عندما يكون المبدع قد أتم كتابة نص "أي نص" فإن مهمته تكون قد انتهت بل وأصبح "نصه" ملكا مشاعا للعامة شاء المبدع أم لم يشأ، والمبدع الحقيقي هو من يعي ذلك جيدا ثم من يسلم بأحكام الآخر "ومهما كانت" له أو عليه، أما النقد وبشروط مسبقة فتلك مسألة استثنائية فرضتها أمور غير صحية بل فرضها واقع لا علاقة له بالإبداع البتة، فإذا كان النقد يعني إعادة قراءة النص بشكل جاد وحيادي فإن الحكم عليه يجب أن يكون كذلك، ومن دون الحياد والموضوعية فإن النقد يصبح مجرد ثرثرة "محمومة" لا تقدم ولا تؤخر بل قطعا أضحى النقد محاباة غير ذات نفع الهدف منها الضحك على الذقون أولا وأخيرا ومن أجل أن يخدم النقد "المبدع" فيجب على الناقد أن يكون متمكنا من أدواته النقدية حتى يتسنى له كشف نواقص النص وبالتالي إطلاق الأحكام بشكل منصف وبعيدا عن الانتقاص والعشوائية، أما أن يكون النقد لمجرد ملء فراغ في صحيفة أو لمجرد إثبات عنتريات للآخرين عفا عليها الزمن فتلك برأيي المتواضع ظاهرة لن تستمر وستموت لا محالة طال الوقت أم قصر. والمضحك المبكي في آن واحد هو اننا في غياب الناقد المتخصص وظهور النقد الموجه قد وصلنا بالإبداع وفي جميع المجالات إلى الحضيض تماما وقد صار بمقدور غير المبدعين التبختر بأنهم على القمة دائما وأبدا بينما المبدعون الحقيقيون لا يلتفت اليهم بل أنهم يتعرضون لحملات همجية مغرضة هدفها الأساس النيل من الإبداع نفسه، ومن أنصاف الشعراء الذين خدمهم النقد الموجه وخدمتهم وسائل الإعلام الموجهة أيضا، أولئك من إذا كتبوا محاولة شعرية لا يتجاوز عدد أبياتها ستة أبيات من الشعر الشعبي الركيك ذي الرؤى الضيقة، فردت لهم المطبوعة "التي بدورها لا تفقه من أمر الإبداع شيئا" صفحتين، الصفحة الأولى كمقدمة مطولة لتلك "العصيدة" "التي يجب أن تكون عصماء" مهما كانت غير ذلك على أن تكون الصفحة الثانية لذلك النص "الفلتة" الذي لا ولم ولن يجود به الزمن مثيلا وبذلك تكون عند القارئ الساذج أحكام مسبقة عن النص "وصاحبه المبدع زورا وبهتانا" حتى يخيل له أنه أمام شاعر مبدع لا يضاهى، بينما الحاذقون يعرفون الحجم الحقيقي لذلك "الشويعر" ولكنهم وللأسف الشديد لا يملكون الجرأة لقول آرائهم صراحة متناسين قول أبوالطيب المتنبي الخالد: "رتب الشجاعة في الرجال جلائل وأجلهن شجاعة الآراء"، وإذا حاول ناقد جاد قول رأيه الصحيح/ الصريح بنص من تلك النصوص الهزيلة فستقوم الدنيا ولن تقعد وسيشعر صاحب النص "الرائع والجميل" بالإحباط وبالتالي سيعتبر ذلك خروجا عن الأعراف والتقاليد وأنه يمثل الخطر الحقيقي على مصالح الأمة العليا، ناهيك عن ما يمكن أن يقوم به من حماقة غير محسوبة العواقب تجاه صاحب ذلك الرأي الصادق والرصين معا، لذلك وجب على الجميع محاباة الجميع وغاب النقد الصادق والموضوعي الذي يهدف إلى كشف عيوب النص وتجاوزها وبالتالي الخروج بالنص من شرنقة ضيقة إلى العالم الرحب من دون وصاية من أحد، على أن الضبابية المسيطرة على الشاعر والناقد معا هي من جعل الجميع لا يعرفون ما هو المطلوب منهم تحديدا، ولتجاوز ذلك فإن على الشاعر أن يكون شاعرا وعلى الناقد أن يكون ناقدا "لا أن نضع البيض في سلة واحدة" كما هو حاصل اليوم. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن عميد الأدب العربي طه حسين لم يكن شاعرا ولكنه كان ناقدا ومن الوزن الثقيل ، أما ما زاد الطين بلة: فهو، ما يواجه الإبداع اليوم من خطر "القطرية" الضيقة والمنغلقة على سواها إذ أصبح الكل مشدودا "لمواطنته الضيقة" راميا خلف ظهره بكل جميل وللتدليل على ذلك يكفي أن يشاهد المرء القنوات الفضائية العربية ليرى بأم عينيه كيف يسوق الكل بضاعتهم "غير الرائجة" حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالموروث الرائع للأمة قاطبة.
وأخيرا أقول وباختصار شديد ان أصدق ما يمكن أن يقال في هذا الزمن الرديء هو أن الإسفاف والغوغائية والارتجال هي أبرز المسميات التي يجب أن تطلق على هذا الزمن المنحط والذي سيكون من خلاله بمقدور أي شخص امتلاك مجموعة من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في آن واحد وبالتالي سيعمل ذلك المغفل الذي يدعي أنه مبدع لا يضاهى على نشر مزيد من الادعاءات التي لا تمت للإبداع بصلة
العدد 918 - الجمعة 11 مارس 2005م الموافق 30 محرم 1426هـ