العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ

جعفر حسـن: يقرأ البنية القصصـية فـي متـوالية « الهامات» للحجيري ( 2-2)

في أمسية نقدية بأسرة الأدباء والكتاب

أقامت أسرة الأدباء والكتاب أمسية نقدية لقراءة المجموعة القصصية (الهامات) للقاص أحمد الحجيري وقد قدمت خلال الأمسية ثلاث أوراق نقدية أساسية قدمها كل من النقاد جعفر حسن وفهد حسين وزكريا رضي، وقد حضر الأمسية مجموعة من المثقفين والمهتمين والأصدقاء.

خلال ورقته في قراءة مجموعة الهامات للحجيري أكد الناقد جعفر حسن أن الراوي يرتكز على نمط من أنماط التفكير الشعبي السائد في المجتمعات العربية، والذي يميل نحو إعلاء الشخوص لدرجة المقدس في الروحانية، وهو التساؤل ذاته الذي يقوم في الذهن حول دخول أشخاص ما في دائرة المقدس بينما يبقى غيرهم خارجها بالرغم من أن بعضهم يفوقهم في فداحة الفعل التاريخي، ولعل تلك الإشارة للناي ما يؤكد تأويلنا بالعجائبية التي تقوم في داخل القص، أو لعلها إشارة لا تنتمي إلى القصة السابقة وإنما تعكس نوعاً من الاختلال الظاهر بين حدثين يتعلق أحداهما بالقيثارة والآخر بالناي، ولكن ما يجمعهما هو حالة الصفير التي توحي بالناي ولا توحي بالقيثارة، إذ إن القيثارة يضرب على أوتارها لتصدر الأصوات، بينما الناي ينفخ فيه ليصفر الألحان وبالتالي تقوم منطقة مرتجة في تسلسل الحدث أمام المتلقي، لكنه يندمل بفعل التأويل الذي يخرج الحكم المنطقي من دائرة النقد، ذلك الحكم المنطقي على طريقة إقامة القضايا التي يمكننا اعتبار الفن في تصنيفها بأنه يحتوي على قضايا فاسدة، أو إن شئنا لا قضايا برغم كونه يرتكز على معرفة عميقة ببنية العمل الفني والواقع الاجتماعي.

وتساءل حسن هل لنا أن نتأمل في فعل الكتابة حين ينتقل الحدث من قصة إلى قصة ويكون الراوي العليم أو كلي المعرفة ينتقل من قصة إلى أخرى، ليرتج فعل القص أو لعله يقوم في التأويل بذكر حدث مغفل في القص السابق ليبين المغايرة مع استمراره في السرد الذي يضيف إلى تنامي الحبكة الفنية دون إغفال العلاقات السابقة التي بناها، فهل يشير ذلك إلى أن الراوي مازال لديه ما يقوله في السرد، أم أن كل قصة تقوم مكتفية بنفسها دون الحاجة لغيرها لتدعيم الحدث؟ أم أن هناك نمطاً في تشكيل الحدث يدفع القاص نحو استثماره، ليتحول في المتوالية بحيث يملأ فضاء الحدث بالتحولات التي تشير إلى إمكانية مفتوحة تجبره على نهاية محتومة في ختامها بالموت؟


الوحدة والاختلاف

تبدو لنا تقنية السرد معتمدة على حوار يدور بين شخوص القصة، فنجد الراوي يستخدم مقول القول على لسان شخص ما أو جار أم جميل أو محمود أو عباس الجاثي أو ما قاله أهل القرية، بينما يظهر الراوي في ثنايا السرد ليكمل الحكاية

« ظلت الحادثة تلوكها الألسن... وتهتزّ لها الرؤوس... يمين... شمال... فوق... تحت... وفي اليوم التالي عندما توجه حجي مسعود صاحب المبنى إلي الغرفة (قن الدجاج) التي تطل من موقعها على كل القرية، ليبلغ عبّود قرار طرده من الغرفة... لم تصل إلى سمعه أدنى حركة من داخل الغرفة... وقرع الباب... وقرع... فلم يجبه أحد... وحين تجرأ وفتح الباب... لم يجد عبّوداً... فقط كتب وصحف ممزقة... وأعقاب سجائر متناثرة... وإيجار الغرفة (قن الدجاج) وفوقه بصقة كبيرة هزّ لها حجي مسعود هامته الفارغة».

ونجد هيمنة لعبود العواد في القصة الأولى من خلال حواره الذي يقوم مع شخوص القصة ليفضح تناقضات الناس في القرية وتسترهم وراء المظاهر الخادعة حتى حانت لحظة الحقيقة التي كشفها عبود العواد، وهنا إشارة إلى طبيعة هيمنة ثقافة الستر في ثقافتنا، وتناقض ما يقوله الفرد عن نفسه وما يفعله فعلاً في الخفاء، ففي الأخلاق عامة يظهر المرء وكأنه قديس بينما يقوم بكسر هذه القداسة من خلال فعل ما يستهويه ويحبه، كما يكشف عبود العواد تحولات الناس في القرية عبر مسيرة الزمن.

بينما يواصل الراوي استثمار تلك الميزة التي تقوم على سرد ما يقوله الشخوص فيعتمد الراوي في القصة الثانية والثالثة على كلام يقال على لسان شخوص معروفين من خلال علاقتهم بالقصة الأولى أو مجهولين «قال أحد أولاد عباس الجاثي»، «صاحب الدكان الأمرد»، «قال من شاهده»، «يقول كل من رأى عبودا في ذلك الصباح»، «قالت امرأة من أقصى القرية»، «قالت إحدى حفيدات أم جميل البياعة»، «قال البعض»، «ويقول أهل القرية» «وادعى أحد من شهد ذلك اليوم»، كما يأتي بخطبة المؤرخ الذي مر بقبر الغريب... الخ، ويواصل نحو استكمال الحدث وبما يخدم تطوره، دون أن يغادر الراوي كلي المعرفة دوره من خلال استكمال السرد فيقول في القصة الثانية:

«الأمر المهم... أن عبّوداً قد اختفى فجأة... كما جاء فجأة... كيف اختفى؟ لماذا اختفى؟ هل سيعود؟ الكل لا يدري... ولكن أسراب فراشاته وتهويمات يمامه التي خلفها وراءه... تأتي القرية كل مساء لتفرش أسرة الأطفال وتهدهدهم... تأتي مرفرفة في أحلام الكبار... ومعها تأتي من البعيد أصداء لحون لم يعزف مثلها قط... ولكنها تقترب... بلا شك».

وأضاف حسن: اعتمدت التقنية في بعض صياغاتها على سرد يحكي خطابا داخليا يقوم بين عبود العواد ونفسه ليبين مدى التغيير الحاصل في حال القرية، وهي حالة تحاكي بطريقة عميقة تغيير قرانا التي زحفت عليها المدينة وأكلت منها ما أكلت، بينما تغيرها الأعمق كان في شخوصها التي صارت تقارب أهل المدن المطحونة تارة والمنعمة تارة أخرى، ويطال التغيير كل شيء حتى عبود العواد نفسه تغيّر، ولكن ذلك التغير شكلي بحت، بينما يكون وجوده هو الثابت في كل هذه المتغيرات، ويتطاول به الزمن ليعاود الدخول إلى القرية. ويستمر الراوي ذاته وتتطور أحداث القصة من خلال تقنية ثابتة توحي بالاتصال المستمر بوحدة الراوي ووحدة التقنية المعتمدة في بنية القص والقائمة على رواية شخص ما أو أشخاص عديدين للحدث، بينما تقوم المغايرة على بنية الحدث وتطوره نحو نهايات مفتوحة في القصتين (الهامات، اعتدال الهامات) ونهاية مقفلة في القصة الثالثة (قبر الغريب).


رمية بعيدة

ويمكننا تلمس الإحالة على التراث من خلال السرد الذي يقوم على استنطاق الشخوص باعتبارهم يمتلكون معرفة ذات سطوة في الحدث، ولعل ذلك يشير إلى تسلسل الرواة في الأحاديث من خلال العنعنة، ولكن الاستثمار هنا يقوم بشكل يناقض التسلسل في إيراد الحديث باعتباره مصدر قوة أو ضعف يمكن تمحيصها، وذلك من خلال بنية الحدث الذي يقوم على تضارب بين الآراء التي تذهب في تأويل الحدث الرئيس المتمثل في عودة عبود العواد وغيابه ثم عودته وموته في القرية ليظهر لنا تلك الأشواق المخبوءة في نفوس الناس في مجتمع صغير متمثل في القرية.

بينما نجد الانزياح في تركيب الجملة التي تستجر القرآن الكريم في صياغاته فحين نقرأ «قالت امرأة من أقصى القرية»، يحضر في ذهننا على الفور النص القرآني «جاء رجل من أقصى المدينة يسعى»، ولكن المرأة هنا تقابل الرجل وهي لا تسعى وإنما تمارس فعل القول في المقابل.


تأملات مباحة

لعل العنوان في القصص المتوالية يشير إلى تلك العلاقة الموجودة في بنية الحدث بين القصص، ويمكن لمس ذلك من خلال العنوان في القصتين (الهامات، واعتدال الهامات) فالنقطة المشتركة بين العنوانين تتمثل في كلمة الهامات التي رأي أحمد الحجيري وسم القصتين بها، وبالتالي تكرار كلمة الهامات في عنواني القصتين يوحي بذلك التسلسل، ولكنه ينكسر في القصة الثالثة حيث يسميها (بقبر الغريب)، وبالتالي توحي المسألة بالإمكانية المفتوحة نحو اعتبار كل قصة من تلك القصص قائمة بذاتها، إذ إنها لا تحتاج إلى سابقتها كما سبق أن اشرنا، ولكن يظل التساؤل عن سبب انقطاع العنوان الثالث في إيراد كلمة الهامات ويمكننا الإشارة إلى كونها نهاية السلسلة التي تحتم انقطاع الحدث الذي يقوم في السرد.

وعلى الرغم من إشارتنا إلى مسألة الخاتمة المقفلة التي أنهى بها السارد قصته الثالثة (قبر الغريب) إلا أننا يمكن أن نجادل في موت عبود العواد، ذلك أنه يخرج من موته المتحقق باعتباره إنساناً له عمر محدد في الزمن، ويختفي باعتباره عبود العواد، ولكن خروج جسد عبود العواد من الحياة لا يعني في القصة الثالثة أكثر من دخوله في المتخيل الجمعي باعتبار قبره قبر علامة جهبذ، فالموت بهذه الطريقة ليس إلا حياة أخرى تقوم في الثقافة، ويمكن أن تنفتح في القص القادم ويتم استثمارها بطرق ممكنة.


تحول المتحول

يبدو الزمن أمرا محتوما في الفعل، فالحدث لا بد أن يتشكل عبر زمنه الخاص، وفي السرد نجد أن القاص يقوم بتحديد الزمن من خلال ملامح متعددة في الكتابة تعتمد على إدراك المتلقي لحركة الزمن، فهناك تطابق بين فعل القراءة ومقول الشخصيات التي تتحدث في القصص، فحين نقرأ ما يقوله عبود العواد عن تلك الشخوص، إنما نحدث تطابقا بين مرور الزمن الذي تتطلبه القراءة وما يقوله عبود العواد، وتبدو لنا التقنية هنا بتطابق زمن القراءة مع زمن الفعل.

بينما نجد أن لعبة الزمن يمكن أن تنكسر على لسان الراوي من خلال القفز إلى الأمام عبر ذكر زمن جديد قد يطول أو يقصر، وقد نعرف مداه أو نحاول تخمينا معرفته، ولكن ذلك يحدث من خلال ذكر اليوم التالي في قصة الهامات مثلا فنسمع الراوي يقول:

«وفي اليوم التالي عندما توجه حجي مسعود صاحب المبنى إلي الغرفة (قن الدجاج) التي تطل من موقعها على كل القرية، ليبلغ عبّود قرار طرده من الغرفة».

كما ينتقل بنا الزمن نحو المستقبل حين يذكر غياب عبود العواد واختلاف الآراء حول مدة غيابه عن القرية، وذلك التأويل الذي يقوم في السرد حول تلك المدة فيقول: «تضاربت الآراء والتخريجات في أسباب هذه العودة... ولكن الاختلاف الأعظم بين أهل القرية كان حول تحديد مدة غياب عبّود... فمن قائل بأن المدة كانت عشر سنين... ومن قائل بأنها عشرون سنة، أما مطوع القرية فقال بأنها دهر لا يعلم أمده إلا الله»...

ولكن المسألة المستنتجة هنا أن هناك زمناً ما قد مر وأقل تقدير لذلك الزمن هو عشر سنين كما يشير الراوي وأكثره عشرون سنة، وهي تقنية في تقديم الزمن وجعله غائماً نسبياً، وهذا ما يسمح بدفع الحدث بعد انقطاعه زمنا ما هو أشبه بقفزة إلى الأمام في الزمن تسمح بالنظر إلى الماضي من خلال عيون الحاضر الذي تسرد فيه القصة القصيرة، كما تسمح بتحول الحاضر إلى ماضٍ وبالتالي تقوم القصة على لعبة في الزمن من أحد جوانب تقنياتها، وهي التي تعطي الغياب والحضور معناهما القائم في أفق السرد.

ويشير حسن إلى أننا لا نستطيع تذكر القصة الماضية (الهامات) دون النكوص زمنيا من خلال فعل التذكر الذي يقوم به شخوص القصة فحين يتذكر ابن عباس الجاثي إساءة عبود العواد لوالده إنما تقوم على فعل تذكر يفتح أفقاً في القص للانقلاب نحو الماضي وهي تقنية استخدمها الراوي من أجل ربط الأحداث الحاضرة بماضيها وهي تتحرك نحو الأمام ففي الفعل الماضي سب نجد تلك الانعطافة نحو الماضي الذي يقوم في أفق القص وأفق المتلقي على حد سواء...

«قال أحد أبناء عباس الجاثي الذي نط من وسطه كرش يضاهي كرش أبيه: «لقد عاد العوّاد ليقدم واجب العزاء بوفاة الوالد... فبالرغم من أن عبّوداً قد سبّ والدي... ولمزه لمزاً سيظل يجلل العائلة بالعار والشنار... إلا أن عبّوداً يكن مودة خاصة للوالد من الصعب تحديد كنهها».

لقد قام القاص عبر الراوي بمد تلك التقنية باعتبارها جسرا يمتد عبر القص ليربط الحدث بماضيه ويطفر لتتسلسل القصص كما نراها.

لعلنا نلمس مسألة إيقاف الزمن في القصة القصيرة، والتي تختلف عن الرواية التي يستطيل بها الوصف باعتباره إيقافا لزمن السرد رغم تطابق زمن القراءة مع استطالة الوصف لكن زمن القصة يتوقف بهذه التقنية المباحة أيضا في القصة القصيرة، ولكنها لا تستطيل بشكل كبير بحكم تقلص مساحة السرد الذي يدور على حدث مركزي، ويمكن أن نلمس ذلك الإيقاف للزمن حين يتدخل الراوي ليعطينا معلومة تصف الشخصية وتحدد ملامحها.

«بالمناسبة الناس هنا يطلقون عليه لقب العياذ بالله، فهو لا يعرف سوى هذه العبارة أو تدوير سبحته وتمسيد لحيته».

أو كما في«عباس الجاثي، الذي نصب نفسه ولياً لأمر القرية... يصالح الزوج بزوجته... مقابل لمسة فاحشة مفاجئة فيما يتيسر له من جسد الزوجة دون أن يلحظ ذلك الزوج، ويتظاهر بالاهتمام بأحوال القرية غير أن كل مشاويره في حقيقة الأمر تتلخص في السعي إلي توظيف أولاده الستة البلداء أو البحث عن أزواج مناسبين لبناته الأربع».


أسئلة مشرعة

وقد يكون من المعقول الإشارة إلى تكامل القصة الأولى بشكل يوحي باستقلالها عما يليها، وقيامها باعتبارها قصة قصيرة كاملة الأركان بنسق النهاية المفتوحة. ذلك مما يعطي مشروعية لطرح سؤال حول لماذا القصة الثانية والثالثة، هل إن التكثيف الشديد في القصة الأولى جعل الراوي لا يقول ما يكفيه! ونعرف في النقد أن تكرار الوصف يوحي بأن الراوي ليس لديه جديد يقوله، ولكننا هنا أمام استثمار فني لحدث مركزي يتحول باستمرار من خلال الثلاثية، وبالتالي يكون تكرار الحدث والإشارة إليه إنما يكون من باب المغايرة لا المطابقة كما سبق أن اشرنا.

ولعل ديناميكية انتقال الراوي هي التي فتحت أفقاً نحو استثمار الحدث السابق، ودخول المعقول القصصي في فضاء مكن السارد من نقل الراوي إلى قصة جديدة يتمدد فيها السرد معتمدا على ألفة بالغة بالحدث تستحث الراوي على استثمار البنية الأولى وتغري بإمكانيات لا يمكن الفكاك منها إلا عبر التخلص من عبود العواد بموته في القصة الثالثة.

ولذا نجد أن القصة التي تلي (الهامات) وهي (اعتدال الهامات) تعتمد على تلك المعرفة بالحدث السابق التي كونها المتلقي، وبالتالي يجب أن تظهر هذه المتوالية في مجموعة واحدة ويفرض سياقها تواليها بالشكل التالي (الهامات، اعتدال الهامات، قبر الغريب)... مع أننا نشير إلى تكامل القصة الأولى بشكل يوحي باستقلالها عما يليها، وقيامها باعتبارها قصة قصيرة كاملة الأركان بنسق النهاية المفتوحة

العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً