعاب أسلوب اللعب في المنتخب. فالمنتخب الإسباني البطل مثال حي وقريب لصحة ما أذهب إليه - بحسب رأيي - فكل لاعبيه هم من الدوري المحلي الذي يتسم بالقوة عدا لاعبين (واللذين لم ينسجما كما المطلوب مع الفريق وهما: توريس وفابريغاس). ويؤكد المدرب الألماني هذه الحقيقة بعد خسارة فريقه من إسبانيا حينما وصف الفريق الإسباني بأنه أكثر الفرق انسجاماً في العالم. ولكن ماذا عن المنتخبين الفرنسي والإنجليزي؟ يسألني البعض.

أقول: أنا لا أرى أن المنتخب الفرنسي منتخب أوروبي بالكامل، فهو مزيج من هذا وذاك (سلطة كروية)، وبالتالي يفتقد إلى هوية معينة أو علامة كروية محددة المعالم. أما المنتخب الانجليزي فحكايته مع طاهي البيتزا الإيطالية (كابيللو) فيبدو أن لاعبي المنتخب لم يستسيغوا بعد طريقة تحضيرها والتهامها. وأنا أؤمن عزيزي القارئ - وهذا رأيي - ألا فريق في العالم يحمل كأس العالم بمدرب أجنبي، هذا على الأقل ما يثبته التاريخ حتى الساعة.

ولكن ماذا عن المعسكر الآخر؟ والحديث هنا يخص قطبي القارة اللاتينية البرازيل والأرجنتين، فالمؤشرات في بداية الأمر اتجهت نحو رفع أحدهما الكأس العالمي محاطين بباقي فرق القارة، غير أن الإعصار الأوروبي اخترق السد اللاتيني بغتة مصحوباً بسحابة أيسلندا فأصاب منتخباتها بين قتيل وجريح توفي فيما بعد متأثراً بجراحه (الأوروغواي) على رغم اعتقادي أن الفارق الفني لم يكن كبيراً بينها وبين الفرق الأوروبية، وخصوصاً البرازيل والأرجنتين، غير أن التفصيلات الدقيقة مهمة جداً في مثل هذه المباريات.

فالبرازيل تخلت عن مدرستها في الاستمتاع والإمتاع والإبداع وبالتالي تسجيل الأهداف والفوز، واعتمدت على إحكام الدفاع والهجمات المرتدة، كما أن الفريق لم يكن مهيئاً للظروف المتغيرة للمباراة - بحسب رأيي - وظهر ذلك جلياً في مباراته مع هولندا، فالفريق فقد توازنه حينما أحرزت هولندا هدف التعادل، وأخذ الفريق يترنح في الملعب، ظهر معظم لاعبي الفريق بعصبية غير معهودة في معظم مباريات الفريق وبالخصوص في مباراة ساحل العاج. وأرجع الأسباب للضغط النفسي الهائل على اللاعبين، فكل يريد إثبات أحقيته في تمثيل المنتخب، وهم مطالبون بالكأس لا غيرها، والفوز ولا سواه. والفريق البرازيل فريق يرى نفسه ولا يرى الآخرين، يرى نفسه في النهائي قبل الوصول، ويصطدم بفرق تحرث الملعب حرثاً؛ لذا هو يُستفز حين يقارعه الآخرون ويفقد صوابه. فلم يجد البرازيليون بلاد الأراضي المنخفضة (هولندا) معبدة لرقص السامبا، وقطعت المحركات الألمانية راقصي التانغو أربعاً.

والأرجنتين وما أدراك ما الأرجنتين، حبيب الملايين، محبي مارادونا وميسي وهيغواين، لقد أدمع العين، ضاع مارادونا وضيّع أصحاب الملايين، هو محفز نعم، هو مدرب لا، فأين خط الدفاع من زانيتي وهو في قمة النضج والتألق؟ وأين القراءة السليمة للفريق الألماني؟ وأين وأين؟ أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً. وقد نجد عذراً للمدربين دونغا ومارادونا، فوفرة المحترفين واختلاف مدارس تدريباتهم، وتوزعهم الجغرافي، وابتعادهم عن أوطانهم، يصعب مهمة المدرب في اختيار وخلق فريق متجانس ينصهر في بوتقة واحدة في فترة قصيرة، ويشتت تركيزه عن مجموعة معينة، فعين على أوروبا وأخرى على الدوري المحلي.

لقد أثبت المنتخبان البرازيلي والأرجنتيني أنهما منتخبان لا يظفران بكأس العالم إلا باللاعب الظاهرة، اللاعب الخارق كبيليه ومارادونا ورونالدو وروماريو، فهل يكون القادم ميسي؟

لقد رحل الأميركيون الجنوبيون وتركوا وراءهم رسالة تحذير، رأيتها وحدي دون الملايين ملصوقة في قاع كأس العالم الذي رفعه كاسياس ورفاقه، لم ينتبهوا إليها لانشغالهم بفرحة الانتصار. حتماً سيلحظونها وسيرتعبون لمضمونها. هل تودون معرفة ما كتب عليها؟ لن أخبركم، فالجواب سيكون هناك في برازيليا وريودي جانيرو وساوباولو، والموعد في 2014.

سيدجلال علي هاشم

العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً