العدد 962 - الأحد 24 أبريل 2005م الموافق 15 ربيع الاول 1426هـ

الحوار... حتى لا نبكي على اللبن المسكوب!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

لقد بات واضحا للجميع أن الحاجة إلى علاج المسألة الدستورية أصبح موضوعا يلقى تجاوبا من جميع الفرقاء، حتى صارت الرؤى والمواقف بشأنه جدية أكثر من ذي قبل، بل إن الحديث عن أهمية الإصلاحات الدستورية أصبح أكثر تواترا وأقل خجلا وأصبح الجميع يتحدث عن ذلك في الصحف، وفي الندوات واللقاءات المباشرة بشكل لم نعهده سابقا.

من جهة أخرى فإن المراقب يلاحظ أن أعضاء مجلس النواب الذين صمتوا عن هذه المسألة طويلا، قد وجدوا أنفسهم أمام الحقيقة وجها لوجه، فاختار بعضهم أن يتجاهلها، واختار آخرون أن يغمضوا عيونهم ويصموا آذانهم، على طريقة لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم! لكن بعضا آخر من النواب فضل أن يمعن النظر وأن يفتح عقله وقلبه للحوار مع الآخرين وأن يتواصل معهم لإيجاد حل مشرف للمسألة الدستورية، وكأن لسان حاله يقول: حتى لا يكون حالنا كحال الثعلب الذي دخل جائعا وخرج أكثر جوعا!

هل تقاربت الرؤى، أم أن بعضا من النواب صارح نفسه فوجد أن "إنجازات النواب" لم تقنع أحدا، وأن صبر الشارع قد بدأ ينفذ! هل هناك إيعاز من جهة ما قريبة من سلطات القرار؟ جهة رسمية قدرت بأن عجز النواب عن تحقيق أي شيء في السنوات الأولى قد يؤدي إلى تراجع الإقبال على المشاركة في الانتخابات العامة المقبلة قريبا، هل حدث التوافق الذي بدأ مستحيلا بين من دخل البرلمان وبين من قاطع البرلمان بشأن التعديلات الدستورية وأهميتها؟ فهدأت الحراب وعادت السيوف إلى جرابها، وفضل الجميع لغة العقل والحوار؟ كل هذه الأسئلة بحاجة إلى إجابة قبل أن ينسكب اللبن وينتهي الحلم!

البلد تنام على توتر، وتصحو على توتر آخر! حتى أصبح شغل كثير من القيادات السياسية والاجتماعية الرسمية والمعارضة، التنقل من موقع إلى آخر لإطفاء توتر هنا، أو وأد فتنة هناك، أو إخماد حريق في مكان آخر قبل أن يستشري وتصعب معالجته.

انظروا إلى الوزراء والمسئولين في المملكة، وهم يتخلون عن كثير من وقارهم وأناقتهم، فيتنقلون من مكان إلى آخر، يتحاورون مع رجل الشارع في مشهد لم تألفه عين منذ سنين، حققوا النظر فيهم وهم يبذلون الكثير من الجهد حتى يقنعوا المواطنين الذين يقابلونهم في أماكن لم تطأها أرجلهم من قبل، فإذا بهم ينزلون لها، يزورونها وكأنهم يكتشفونها لأول مرة، ومن ثم يطلقون الوعود بإيجاد حلول سريعة، وما يلبث أن يعود الوزير أو المسئول إلى مكتبه حتى تجد أن هناك قرارا في طريقه للتنفيذ.

تابعوا حركة بعض الرموز السياسية، وهي تتنقل من احتفال إلى آخر ومن ندوة إلى أخرى ومن لقاء إلى لقاء، تسعى جاهدة لأن تخفف من التوتر، تزرع الأمل بقرب الفرج وانتهاء الأزمة، والانطلاق نحو الاهتمام ببرامج التنمية والتطوير والتحديث، ثم دققوا النظر إليهم وهم يحاولون ألا تفلت الأمور من أيديهم، وألا يعود الشارع إلى الفوضى والمعارك الجانبية.

راقبوا المشهد جيدا، سترون أن بعضا من المصابين بالانفصام وحب البروز وشخصنة الأمور والدفع بها نحو الطأفنة قد وجد ضالته في هذه المساحة الفارغة المتوترة، فراح يصب الزيت على النار، في مسعى واضح لركب الموجة حتى يحقق لنفسه أمجادا غابت شمسها وأفلت، لكنه وجد ضالته في انقطاع الحوار فراح يدس السم في العسل، ويلقي بعواهن الكلام في غير محلها، تماما كالذي يريد أن يرى جنازة فيشبع نفسه لطما وبكاء ومناحة، محاولا أن يكون أول من يأخذ العزاء في فقيد لم يعرفه أبدا!

شاهدوا جلسات مجلس النواب، واحسبوا كل كلمة يقولونها، ثم سجلوها وزنوها بميزان من ذهب، ستجدون أن كثيرا من النواب، لا يتكلم في الهواء وأنه صار متمرسا في إلقاء اللائمة على الوزراء، الذين صاروا أشد تمكنا في التصدي للنواب والرد عليهم بالأدلة القاطعة، من دون أن يفقدوا حس الدعابة أو اللجوء إلى لغة الأرقام.

إنها اللحظات الفاصلة بين أن نبني حلما أو نخسر كل شيء، لذلك كله كان لزاما علينا جميعا أن نهب واقفين على أرجلنا، نحفظ هذا الوطن ونبحث عن مخرج مناسب يعفينا من الإحراج أمام أنفسنا وأمام العالم الذي يراقبنا، وأمام كل من يقدمنا ويرانا نموذجا للانفتاح والتسامح والحرية والانسجام، والتواصل والديمقراطية.

غدا إذا أثبتنا عجزنا عن تجاوز هذه الأزمة، لن يترحم علينا أحد، سيقولون لنا بكل بساطة: "على نفسها جنت براقش"، ثم يبحثون عن غيرنا ليقدموه نموذجا بديلا، حينها لن تنفعنا علاقات حسن الجوار، والعلاقات المتميزة مع الدول الكبرى، وسجلنا المتميز في تبييض السجون وإلغاء التفرقة بين الرجل والمرأة، ولن ينفعنا التنوع الإثني والاعتراف بالأقليات في مجلس الشورى، كما لن تنفعنا الاتفاقات الاستراتيجية، واتفاقات التجارة الحرة العالمية.

لماذا لن يكون كل ذلك نافعا؟ لأنه لا يعتمد على الاستقرار الذي يوفر قاعدة لكل شيء. نعم، من دون استقرار لا توجد تنمية، ومن دون استقرار لا تأتي الاستثمارات ولا تفتح الشركات الكبرى فروعها ومصانعها، ومن دون الاستقرار لن يهدأ بال المواطنين أيضا.

ماذا علينا أن نعمل لكي نضمن أن شيئا مما نتخوف منه لن يحدث؟ سؤال آن لنا أن نجلس سويا للبحث عن إجابة شافية له! دعونا نترك التعنت والعناد، ونتنازل قليلا عن مواقفنا المتشنجة، لأن البلد بلد الجميع، وإذا غرق لن ينجو أحد، كل سيتضرر بقدر ما يملك، وبقدر ما يطمح ويأمل أيضا.

نحن في البحرين نمتلك حصافة ورؤى ثاقبة، وقدرة على التواصل والتسامح بعيدا عن التشفي والشعور بالنصر أو الهزيمة، لأن البلد إن عاد إلى المربع الأول سنكون جميعا مهزومين، لكن بإمكاننا أن نكون جميعا منتصرين، إن نحن رجحنا لغة العقل والحوار وتبادل الأفكار.

ولتحقيق ذلك يجب أن نعترف جميعا بوجود المشكلة أولا، ثم نبحث سويا عن حل لهذه المشكلة، ليس بالضرورة أن يفرض أحد الأطراف رأيه كاملا، وليس بالضرورة أن يتراجع أحد الأطراف عن مواقفه كلها، نحن نحتاج إلى توافق وتبادل أفكار وتفاهم، حتى نستطيع أن نضع حلا يرضي الجميع بقدر أو بآخر.

ليس هناك من يريد أن يكسر هيبة الدولة، ولا ينبغي أن يفكر أحد في ذلك، وليس هناك من يريد أن يرجح مصالح طائفة على أخرى، ولا ينبغي أن يفكر أحد في ذلك، وليس هناك من يريد أن يثبت صحة مواقفه كلها، ولا ينبغي أن يفكر أحد في ذلك، وليس هناك من يريد أن يحرج الجمعيات المعارضة ويخرجها من اللعبة السياسية، ولا ينبغي أن يفكر أحد في ذلك. إذا نحن جميعا معنيون ومطالبون بالتوصل إلى حل لهذه المعضلة، المسماة بالخلاف بشأن المسألة الدستورية.

أعتقد أن الحل أكثر بساطة مما نتصور، ذلك أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من وجود إرادة سياسية لدى جميع الأطراف ترغب في الحل، ولنتذكر الوضع ما قبل الميثاق بأيام، حين توافرت الإرادة السياسية واللقاءات المباشرة والنوايا الحسنة، انفرجت أزمة كادت أن تودي بالبلاد والعباد إلى غير رجعة وبادر الجميع إلى المشاركة في التصويت على الميثاق، وصار لدينا توافق على الميثاق بنسبة غير قابلة للتصديق لكثير من المراقبين، لكنها كانت إرادة الجميع، نعم للميثاق بنسبة 94,8 في المئة.

نحن نستطيع العودة إلى هذه النسبة، ونستطيع أن نتباهى بها مرة أخرى إذا قبلنا بالجلوس إلى مائدة الحوار الوطني، وهنا يجب الإشارة بوضوح إلى أن المقصود بمائدة الحوار الوطني هو دعوة جميع الفرقاء إلى الحوار المباشر، مع الابتعاد عن التصيد والتزييف في عدد ونوعية الوفود الحاضرة ومدى تأثير هذه القوى التي يجب ألا تبالغ كثيرا فيما تمثله أو ما تطلبه، بل يجب على الجميع أن يكون متوازنا عقلانيا، ومرنا في الحوار وفي تقبل وجهات النظر الأخرى.

وحتى تكون هذه الدعوة صادقة وذات أجندة قابلة للتطبيق، فإن على جميع الفرقاء أن يقوموا بإعداد فريق من الخبراء الذين يتمتعون بقدرة على تجاوز الحساسيات السياسية، ويركزوا عملهم على الجوانب العملية لحل وحلحلة المسألة الدستورية، تمهيدا لإقرار ما يتوصلون إليه من قبل السياسيين من دون أي شعور بالنصر أو الهزيمة، مع التأكيد أن الحوار بين الحكومة والمعارضة ليس بدعة نبتدعها في البحرين، بل هي أسلوب تنادي به الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمواثيق الدولية كافة والأعراف الدبلوماسية والسياسية. أخيرا، الوطن بحاجة إلى فتح نوافذ الحرية والحوار قبل أن ينسكب اللبن، وتضيع جميع الأحلام، حينها لا ينفع البكاء... ولا عزاء للوطن

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 962 - الأحد 24 أبريل 2005م الموافق 15 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً