العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ

رفيق الحريري... وداعا

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

"وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون" "البقرة:52".

لست استغرب كل هذا الحب الذي أظهره الشعب اللبناني والشعب العربي وشعوب العالم التي عرفته عن بعد لـ "الشهيد الرئيس رفيق الحريري".

لست استغرب أبدا أن يمنح شعب ضاربة جذوره في عمق التاريخ، تضربه الويلات الواحدة تلو الأخرى ويقف شامخا متحديا كل المصائب غير مكترث بهجومها الشرس الناتج عن جراثيم فكرية تهدف إلى تمزيفه شر ممزق تأتيه من خارجه، ان يمنحه كل الحب. لست استغرب أن تتدافع الجموع لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الشريف. إنها تودع رجلا عرف طريقه في الحياة العملية ونجح في حين فشل الآخرون، إنها تودع رجلا استثمر نجاحه في خدمة شعبه ووطنه ونجح أيضا نجاحا منقطع النظير.

لا تربطني بدولة الرئيس رفيق الحريري أية رابطة وليست لي معرفة مسبقة به لا من بعيد أو قريب قبل العام 5891. عرفت أنه رئيس وزراء لبنان القادم من السعودية، إذ كان متميزا بين رجالات أعمالها الكثيرين. عرفت انه رجل عصامي من رأسه إلى أخمص قدميه. عرفت أنه محبوب من كثير ومحسود من كثير. أشياء أخرى كثيرة لا تدغدغ العقل الناضج إطلاقا. عرفت "رفيق الحريري" الرجل الذي عرف كيف يوظف رأسماله الفكري قبل رأسماله المادي في خدمة لبنان وطنه وفي خدمة شعبه. وتأتي هذه المعرفة صدفة حين اختارتني "جامعة بوسطن" التي كنت ضمن طلبتها لنيل شهادة الدكتوراه لاستقبال دفعة أولى من الطلبة اللبنانيين الذين تبتعثهم "مؤسسة الحريري الخيرية" للدراسة في الولايات المتحدة على حسابها الخاص. كان لي الشرف حقيقة أن أقوم باستقبال شباب لبنان القادم من أرض أثخنتها الجراح. كان لي الشرف أن أستقبل شبابا لم يعرف طول سنين شبابه سوى الحرب والدمار والنار، لم يعرف سوى صوت القنابل والرصاص.

كانت تلك الباقة المنوعة من شباب لبنان من كل طائقة من طوائفه: مسيحيون من جميع الطوائف المسيحية، مسلمون من مختلف الطوائف الإسلامية: شيعة وسنة ودروز وغيرهم. كانت باقة تنظر إلى المستقبل: مستقبل لبنان قبل مستقبلها. كانت جميعا إناثا وذكورا لديها هدف واحد حين وجه إليها السؤال عن هدفها المستقبلي: "العودة لبناء لبنان". لم يكن هاجس هؤلاء هدفا من أهدافهم الخاصة. كانوا إلى جانب ذلك ممتلئين حماسا ومنه الكثير الحماس السياسي.

في سنة دراستهم الأولى تميز هؤلاء الطلبة جميعا ودرسوا بإخلاص، وأشاد بهم الأساتذة وكذلك الجامعة. انخرطوا في فعاليات الجامعة وتفاعلوا مع الناس في المدينة التي تفتخر بـ "جبران خليل جبران" وتبرزه في ميدان يحمل اسمه وهو من أفضل الميادين قاطبة في الولايات المتحدة. شربوا القهوة وأكلوا الحمص والفول وسمعوا صوت السيدة أم كلثوم والسيدة فيروز في "مقهى الجزائر" بحي "هارفرد" الذي يحتفى فيه هناك بأحرار الجزائر وأحرار الأمة العربية. دخلوا المساجد والكنائس والمآتم وأقاموا الشعائر.

في تلك السنوات الصعبة على الامة العربية لم يكن هناك رجل فكر في مستقبل بلاده كما فكر "الفقيد الشهيد رفيق الحريري"، لم يكن هناك إنسان أرسل عددا بهذا الكم والكيف إلى خارج الوطن ليتلقى علما ينفع فيه بلاده كما فعل الحريري. في تلك السنوات الصعبة من حياة الامة عرفت الحريري رجلا يستحق المعرفة ويستحق الإشادة بعمله الرائع هذا.

وداعا دولة الرئيس رفيق الحريري أقولها وإني أشد العارفين بأني لا أودعك لا روحا ولا جسدا، لأنك باق في ضمير الأمة التي تحتضن بلايين الدولارات في محافظها الاستثمارية وغير الاستثمارية وكثير من مواطنيها يفترش المقابر إذ لا مكان آخر يأويها وإذ ملايين من أبنائها يفترش الصحراء ويلتحف السماء حيث لا غطاء ولا غذاء، لا أقول وداعا وأنت الحي من بين كثير من أصحاب الأموال الذي نثرته من دون أن تخاف الفقر مما جنته يداك على كثير من المحتاجين في الوقت الذي تعجز حكومات لها ما لها من السلطة والأجهزة والمال أن تجاريك في عطائك لا المادي فقط بل المعنوي أيضا. أقولها وأنا شاهد على عطائك من بعيد وشاهد على عطاء حكومات عربية تنثر الكثير من المال في تشريد مواطنيها واعتقالهم ودفن طموحاتهم معهم أحياء.

لتكن واثقا يا دولة الرئيس بأنك باق في عقول من استثمرت في مستقبلهم من شباب لبنان، وإنك باق ما دام لبنان والامة العربية باقية مرفوعة الرأس تنشد المستقبل في أبنائها كما نشدته أنت وكما نشده الأحرار من أمثالك.

إلى جنة الخلد يا دولة الرئيس ولك منا جل الاحترام

العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً