العدد 2904 - الأربعاء 18 أغسطس 2010م الموافق 08 رمضان 1431هـ

«مأزق الحداثة العربية... أم مأزق الحداثة الأوروبية؟» (1 – 2)

قراءة في كتاب...

في كتاب صدر حديثاً عن «مركز دراسات الوحدة العربية» تحت عنوان «مأزق الحداثة العربية من احتلال مصر إلى احتلال العراق» (مارس/ آذار 2010)، يطرح الصديق الباحث سعد محيو السؤال القديم/ الجديد نفسه: لماذا تعثر مشروع النهضة العربية أو، بتعبيره، مشروع الحداثة العربية، طيلة ما يقارب 200 عام؟

حسب صياغة القرن التاسع عشر كان السؤالُ: «لماذا تأخر العرب؟»، ولكن في ضوء كلا الصياغتين ظلت الإجابة واحدة تقريبا بلا تغيير؛ أسباب التعثر والتأخر إما أنها بسبب عناصر خارجية وإما أنها بسبب عناصر داخلية. ولكل جواب أنصاره بالطبع، فمن قائل بتغليب العناصر الخارجية، وتحديداً الاجتياحات الغربية المتوالية لمشروعات النهضة العربية، ومن قائل بتغليب العناصر الداخلية، وتحديداً بنية الحضارة الإسلامية التي يزعم مستشرقون وموالون لهم بألسنة عربية أنها معادية لما يسمونها «الحداثة» بالمعنى الغربي الذي لم يضعه الباحث موضع تساؤل، رغم ضرورة التأكيد على خصوصيته أينما ورد لضرورات بحثية، ورغم انكشافه عن مجرد مصطلح مضلل «يبطن استراتيجيات سيطرة وهيمنة» كما يقول الباحث نفسه.

حسب الباحث، لا يوجد جواب مقنع حتى الآن، أي لا جواب تُحسم في ضوئه «جملة من القضايا دفعة واحدة، سواء كانت في هذا الاتجاه أو ذاك، لا على الصعيد المفاهيمي وحسب، بل وعلى صعيد برامج العمل التنفيذية»، إلا أنه كما يبدو حسم في مسألة واحدة قبل أن ينطلق في بحثه، وهي أن هذا السؤال، سؤال النهضة المتعثرة وسؤال «الحداثة»، لم يعد بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أي بعد الانهيار الغريب والدرامي لبرجي التجارة في نيويورك (الحدث الذي لم يأخذ بتفسيره الرسمي الأميركي إلا الإعلام العربي وحده بينما ظل خلافياً حتى في الأوساط الأميركية) سؤالا عربيا فقط بل وأصبح السؤال الأول في الغرب، وتحول من مجرد مقاربة استراتيجية إلى سؤال معرفي. ومن هنا استدخل في وسط النقاش حول التأخر والتعثر، «مشكلة» الإسلام كنقطة محورية وحيدة، جرياً وراء الصور التي صاغها الآخر الغربي للأنا العربية منذ زمن طويل. ومن دون أن يلاحظ الباحث أنها ترجع إلى التعامل الاستشراقي الذي نظر إلى ثقافتنا من منظار وحيد هو منظور الإسلام، وكون لنفسه صورة أعاد تصديرها إلينا، فحواها أننا مسلمون وطنا ودينا، وأن سر تأخرنا وجهلنا وانحطاطنا وتخلفنا هو الإسلام، ثم أضاف إليها لوناً جديداً أطلق عليه اسم «الإسلام الفاشي».

الخطورة في هذا التمحور حول المفاهيم الغربية، أو التسليم «بمنطقيتها»، هو إبعاد الأسئلة عن محاور الصراع الحقيقة؛ محاور تحرير الإنسان وعقله وأرضه، عن مجال البحث في أسباب التقدم والتأخر، وحصرها في التحديد الغربي للمشكلات العربية ـ الإسلامية الذي يستبعد مفهوم «الصراع» مع نزعة الآخر الغربي إلى الهيمنة، ومع قوى التبعية، ويحل محله مفاهيم مثل رفض «الحداثة» أو قبولها، والفعل ورد الفعل، ويجعلنا ننخرط في سجالات عقيمة كانت من سمات عصر النهضة في الدفاع عن الخصوصية والهوية، وتأطيرهما إما لقبول «الحداثة» الغربية أو رفضها، والآن، إما لقبول صورتنا «كإرهابيين» وبالتالي تلقي العقاب الغربي، أو التبرؤ منها بالالتحاق بقواته الضاربة وفي طليعتها قواته الصهيونية.

***

سؤال المنهج له الأولوية بالطبع في بداية أي مشروع بحثي طموح مثل هذا، يذهب إلى تقصي أسباب إخفاق النهضة أو التحديث إلى عمق 200 عام. وقد أحسن الباحث منذ البداية في ملاحظة الحاجة إلى منهج «متعدد الرؤوس والاختصاصات، ثقافي بقدر ما هو اقتصادي، فكري بقدر ما هو استراتيجي، وفلسفي بقدر ما هو تاريخي، وسياسي بقدر ما هو انثروبولوجي، ومحلي بقدر ما هو عالمي». أي ان أدوات التحليل ستكون من كل هذا مجتمعة، فتأخذ بطرف من هذا وطرف من ذاك وفق حاجة الباحث إلى الجمع بين الأسباب الداخلية والخارجية على صعيد واحد وتحديد أدوارها. ولكن المنهج ليس أن نأخذ بتعددية المنظور، ولا في العودة إلى الوراء، إلى تاريخ نختاره لنشوء الظاهرة، فقط، بل هو أيضا آلية تناول ونقاش نقديين، وليس عرض وجهتي النظر فقط، وعرض الوقائع كما هي. وهو أيضاً رؤية للعالم وظواهره، أو فلسفة بمعنى من المعاني. هناك فرق بين رؤية تنظر إلى الظواهر التاريخية كسلسلة من اللقطات الساكنة في فيلم وبين رؤية تنظر إليها كدراما متكاملة يحضر فيها الماضي في الحاضر، كما يحضر المستقبل، متحركة مأخوذة بحركيتها لا بسكونها. وهو أيضاً تحديد «الإشكالية» وعناصرها، بعيداً عن الأخذ بمراجع عدد ضئيل من كتاب الغرب ومؤرخيه فقط، وإهمال مراجع أساسية مثل كتاب أنطوان زحلان: «العرب وتحديات العلم والتقانة: تقدم من دون تغيير»، أو كتاب جوزيف حجار: «أوروبا ومصير الشرق العربي: حرب الاستعمار على محمد علي والنهضة العربية»، أو كتاب ف. ب. لوتسكي: «تاريخ الأقطار العربية الحديث»، أو كتاب نصر حامد أبوزيد: «النص، السلطة، الحقيقة: الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة»، على سبيل المثال لا الحصر.

مما يشفع لهذا النهج في التناول، نهج الرحلة الزمنية في تاريخ تجارب الحداثة العربية على هذا المدى الزمني الطويل نسبياً، ان هدفه متواضع. إنه لا يسعى كما يقول الباحث إلى جواب صارم ومباشر، بل إثارة نقاش جدي في اتجاه انهاء الانقسام حول الحرية والتحرر، والتنمية والوحدة، والهوية والوطنية، ودور الأمة الجديد في العالم الجديد، والذي بدأ يتبلور الآن على أيدي عمالقة آسيا.

يكتشف هذا النهج برؤوسه المتعددة، بتلخيص الباحث نفسه، ثلاثة أمور في الإشكالية العربية:

أولاً: ليس هناك في الواقع طبعة إسلام سياسي واحد، بل عدة طبعات، ولذا ليس سليما الحديث عن توجهات إسلامية بالمطلق.

ثانيا: يظهر المشهد التاريخي العربي - الإسلامي على حقيقته؛ إنه مشهد يشير إلى أن العالم الإسلامي، والعربي منه بخاصة، يعاني منذ القرن الثالث عشر من حروب أهلية بين التقليديين والحداثيين، ووصلت هذه الحرب ذروتها مع احتلال نابليون لمصر، فكانت هذه بداية جديدة لهجمات شنها التحديثيون على معاقل التقليديين، تلازمت مع محاولتهم الخلاص من السيطرة الأجنبية.

ثالثاً: يفيدنا هذا المنهج في تصفية الحساب مع نزعة خطيرة هي إحلال البعض في الغرب التأبيد التاريخي محل التحليل التاريخي لظواهر الحضارة الإسلامية. وهو ما يعني في نظرنا نبذ نظرة التيار الاستشراقي المهيمن إلى صورة عالمنا العربي - الإسلامي كصورة أبدية لا تتغير، وبخاصة في جوانبها السلبية.

هذه الكشوفات الثلاثة، وفي ضوء قراءة الباحث نفسه لتجارب إخفاق مشروعات التحديث، بدءا من تجربة محمد علي في مصر، وانتهاءً بتجربة جمال عبدالناصر، ووصولاً إلى ما بعد ذلك، أي إلى مرحلة «العربي التائه» بتعبير الباحث في الفصل الأخير، ينقصها كشف رابع تدفع إليه هذه القراءة نفسها، وهو ان المشهد العربي ـ الإسلامي، وبدءا من أواخر القرن الخامس عشر على الأقل وحتى القرن العشرين ظل يتعرض لاجتياحات غربية مدمرة واحتلالات متواصلة، تارة بحجة «الحرب المقدسة»، وتارة بحجة «تحديثه»، وتارة بحجة «تحريره»، وتارة بحجة «نشر الديمقراطية» في ربوعه، وتارة بحجة إلحاقه «بالعولمة» شفقة عليه ورحمة به. إن غياب هذا الكشف يجعل المنهج «المتعدد الرؤوس» يكتفي بعرض بعض الوقائع والوقوف دون الوصول إلى نتائجها التي تستلزمها منطقيا.

***

يسجل الباحث في مقدمته عرضا تنويريا للمتغيرات العالمية من حولنا، عودة الحضارات الشرقية القديمة والعريقة إلى مرحلة الفعل التاريخي بعد غياب قسري فرضته هيمنة الإمبراطوريات الغربية طيلة حقبة امتدت نحو خمسة قرون، مشيرا بذلك إلى عودة الصين والهند واليابان، وبروز مجموعة العشرين ذات الاقتصادات الصاعدة، وانحسار الغرب، إلا أنه يلاحظ أن هذه الصورة تبدو زاهية بالنسبة لمعظم العالم الإسلامي أكثر مما هي زاهية بالنسبة للوطن العربي. «فالشرق الأوسط العربي» حسب تعبيره، يتخبط في لجج أزمات داخلية عاتية ونكسات خارجية، وأدى هذا إلى دفع العرب إلى ما يسميها «حافة الانتحار»، بحروب أهلية مشتعلة وصراعات طائفية ومذهبية وكراهية للذات (التنكر للهوية العربية). إلا أن تغير العوامل الخارجية قد عبد الطريق أمام بلورة مشروع نهوض قومي عربي جديد متحرر من أخطاء الماضي (التخبط بين أولوية الحرية والتحرر، التنمية والوحدة) ومفتوح على معطيات الحاضر الديمقراطية وحقوق الإنسان والاتحاد الاقتصادي.

ويعتقد الباحث أن مثل هذا الطريق سيكون ناقصا من دون دراسة تجارب التحديث العربية على امتداد قرنين، وتحديد العوامل الداخلية والخارجية في جعل العرب على ما هم عليه.

من هذه النقطة تبدأ فصول الكتاب التسعة، وعلى رأسها فصل «ظاهرة العنف الانتحاري» ويلخصه تحت عنوان «ظاهرة بن لادن»، التي يعتبرها نتاج تشوه الحداثة في السعودية ودول الخليج تحديدا وأزمات الهوية والإخفاقات القومية والاغتراب عن العصر. مشيراً، في رد كما يبدو على تحليلات غربية، إلى أنها أعقد من الأوصاف التبسيطية التي تجعل منها مجرد تجل من تجليات الإسلام. إنها في نظره تعبير كاسح عن أزمة «الحداثة» التي زادها دخول العولمة تفاقماً، وهي حصيلة نصف قرن من «تحالف الديمقراطيات الغربية مع الأصولية الإسلامية».

ويرجع الباحث أزمة «الحداثة» لدى العرب إلى تفسير يبدو له مقنعاً، وهو أن العرب تعرفوا في الواقع على نمطين من «الحداثة» الغربية، لا على نمط واحد؛ فهناك نمط «حداثة» عصر الأنوار الغربي الذي شهد إعلاء قيمة الإنسان، ونشر العلوم وتحرير العقل، وهناك «حداثة» ما يسميها الثورة المضادة التي انقلبت على قيم عصر الأنوار، وبرزت بوصفها دعوة إلى إخضاع كل الكتل البشرية في العالم لسطوة الاستعمار الغربي. وهذه «الحداثة» الثانية هي التي رفضها العرب، وهي التي أفشلت المشروع الليبرالي العربي والحداثة العربية بالتالي كما يقول. ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن التمييز بين «حداثتين» غربيتين صحيح شكلياً، أي من حيث كونهما تباين ألوان في سياق تطور واحد من دون قطيعة، فهناك في هذا السياق «حداثات» متنوعة، بل وهناك طبعة»ما بعد - الحداثة» في السنوات الأخيرة، ولكن في العلاقة بالوضعية العربية لم تتمظهر «حداثة» عصر النهضة الأوروبية ثم عصر ما يسمى الأنوار في صورة مختلفة عما تلاها من حداثات غربية. ولعل أول ظواهر «حداثية» شهدها العرب في العصور الحديثة ممثلة «بحداثة» عصر النهضة ثم الأنوار هي إحياء نزعة الحروب الصليبية في القرن الخامس عشر وتقسيم الكرة الأرضية إلى نصفين، نصف غربي من نصيب الإسبان، ونصف شرقي من نصيب البرتغال (مرسوم بابوي في العام 1494) وكنا من نصيب البرتغال قبل أن تتبعها أسراب الذئاب الغربية الأخرى. وتحت رايات هكذا «حداثة» تم غزو حوض المحيط الهندي وقطع شرايين الحياة عن الوطن العربي، وبداية استعمار سواحله، أي محاصرة هذا الوطن تمهيداً لغزوه ثم احتلاله وتتبيعه قطعة قطعة في مسيرة امتدت زمنيا على مدى القرون الخمسة الماضية.

مفهوم «الحداثة» كما يرد في هذا الكتاب ملتصق بسياقات معينة خاصة. فمؤرخ مستشرق مثل «برنارد لويس» يرجع المواجهة الاسلامية للغرب، ليس إلى عداء لمصالح معينة أو أفعال أو سياسات أو حتى بلدان محددة، بل إلى «رفض الحضارة الغربية»، تلك التي تقف ممثلة للحداثة في نظره، أي أن العرب يرفضون «الحداثة»، ولذا بات «أمن النظام العالمي والعولمة يفرض الإتيان بالشرق الإسلامي مرة واحدة وإلى الأبد إلى عالم الحداثة». وهو ما يبلور معناه بوضوح «جون لويس غاريس» الذي يتحدث عن وجود استراتيجية كبرى لتغيير الشرق الأوسط بأكمله وجلبه إلى الحداثة، ويبرر به «فؤاد عجمي» الحروب الغربية التي يزعم أن دافعها «تحديث العالم العربي». هذه الادعاءات ما كان يجب على الباحث أن يمر بها مرورا سريعا. صحيح أنه لاحظ في سطر واحد أن هذه التنظيرات «تستبطن الآراء والأفكار الساعية إلى السيطرة والهيمنة»، ولكن هذه الملحوظة لم تدفعه إلى مجادلة هذا الفهم الخاص جداً «للحداثة»، مثلما دفعت باحثا آخر من الولايات المتحدة الأميركية هو «هنري ليو» الذي أوضح بجلاء أن هذه المصادرة للحداثة، أو «اختطاف الحداثة» التي ينفرد الغرب في تحويلها إلى نقيض لحداثة التقدم الأخلاقي والتنوير والعلم، تجعل الحداثة سمة خاصة حصرا بالغرب اعتمادا على الخلط بين التقدم التقاني والتقدم الأخلاقي في الحضارة الإنسانية. فحسب مفكري الغرب النرجسيين هذا من جنس ذاك، بينما الأمر على خلاف ذلك. فتحت لافتة الحداثة الغربية برزت الكثير من الأفكار البربرية، وأوضحها النزعة العنصرية. فما هو نوع «حداثة» تحكم على الثقافات غير الغربية اعتباطاً بأنها وضيعة؟ وما هو نوع هذه «الحداثة» ذات النزعة المركزية العرقية؟ وهل هناك حداثة بالمعنى الحضاري تبنى على القوة العسكرية والقنابل الذكية وأسلحة الدمار الشامل؟ كل هذا كما يرى «هنري ليو» «ليس مسيرة نحو الحداثة بل هو تراجع إلى الوراء نحو البربرية».

العدد 2904 - الأربعاء 18 أغسطس 2010م الموافق 08 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً