العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ

أطباق أندلسية وأمنيات مغربية

بحريني في البرتغال (2)

المحرق - محمد حميد السلمان 

11 أغسطس 2010

كان الفضول هو ما دفعني للسؤال عن سبب وجود طاقم من الفتيات في أعمال الزراعة والبلديات وسط لشبونة وفي عمق مناطقها الأكاديمية. وكان الجواب أن معظم سكان المدينة هم من الإناث ذلك لأن المجتمع البرتغالي - ولسبب لا يعلمه أحد - معظمه أنثوي وليس ذكوري ومما يزيد في الأمر حيرة أن معظم الذكور البرتغاليين مهاجرون وليسوا مقيمين بصفة دائمة في البلاد، بينما المهاجرون بصفة شرعية أو غير شرعية هم من يتواجدون في البرتغال بصفة دائمة، وحتى هؤلاء معظمهم من نساء إفريقيا. ولهذا تجد أن معظم الأعمال خصوصاً في أماكن الخدمات العامة وليس المصانع الأيدي العاملة بها من النساء. وفعلاً فقد لاحظت أن المطاعم والكافتيريات والمقاهي العامة والمكاتب والمكتبات الثقافية والأرشيفات التاريخية التي أقصدها للبحث عن وثائق البحرين أو عندما كنت هنا للدراسة العام 2001؛ معظم عامليها هم من الإناث. أضف إلى ذلك أن الأسرة البرتغالية كي تحافظ على أنثاها من اللعب مبكراً خارج الزمن الأخلاقي - وهذه مشكلة اجتماعية مقلقة في البرتغال للواتي لم يبلغن سن المراهقة تحديداً- يتم الزج بهن في غياهب العمل البسيط ذي الربح غير المجزي هنا وهناك حتى لو كانت الشئون البلدية من قمامة وشئون زراعة ومطاعم وغيرها. وهنا يطرح هذا المثل أيضاً في البيئة البحرينية التي بدأت تعاني من كثرة الإناث وبقائهن دون عمل لسنوات طويلة مع أنهن يحملن شهادات عالية وبعضهن بتفوق وليس كالبرتغاليات اللواتي أشرت إليهن فهن بسيطات في تعليمهن.

كان ذلك هو الفاصل الذي توقفت عنده في الجزء الأول من حكاية بحريني في البرتغال للمرة الخامسة كما بدأته آنفاً. وحتى لا نبق في محيط دائرة واحدة مغلقة في هذه الرحلة دعونا نتنقل كالفراشات بين أزاهير برتغالية وأمنيات صيفية.

* تمتلك مدينة لشبونة خصائص مدن الموانئ الساحلية باعتبارها ولدت بجانب شاطئ نهر (التاجة) أو (Rio Alntejo). ويقع الجزء التاريخي من مدينة لشبونة داخل منطقة يطلق عليها اسم ( السور الإسلامي - Cerca Mouro ) وهو جزء رائع ومبهر للسياح بعمرانه الإسلامي المميز جداً.

* تعرفت على موقع الجامع الكبير في لشبونة والذي يطلق عليه Mesquita) Aljama) من بعض الأخوة الجزائريين عندما كنت في مهمة الدراسة لأول مرة، وصرت كلما أحط رحالي في المدينة أزور الجامع للصلاة فيه. وكان أول صلاتي في هذا الجامع في شهر رمضان، حيث يجمع معظم المسلمين في لشبونة ويقدم لهم بعد الصلاة وجبة الإفطار وبعض المأكولات في الشهر الكريم فقط.

وعند محطة الأطباق البرتغالية الأندلسية، إن صح التعبير، جرّب أن تقف في المناطق السياحية وسط لشبونة أمام مطاعم ومقاهي مثل (روسيو، السنترو، كايشا دي باشيو، ماركيز دي بومبال) وغيرها، فستجد هنا كافة أنواع الحلويات العربية بجانب القهوة العربية والتركية في الكافتيريات والمطاعم المنتشرة هناك، ولا تنسَ أن تتذوق كعكة (الأرز) بشكل خاص والمعروفة عندهم بـ (Dios De Aros). وتغلغل رائحة المطبخ العربي الإسلامي في الناحية الغذائية البرتغالية يعود لمرحلة مجتمع الأندلس العربي الإسلامي. لذا يمكن أن نقارن بين أوصاف العادات المذكورة في الدلائل الأندلسية وبين صفات إعداد الأطعمة في أوروبا العصور الوسطى والتي وصل الكثير منها كما هي إلى المطبخ البرتغالي اليوم بل إن بعضها من أطباق رمضان أساساً مثل الحلويات والطواحن المغربية. لدرجة أن أحد البرتغاليين ألف كتاباً عن تأثير عادات المسلين الغذائية والمطبخ العربي على البرتغاليين وسماه (Os Gatos) وتعني (القطط).

* ذات مرة احتجت لخياطة أحد أزرار القميص كي لا يسقط، فسألت عن ذلك، فقالوا: اذهب إلى (Alfaiate)، قلت لهم: أي الخياط، قالوا: نعم. وهنا اكتشفت تأثير إسلامي عربي آخر حتى في مهنة الخياطة، بل إن كلمة (الجلباب) تستخدم أيضاً في مجال الأزياء لدى البرتغاليين باسم (Algibabe) وكذلك «الجبة» الإسلامية (Algibeira). كما حدث بلا حرج عن مدى عظمة التأثير الإسلامي في فن العمارة عندما تتجول في المناطق البرتغالية القديمة وسط السوق وتحديداً في الأحياء الشعبية ومنها منطقتي (Mouraria- Alfama). و(الفاما) منطقة مستمد اسمها من (الحمي) أو الحمامات، ذلك لأنها كانت مركز الحمامات الساخنة. وكذلك عندما تتوجه إلى (Alentejo) أو الجرف (Algarve)، في كل تلك المناطق ستشاهد واجهات المنازل والشرفات، بل إن البيوت الريفية المتفرقة في منطقة (Alentejo) ماتزال تحتفظ بكثير السمات الخاصة بالبيت المغربي التقليدي (لقبائل البربر). وهناك ظاهرة غريبة تجدها في البرتغال، ولست أدري هل هي إسلامية أم مستمدة من مصر الحديثة فقط، حيث صار من المتعارف عليه مشاهدة عملية نشر الغسيل اليومي في واجهات النوافذ والشرفات، وذلك لاعتماد معظم سكان المدن البرتغالية على الشقق في السكن. والمضحك أكثر أن صور تلك الثياب المعلقة، حتى وسط أسواق العاصمة، صارت من معالم المدينة السياحية ولذا تجدها مرسومة أو مصورة في كثير من البطاقات السياحية أو بطاقات التهاني والمناسبات الوطنية، كما هو واضح في الصور المرفقة!!

* وطالما كنت في البرتغال أو حتى في إسبانيا وأنت عربي حتى النخاع؛ لابد وأن تتذكر ماضي أجدادك أينما حللت في تلك المناطق. بل إن البرتغاليين أنفسهم يشعرون بذلك لأن الأمر مازال يعيش بين ظهرانيهم بما تحمله الحياة اليومية من تلك التأثيرات الإسلامية في الحياة البرتغالية اليومية والثقافة عموماً.

ففي مجال القانون والوظائف الإدارية فمازالت التأثيرات العربية موجودة منذ عرفناها من البرتغاليين أثناء تواجدهم في هرمز الخليجية، مثل استخدام مصطلح (Alcaid) وهي باللفظ الانجليزي (Commander) أو القائد بالعربي. المشرف (Almosarf)، Coja (خواجه - كبير التجار) (Bahar) وحدة زمن التوابل والبهارات آنذاك، قافلة (Caffila) وأصلها فارسي. كما في البحر وأسماء السفن قديماً تجد اسم (Grab) وهي مأخوذة من اللغة العربية (غراب) وتطلق على سفينة بشكل غراب وتطلى باللون الأسود وكانت تزن 300 طن، بالإضافة لكلمة (جزيرة Jazirat)، وكلمات أخرى مثل:

- ( Khu>r) الخور (شريط المياه العميقة عند السواحل).

- (Nokhoda) النوخذة، وهي كلمة فارسية وتعني قائد السفينة في الخليج.

- (Shahbandar) وهي فارسية وتعني المسئول التجاري للميناء.

- (Ushur) وتعني ضرائب الموانئ وكانت تؤخذ على السفن في هرمز وعدن ومسقط وغيرها.

- (Xerafim) وهي عملة الأشرفي الذهبية وهي كانت متداولة في مملكة هرمز والهند وساحل عُمان وأصلها مملوكي من مصر.

- (Alca>cova a>rabe) القصبة العربية، وغيرها.

بل حتى في الموسيقى البرتغالية ما زالت الآلات تحتفظ باسمها العربي، أضف إلى ذلك أنواع الرقص الشعبي التراثي في الريف البرتغالي مثل رقصة (Mouriscas) وتعني (العربيات أو المسلمات).

* وعندما تتجول بين مكتبات السوق لتشتري كتاباً تخصيصاً أو آخر للتسلية ستقرأ عن التأثير العربي في الأدب البرتغالي بشكل كبير وخاصة في الشعر البرتغالي كما في أشعار (لويس دي كامويش) و(فرناندو بيسوا)، وهما من أشهر شعراء البرتغال من عصرين مختلفين. وكذلك هناك تأثير آخر بمقارنة بعض القصائد الغنائية البرتغالية الغالية (من جنوب فرنسا) وبين كتاب (الألحان لابن قزمان). بل إن المفردات المستخدمة في الغناء مثل صور (الحبيب) أو (الرقيب) تؤيد هذا القول.

* ولا يمكن أن أزور البرتغال دون أن يشدني التفكير والسؤال عن منطقة (Fatma) فاطمة، على الرغم من أني زرتها أكثر من مرة وكتبت عنها دراسة وتحقيق مطول بالصور التي التقطتها في الموقع نشر على حلقتين في «الوسط» في السنة الأولى من صدور الصحيفة. فقط أذكر هنا بأن منطقة فاطمة في شمال لشبونة هي قرية صغيرة وادعة على هضبة زراعية ومازالت محتفظة باسمها العربي الإسلامي «فاطمة» وهي منطقة مقدسة لدى المسيحيين الكاثوليك بالذات ويقومون بالحج إليها سنوياً في 13 مايو و13 أكتوبر حيث يمارسون هناك كافة طقوس الحج المسيحي باعتبار أن المنطقة مباركة دينياً لأنها... (فاطمة).

• كانت أمنيتي أن أزور مدينة سبته أو كما يسميها البرتغاليون (Ceut) وهي اليوم تتبع إسبانيا بعد أن استولت عليها الإمبراطورية إثر ضم البرتغال للتاج الإسباني العام 1580 وحتى العام 1640 فيما سمي في التاريخ البرتغالي بمصطلح «ستون عاماً في الأسر». وكان هدفي من تلك الزيارة سياحي وتاريخي، ذلك لأن هذه المدينة التي تقع في أقصي الشمال الشرقي من المغرب، كانت أول أرض عربية إسلامية تسقط في يد البرتغاليين العام 1415 وفي أول نجاح لخطواتهم الاستعمارية الانتقامية لملاحقة المسلمين في عقر دارهم بعد طردهم من بلاد الأندلس نهائياً والذي بدأ من سقوط «أشبونة» 1147 إلى سقوط غرناطة 1492. كان هدفي من زيارة «سبته» لأنها تمثل أول موقعة لبدء الحروب الصليبية في جزئها الثاني - الأول كان ضد المشرق وبالتحديد الشام ومصر في القرن الحادي عشر - ضد المغرب العربي حيث شاركت عناصر أوروبية عديدة في جيش الملك البرتغالي الذي قام بغزو المدينة وهو (D. Joo I) أو «جون الأول». كانت حملته صليبية أوروبية بالفعل فقيادتها برتغالية ومقاتليها من بريطانيا، ألمانيا، بولونيا، فرنسا، والبرتغال. كانت أمنيتي أن أزور سبته وشقيقتها «مليلة» لأنهما مازالتا ترزحان تحت الاحتلال الإسباني بعد البرتغالي حتى اليوم مع أنهما من الأراضي العربية المغربية، وهكذا علمنا العرب في طريقة المحافظة على أراضيهم حتى آخر الزمان!

كانت أمنيات... وللأسف لظروف عديدة في هذا الزمن المتلوّن، ستبقى أمنيات وفي النفس شيء من حتى... ومازالت روح العروبة تحاكيكم في كل بقعة برتغالية...

العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً