العدد 893 - الإثنين 14 فبراير 2005م الموافق 05 محرم 1426هـ

الصبر مفتاح الفرج

المنامة - عبدالله الفردان 

تحديث: 12 مايو 2017

تنفس الصباح، وانقشع الظلام، وشقشقت الطيور، وبدأت حركة الناس، وصالح لايزال يدعو وينتحب، وعيناه مغرورقتان بالدموع، ويداه مبسوطتان نحو السماء، واحساساته وآماله للعزيز الجبار، عسى أن يرزقه الولد، ويكون العون في الكبر، ومع طلوع الفجر، حتى بزوغ الشمس هكذا يفعل ويستغفر، ولم يستجب لدعائه رب العباد لما أراد، وزاد صبره، وشدة تعلقه بالدعاء، فابتلاه الله بالأمراض، فضعف حتى صار كالعود اليابس، وأثر في تحصيل قوته، وابتعد عنه الأهل والأصدقاء، وانكب في محرابه، يصلي ويدعو ليل نهار، ويترجى من العزيز الجبار، أن يشفيه من الأمراض، ويبعده عن الأخطار، زوجته "أنيسه" تحن إليه، وتشفق عليه، وتقول له: "أرحم نفسك من هذه المعاناة والأحزان" ولما علم العزيز الجبار، صدق النية، والصبر على البلية، والايمان برب البرية، من دون اليأس والجزع، جاءه الفرج، وبانت على زوجته آثار الحمل بقدرة الله المقتدر، وجاءته زوجته "أنيسه" تزف له البشرى، وثغرها باسم مستمر، فحمد الله ونام ليلته بأمان واستقر، ويكبر الحمل في بطنها بقدر، وفي ليلة قمراء جاءها المخاض فولدت بغلام وجهه كدائرة القمر، فاستعاد صالح قوته، وشافاه الله من المرض فسجد لله شاكرا وابتهل، وتهلل وجهه بالفرح، ويقول وهو مغتبط: "عون من الله لصالح عبده"، وزوجته "أنيسة" قد هللت وكبرت، وهي تلده بالتعب، ثم استغاثت وارتجت، قائلة وطرفها نحو السماء: "ياعون يارب العباد، احفظني واحفظ ولدي"، وبعد الولادة أخذته ولفته بخرقة بيضاء وأعطته إلى والده" فأخذه وقبل ما بين عينيه، وأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اذنه اليسرى، ثم اسماه "عون"، وقال: "عون من الله وعلى بركته"، وسلمه برفق إلى أمه كي ترضعه، فاستلمته بالأحضان، وأخذت ترضعه وهي تسمي عليه بالرحمن، ثم تضعه في فراشه، ويتبادل الزوجان الحديث التالي بشوق ومحبة وصفاء قلب على هذا العطاء الجزيل من الرب الجليل: أنيسة: إن وجود عون بين أحضاننا سيجعل حياتنا الزوجية سعيدة دائمة، تبعث الجمال حولنا، وتنثر العبق الذي يزيد من احساسنا، ويعمق شعورنا بالانسانية.

صالح: صحيح ما تقولين يا أنيسة، إن الحياة من دون طفل تكون فيها السعادة مؤقتة طعمها في أول الزواج لذيذ، وسرعان ما تمر الذكريات الجميلة مخلفة شتاء باردا حزينا، لكن وجود الطفل يخفف وطأة الشتاء القارس، ويغمر البيت دفئا وإلفة، ويبعث الأمل في القلوب، ويوحي للبيت بأن الربيع قد أتى محفوفا بالنماء والازدهار.

أنيسة: صحيح ما تقول يا صالح، الأطفال ذكورا أو أناثا يؤنسون الوحدة، ويذهبون الوحشة، وحركاتهم وتعبيراتهم التي ترتسم على وجوههم، جديرة بأن تجعل الأبوين في غمرة السعادة والابتهاج.

وبينما هما على هذا الحديث وإذا بالجو يتغير، ويغيب القمر، وتختفي النجوم، وتهب الرياح ويشتد البرد، هجوما على الاجساد من دون هوادة، ويومض البرق، ويقصف الرعد، وتهطل الأمطار بغزارة شديدة، وتكون كالبحار المتعالية الأمواج، تجرف الأشياء، وتأخذ الانسان بالخوف والهلع، والأصوات كأنها عواصف زلزالية، ويريد الانسان أن يقف فلا يستطيع كأن الأرض ترتجف من تحت قدميه وفي هذه الأثناء تسقط إجزاء من بناء البيت، يستيقظ "عون" من النوم، ويرفس برجليه، ويضرب بيديه، وقد علا صياحه، وزاد تقلبه في فراشه كأنه الطير المذبوح، ويرتجف البيت مرة ثانية، وتسقط اجزاء أخرى منه فينكب الزوج وزوجته على سرير طفلهما كأنهما صرعى، وكل قد احتضن الطفل، وذرفت الدموع، وذابت حبات القلوب على مصير طفلهما المخنوق من الألم المتقلب جسده بالاحمرار، ووجهه بالاصفرار، وقد زال القماط من جسده ووقع على الأرض، فأصبح عاريا يرتعش ويتقلب وتضربه قضبان السرير من كل جانب ومكان، وأغمي على "أنيسة" وفقدت الاحساس، فتوجه صالح إلى محرابه وجسده مثقل بالهموم والأحزان، وقلبه يخفق كأنه معلق في مخالب طير جارح، ثم يصلي ركعتين لله، ويرفع كفه بالدعاء، ويناجي ويستغيث للقدير المتعال، ثم يغمى عليه وهو في دعائه، فجاءت دعوته مستجابة من العزيز القهار، وتغيرت الأحوال، وتوقف المطر، وانتهى الزلزال وأصبح الوقت صحوا، فأفاق صالح من غشوته، وحرك زوجته واسعفها بما قدر، فتنفست الصعداء، ومدت يديها إلى السماء، شاكرة لأنعمه، وتأملت طفلها الرضيع، وقد حفظه لله من موت أكيد، فأخذته ولفته في قماطه، وأرضعته، وهي تمسح عليه، ثم وضعته في فراشه فنام مستشعرا بالتعب.

الزوجة: هيا أهدم، وأعد بناء البيت من جديد فإنه آيل للسقوط، ولا يحمي النفوس.

الزوج: البيت قديم، والحال ضعيف، وتحصيل القوت قليل، والمصاريف تزيد ونريد الادخار للطفل الجديد، وتربيته وتنشأته وتدريسه بما يليق.

الزوجة: نفد الصبر، وقل الرجاء منك يا صالح، ولا احتمل البقاء معك في هذا البيت العتيق، فدبر أمورك وأرعى شئونك وأعمل ليل نهار لتوفر المال، ولديك الامكان، وإن لم تفعل صارحتك بالخروج من بيتك ولن تجدني أنا وطفلك الرضيع، فأسرع هذا اليوم بوضع الحلول قبل فوات الوقت والندم بما يحصل.

الزوج: كيف أعمل ليل نهار وأضاعف العمل، وأنا لا أملك السبب في مجريات الحوادث وتعقب الأمور، ولا مفر من القضاء والقدر، فعليك قبول صعوبة العيش وقلت الزاد، والبيت لا يسقط على رعيته ما دام فيه نفس وروح المؤمن بالله وأنا إن شاء الله مؤمن بالله وقضائه وقدره، فلا تنزعجي فالرزق على الله ومغير الأحوال هو الله، وعليه اعتمادنا واتكالنا، فاذكري الله "آلا بذكر الله تطمئن القلوب"؟

الزوجة: ونعم بالله، فهو يعطي عبده إذا صبر.

وفي هذه الأثناء، وإذا بطارق يضرب الباب، فأذن له فدخل وسلم وجلس، وبيده صرة كبيرة، وتبدو على وجه هذا الرجل أثار التقوى والورع، وكأن صالح يعرفه عندما كان صغيرا، وكان صديقا لوالده المرحوم، قدم الرجل المؤمن الصرة إلى صالح، وقال له، خذها فهي جمع من الأموال.

قال صالح: أهي هدية، أم قروض مالية؟

قال الرجل المؤمن: لا هذا ولا ذاك ولكنها أموال كانت مترتبة في ذمة آخرين، فكلفني والدك بمطالبة المدينين، وقد مكثت طويلا أجمعها من الناس بصعوبة بالغة، وإذ ان والدك المرحوم قد أنتقل إلى جوار ربه، ولم يخلف أحدا غيرك، فجئت بها إليك، فخذها فهي حلال شرعي إليك، واعذرني لطول المدة.

تنفس صالح الصعداء وأخذها بطيب خاطر، شاكرا للرجل المؤمن صنيع عمله ثم خرج الرجل المؤمن. جلس صالح متربعا، وأخذ يعد الأموال، مبتهجا ويقول لزوجته: المال كثير يبني البيت ويزيد، هذا من فضل ربي.

الزوجة: ما أشد فرحتي، وحبي وتعلقي بالله، فهو الذي يدبر الأمور ويعطي الفقير، ويخفف عن المهموم، ثم تأخذ طفلها من سريره وهي تقف تقبله: يا وجه الخير جاءنا الخير ويقف صالح ويحتضنهما قائلا: "الصبر مفتاح الفرج"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً