العدد 898 - السبت 19 فبراير 2005م الموافق 10 محرم 1426هـ

الانتداب الديمقراطي... والصعود إلى الهاوية!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

"لقد سقطت كل الخطوط الحمراء. .. سنلجأ إلى الخارج، نعم نطالب بحماية دولية... انتداب".

الكلام الآنف الذكر هو للزعيم الدرزي اللبناني المعارض وليد جنبلاط غداة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وسط العاصمة اللبنانية بيروت في عملية تفجير إرهابية هي الأخطر منذ توقف الحرب اللبنانية الأهلية المشئومة.

هذا الكلام لن يكون خاصا أو حكرا على لبنان من الآن فصاعدا. إنه كلام قد نسمعه في أية لحظة من أي زعيم معارضة مشابه في أية عاصمة عربية أو إسلامية.

ليس مهما ما هي قناعة الحكام أو الموالين لهم من النخب تجاه هذا التصريح أو ما ستصدر من تصريحات مماثلة على لسان زعماء معارضة جدد قد يظهرون فجأة في المشهد السياسي لهذا القطر العربي أو الإسلامي أو ذاك ما دام المنطق العام الذي بدأ يسود في العلاقات الدولية هو منطق إسقاط مفاهيم السيادة الوطنية والاستقلال وعدم التدخل في الشئون الداخلية والاحترام المتبادل بين الدول، ما يعني بالنسبة إلينا نحن العرب والمسلمين على الأقل السقوط النهائي في "فخ العولمة" عولمة الحدود والسيادة والاستقلال الوطني بما يتناسب ومنطق "نهاية التاريخ" الليبرالي الذي نظر له فوكوياما وتطبقه مدرسة المحافظين الجدد في أميركا اليوم وبدأت تسايره "أوروبا القديمة" في طليعتها فرنسا.

وإلا ماذا يعني أن يدخل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأراضي اللبنانية معزيا بزعيم سياسي "معارض" متوجها إلى دارته مباشرة ثم يغادر ذلك البلد مرددا تصريحات نارية تمس سيادة الدولة اللبنانية وجارتها وحليفتها أو شقيقتها الدولة السورية من دون أن يلتقي أيا من المسئولين اللبنانيين؟!

أيا يكن الموقف من السلطة اللبنانية أو من الوجود السوري في لبنان أو حق المعارضة - أية معارضة في قول ما تشاء بشأن بلدها - وهو من حقها باعتبارها شريكة في تقاسم الغنم والغرم في بلادها، فإن الرئيس الفرنسي أو أي زعيم آخر من أي بلد كان يجب عليه احترام سيادة ذلك البلد وأعراف الدبلوماسية والعلاقات الدولية الحاكمة بين البلدان، وإلا فإن الفوضى ستكون هي البديل وقانون الغاب سيكون هو الحاكم! أليس كذلك؟

اللجوء إلى الخارج والاستقواء به على الداخل سلاح ذو حدين بالنسبة إلى أية معارضة، فهو إن يكن اليوم متوافر في خدمتها ولصالحها لابد أنه سيستخدم ضدها في أول فرصة متغيرة والسياسة فن الممكن وعالم متغير ليس فيه صداقات دائمة أو عداوات دائمة، أليس كذلك؟

أعرف كثيرا من الذين كانوا محسوبين على الموالاة حتى الأمس القريب، بل كانوا اعتاشوا على تقربهم من السلطات الحاكمة في هذا البلد أو ذاك وباتوا اليوم جزءا من المعارضة في بلدانهم أو باتوا مشروع معارضة، يتمنون أن تأتي الفرصة المناسبة ليقولوا ما قاله جنبلاط الذي كان هو بدوره حتى الأمس القريب جزءا أساسيا من الموالاة في بلاده.

سؤالي إلى هؤلاء جميعا هو: عندما تسلمون السلطة بفضل اللجوء إلى الخارج والحماية والانتداب الذي تطلبونه، هل ستقبلون بمنح هذا "الحق" للمعارضة التي ستنشأ على قاعدة تسلمكم العتيد للسلطة، أم ستخونون وترهبون كل من سيلجأ إلى هذا الأسلوب من بعدكم؟! فإن قبلتم بذلك فتلك مصيبة لاشك ستصيبكم في الصميم وإن رفضتم فما فرقكم عن الذين يخونونكم ويرهبونكم اليوم؟! إنه الدور الباطل بعينه، أليس كذلك؟!

قبل أيام فقط اعترف الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في مقابلة له مع مجلة أميركية "مكىم ةمىهمكم زمىم" بأن بلاده "أسقطت الديمقراطيات البرلمانية في إيران في الخمسينات بإسقاط حكومة محمد مصدق المنتخبة... الأمر الذي أوصلنا إلى أن نقع في أحضان صدام حسين ومن ثم نبرر له كل أعماله الكارثية في الثمانينات ونقدم له الدعم الكامل بكل وعينا..." إلى آخر كلامه الذي يتحدث فيه عن بؤس مثل هذه الخيارات الكارثية.

أعرف أن السلطة اللبنانية الحالية ليست حكومة مصدق الإيرانية بالضرورة، ولا المعارضات العربية والإسلامية الراهنة ومنها اللبنانية ليست هي سلطات الشاه البائدة بالضرورة، لكن القدر المتيقن من وجه الاشتراك هو أن الاستقواء بالخارج لن يأتي إلا بتعزيز مصالح ومطامع الخارج إلى أولوية الأولويات في مسار الإصلاح والتغيير الذي تنشده المعارضات. أليس كذلك؟!

اقرأوا ما يكتبه وما يسجله الأميركيون وغيرهم من قوى الخارج التي تسوغ لنفسها اليوم التدخل اللامحدود في بلداننا. إنهم يتخاصمون اليوم فيما بينهم بشأن إهدار أموال دافع الضرائب الأميركي والغربي من أجل إصلاح أو تحسين أو دمقرطة العالمين العربي والإسلامي التي لا تستحق كل هذه الطاقات المهدورة! ذلك لأننا سكان فائضون عن الحاجة مختلفون عنهم في النوعية حتى وإن كنا أكثرية عددية تماما كما صرح قبل مدة أحد أقطاب المعارضة اللبنانية من المسيحيين وهو يقارن بين "جنس" طائفته الأقلية في العدد لكنها الأفضل نوعيا و"جنس" من دمغهم "بتهمة" الموالاة من الأكثرية المسلمة الأدنى درجة في النوعية! ولم يقبل الاعتذار عما صدر منه بل ظل يتفاخر به!

يقول الكاتبان الألمانيان الشهيران هانس بيترمان وهارالد شومان في كتابهما المشهور "فخ العولمة": "إن القرن الواحد والعشرين سيكون من نصيب 20 في المئة فقط من سكان المعمورة الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام. أما النسبة الباقية أي الـ 80 في المئة فتمثل السكان الفائضين عن الحاجة الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير"!

طبعا، كتب المؤلفان هذا قبل 11 سبتمبر/ أيلول ولو قدر لهما أن يكتبا هذا المقطع اليوم لكتبا "بأن النسبة الباقية ستمثل من يجب عليهم الموت والإبادة" ذلك أن الإحسان وأعمال الخير والتبرعات باتت من المحرمات وأعمال الإرهاب في العهد الامبراطوري الجديد لعالم ما بعد 11 سبتمبر، أليس كذلك؟

أعرف أن مثل هذا الكلام لن يعجب الكثيرين من رواد "الإصلاح والتغيير" في بلادنا وسيعتبرونه تنظيرا لصالح الموالاة والسلطات الحاكمة! ومزيدا من البقاء لهم على العرش والحكم، لكن التاريخ والسنن الكونية ومعادلات السياسة والحكم المتبدلة والمتغيرة التي لا تعرف الصداقات والعداوات الدائمة كما هو معروف ستعيد التأكيد لهؤلاء بأن الصعود المدوي الذي يحصل بفضل الاستقواء بالخارج لن يكون إلا بمثابة "الصعود إلى الهاوية".

فاختلال موازين القوى الراهن لصالح قوى الضغط العالمي على حساب قوى الضغط الداخلي ليست دائمة ولن تكون دوما لصالح أصحاب ورواد التغيير نحو الأفضل

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 898 - السبت 19 فبراير 2005م الموافق 10 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً