العدد 937 - الأربعاء 30 مارس 2005م الموافق 19 صفر 1426هـ

بين دموع جابر ونبوءة علي

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ملايين من المشاة الذين ظهروا فجأة على شاشات الفضائيات الجديدة، رأيتهم أول مرة في العام ،1973 في استراحة على الطريق من مطار بغداد إلى كربلاء. سألت الوالد رحمه الله: لماذا لا تقف لهم السيارات لتوصلهم؟ فرد على تلميذ الصف السادس الابتدائي: حتى لو وقفت لهم السيارات فانهم لا يركبون، فهم يذهبون مشيا على الأقدام.

ومن كل القرى والمناطق والمحافظات العراقية، يأتون زحفا نحو الصحراء التي حولتها دماء الشهداء إلى مقصد للزائرين. بعضهم يمشي يوما، وبعضهم يقطع المسافة في عشرة أيام. يأتون رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا يدبون على الأرض أو يحملهم ذووهم على الأكتاف، كلهم يقصدون زيارة الأربعين، تأسيا بالصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري "رض"، رفيق الرسول في جهاده الطويل، إذ كان أول من زار الحسين وصحبه في صحراء كربلاء بعد أربعين يوما من مصرعهم. ولأنه كان كفيفا جاء متوكئا على عصاه، يقوده دليله عطية العوفي إلى قبر الحبيب، فلما وصل جثا وأخذ يخاطب الشهيد النائم تحت التراب: "حبيب لا يجيب حبيبه..."، وبكى. ربما طافت بمخيلته صور قديمة، لطفل كان قبل خمسة وخمسين عاما، يركب على ظهر جده محمد "ص" أثناء سجوده فيطيل السجود حتى إذا فرغ حمله وأخذ يناغيه... واليوم أصبح أشلاء مزقتها حوافر خيول الأمويين، ورأسه على رمح ينكث الخليفة ثناياه بمخصرته في الشام. وظل جابر مع جماعة من الهاشميين ينوحون ثلاثة أيام على سيد الشهداء.

قبله بعشرين سنة، مر على هذه الأرض علي بن أبي طالب، عميد بيت الشهداء، في طريقه من عاصمته الكوفة إلى صفين، فوقف يتأمل الأطلال في "كور بابل" وأطلق تنهدة حزينة وقال: "هاهنا محط ركابهم، هاهنا مهراق دمائهم"، ولما سأله أصحابه عن مقالته الغامضة أجاب: "ثقل لآل محمد "ص" ينزلون هنا". ولم يفهم الناس النبوءة إلا بعد مصارع الأكرمين في أرض الطفوف.

وكما وقف جابر وعلي، وقف التاريخ طويلا باكيا خجلا على أبواب هذه المدينة، يستعيد ذكرى من ثار لأجل القيم والحق وحرية الانسان، ويترنم بحكايته الخالدة.

وعلى مر العصور، كانوا يأتونه زحفا من البلدان القصية، يحيون ذكراه كل عام، في احتفالية لم يحظ بمثلها أحد في العالمين، لأنه ببساطة لم يقدم أحد مثل تضحياته إلا النبيين.

في فترات الهدنة العابرة، كانوا يأتون ليشموا عبير الكرامة في أزمنة السكون. مرة جاءت قوافل الزائرين، وكان فيها العالم الديني الكبير الحلي يرافقهم طلبا للمثوبة واستجابة لنداءات الأئمة المتواترة بالحفاظ على هذه الزيارة، حتى قال عنها الإمام الحادي عشر الحسن العسكري "ع" إن إحدى علامات المؤمن زيارة الأربعين. وكان مع المرجع الحلي ولد نبيه يرافقه، فعبر عن عدم رضاه على إضاعة وقته في المشي الطويل بمرافقة الجموع، فلم ينهره الأب الكبير وإنما مد يده إلى رحله وأخرج أوراقا وأشار إلى ما يؤلفه في الطريق وهو راكب على دابته.

ولم تكن العصور كلها تأليفا فوق ظهور الدواب، فكم من عصور متجهمة أقامت السدود في وجه هذا التيار الهادر، مرة بفرض الأتاوات والمكوس، ومرة بقطع الأكف والأعناق. ولأنهم لا يتحملون رؤية المنارات المضيئة، أجروا الماء على القبر ليطمسوا آثاره من الوجود وليزيلوا الآثار من مسرح الجريمة إلى الأبد، ولكن الشاعر المرهف أخذ قبضات من تربة ميدان المعركة يلثمها، حتى وصل إلى القبر فشم فيه عبير الشهادة فصاح:

أرادوا ليخفوا قبره عن وليه ولكن طيب القبر دل على القبر

وهكذا لم يسلم الثوار حتى في مثواهم الأخير، ولم يمل الطغاة من المطاردة... حتى أسلمت قافلة الأشقياء زمامها إلى طاغية العراق الأخير، الذي حاصر جنة الشهداء بدباباته ورفع عليها شعار: "لا شيعة لأهل البيت بعد اليوم".

حتى هذه الدبابات لم تدفع الجموع عن لقاء الحبيب، فكانوا يأتون في زمن الطاغية متسللين إلى كربلاء، بين المزارع والبساتين، وكانت الشرطة تطاردهم وتقنصهم بالرصاص. ثلاثون عاما ما توقف الرصاص وما انقطعت الجموع. الدرس الذي ألقته زينب في مجلس الطاغية الأول، لم يفقهه الطاغية الأخير بعد أربعة عشر قرنا: "فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين... الحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة"

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 937 - الأربعاء 30 مارس 2005م الموافق 19 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً