قبل وقت قصير بلغ إرنست بيندا سن الثمانين. هذا الرجل الذي تقدم به العمر شغل في السابق منصب رئيس المحكمة العليا أعلى مرجع قضائي في ألمانيا. غير أن ذاكرته مازالت قوية، إذ سرعان ما يتذكر أصعب قرار إنساني اتخذه في حياته الذي كان بالنسبة إليه حكما بالإعدام وكان الضحية رئيس اتحاد أرباب العمل هانز مارتن شلاير الذي وقع بقبضة إرهابيين ألمان في العام .1977
ففي منتصف أكتوبر/ تشرين الأول من العام المذكور تقدم هانز شلاير بدعوى عاجلة أمام المحكمة العليا وكان والده قد اختطف أمام فيلته بمدينة كولون من قبل إرهابيين تابعين للخلايا الثورية للجيش الأحمر وطلب الابن موافقة أكبر مرجع قضائي ألماني على الاستجابة لطلب الإرهابيين أن تفرج الدولة الألمانية عن رفاقهم المسجونين. وذكر الابن في دعواه أن أي قرار آخر سيعرض والده للموت.
وفي جلسة وراء أبواب مغلقة أعلن بيندا قرار المحكمة صبيحة يوم أحد برفضها الدعوى التي قدمها ابن رئيس اتحاد أرباب العمل. بعد أيام عثر على جثته داخل صندوق سيارة. قضية هانز شلاير دخلت التاريخ الألماني الحديث. في ذلك الوقت أكدت ألمانيا عدم استعدادها للرضوخ لابتزاز الإرهابيين الألمان. أيضا شعر الرئيس الألماني هورست كولر وهو يوقع قانونا جديدا يتعلق بالأمن الجوي أنه اتخذ أصعب قرار في حياته.
ونقل مقربون أن يد الرئيس كانت ترتعش حين وقع هذا القانون وطلب من المراجع السياسية والقضائية إعادة التفكير فيه لأنه يشك في احتمال تجاوزه الدستور. أصبح الأمر بيد المحكمة العليا التي ستضطر في القريب العاجل للنظر بملف الدعوى التي رفعها النائب السابق لرئيس البرلمان الاتحادي بوركهارد هيرش ووزير الداخلية السابق غرهارد باوم وعدد من الطيارين لنقض هذا القانون الذي يسمح في حالات خاصة بأن يجري إسقاط طائرات مدنية تعرضت للخطف من قبل إرهابيين لحصر الخسائر ومنعا لوقوع خسائر بشرية أكبر وذلك بأمر من وزير الدفاع الألماني.
وأثار قانون الأمن الجوي غضب جهات سياسية وشعبية كثيرة قالت إن القانون يتجاهل بصورة لا تقبل الشك كرامة الإنسان وتسلبه حقه بالحياة. هانز مالك شركة الطيران "دي بي اي" رودولف فورل أحد أبرز معارضي قانون الأمن الجوي قال في مقابلة صحافية إنه لم يعد يخاف من الطيران بقدر ما يخاف من تسبب القانون الجديد بمقتل بضعة مئات من الأبرياء وكان هذا غير وارد في السابق.
وأوضح فورل أنه أصبحت الإمكانية أكبر لارتكاب خطأ قاتل يسفر عن مقتل مئات المسافرين وقال: تصوروا أن طائرة ما تعرضت إلى خلل فني نتيجة سوء الأحوال الجوية وانقطعت جميع وسائل الاتصال مع برج المراقبة ولم يعد بوسع الطيار أن يحدد مكانه أو لفت الانتباه للخلل الذي وقع في الطائرة وإذا كانت هذه على مقربة من موقع مفاعل نووي فسيصار إلى إسقاطها وهكذا فإن خطر التسبب بمقتل مئات المسافرين نتيجة خطأ أكبر من خطر إرهابي.
وقال فورل إنه يرفض رفضا قاطعا إسقاط طائرة مدنية، وأوضح أنه يقبل ذلك فقط في حال واحدة إذا كان قائد الطائرة وحيدا يقود طائرة خاصة وهناك خطر قيامه بعمل إرهابي مثل تفجير مفاعل نووي فإن هذا أمر يمكن السكوت عليه. وأوضح فورل أن إجراءات التفتيش التي تم تشديدها بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول تردع الإرهابيين عن التفكير بخطف الطائرات وأن هناك أخطارا أكبر لا تعير السياسة أهمية لها مثل تسميم مياه الشرب إذ إن مثل هذا الخطر يلحق أذى أكبر ويلفت انتباه وسائل الإعلام.
وقال هيرش الذي ينتمي للحزب الديمقراطي الحر المعارض إن هذا القانون مناهض لكرامة الإنسان، وأضاف: لأول مرة في تاريخ قانون العصر الحديث تمنح الدولة نفسها الحق ليس بمعاقبة الإرهابيين والمجرمين فقط بل المسافرين المخطوفين أيضا وتتسبب في مقتلهم. وقال هيرش إن قانون الأمن الجوي الألماني الجديد يجعل كل مسافر قادم على طائرة داخل الأجواء الألمانية ضحية تقليدية وأن يلقى حتفه بقرار من الدولة الألمانية.
مما لاشك فيه أن هذا القانون يثير الفزع في نفس كل مسافر بالطائرة في الأجواء الألمانية وحتى الهبوط تكون حياته معلقة بيد وزير الدفاع الألماني. منذ الهجوم على أميركا في 11 سبتمبر شرعت ألمانيا في عمل إجراءات أمنية مشددة. وفي الوقت الذي وقف أعضاء في الحكومة الألمانية بالمرصاد بوجه الرئيس الأميركي جورج بوش بعد أن شعروا من خلال عزمه في العام 2002 على الهجوم على العراق بعد أفغانستان على رغم عدم توافر أدلة تثبت المزاعم الأميركية أن للعراق صلة بـ "القاعدة" وأنه يملك أسلحة دمار شامل، إلا أن وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي الملقب بالشريف الأسود ظل على صلة قوية بكبار المسئولين الأمنيين في واشنطن. وهذا ما كافأه عليه الرئيس بوش قبل أسابيع قليلة مضت، إذ حصلت نادرة في البيت الأبيض حين كان شيلي مجتمعا مع مستشار البيت الأبيض للأمن القومي ستيفين هيدلي دخل عليهما بوش مرحبا بالوزير الألماني ووصفه بالصديق الوفي لأميركا وأثبت ذلك في الأوقات الصعبة التي مرت بها العلاقات بين واشنطن وبرلين.
غير أن قانون الأمن الجوي هذا يعتبر خطوة خطيرة بنظر الكثيرين في ألمانيا الذين يشيرون إلى الأخطاء التي يمكن أن تؤدي إلى كارثة. منذ وقت لفت مسافرون النظر إلى أنهم شاهدوا على مقربة من الطائرات التي أقلتهم طائرات حربية وهناك صور التقطها مسافرون لهذه الطائرات.
في 5 يناير/كانون الثاني الماضي تعرضت طائرتان حربيتان ألمانيتان لطائرة بوينج 737 كانت في طريقها من لشبونة إلى كوبنهاغن، إذ قامتا بمرافقة الطائرة بعض الوقت بعد أن وقع خلل فني في أجهزة الاتصال الخاصة بالطائرة المدنية. أصيب ركاب الطائرة بفزع شديد كما اضطربت أعصاب قائدي الطائرتين لعدم النجاح في ضبط الاتصال. تبين لاحقا أن خطأ فنيا عطل أجهزة الاتصال بالكامل. ويستعين مناهضو قانون الأمن الجوي بهذه الواقعة ومثيلاتها لإقناع المحكمة العليا بأن مثل هذه الأخطاء تحصل باستمرار وخصوصا أن الأجواء تعج بالحركة بصورة أكبر بكثير من الماضي نظرا إلى أن السفر بالجو أصبح أقل كلفة أحيانا من السفر بالسيارة أو القطار وأن هذا معناه التسبب بمقتل مئات الأشخاص بقرار قائم على الشك بأن تكون الطائرة وقعت بأيدي إرهابيين وفي طريقها لتنفجر فوق مفاعل ذري أو وسط مدينة كبيرة كما حصل في نيويورك وواشنطن.
يأمل هيرش أن يقتنع قضاة المحكمة العليا بالحجج التي سيقدمها أمامهم لإلغاء العمل بالقانون الجديد وإذا أفلح في ذلك فلن يكون الانتصار الأول له في المحكمة العليا ضد الحكومة الألمانية. ففي السابق انتصر على الحكومة حين أقنع المحكمة العليا بوقف العمل بقانون استراق السمع على الأفراد في إطار مكافحة الجريمة لأن هذا القانون يسلب الأفراد حريتهم الشخصية، لكن قانون حماية الأجواء أشد خطورة لأنه يسلب الأرواح ويعاقب المجرمين والضحايا في آن معا
العدد 898 - السبت 19 فبراير 2005م الموافق 10 محرم 1426هـ