العدد 1015 - الخميس 16 يونيو 2005م الموافق 09 جمادى الأولى 1426هـ

المفكر الشارد والصوفي المتشرد

الإمام الغزالي. .. جامع العلوم "4"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خيم القلق فوق الخلافة العباسية. وتحت مظلة الخوف من الاغتيال السياسي واصل الإمام الغزالي وظيفة التدريس في "نظامية" بغداد، وتواصلت علاقاته السياسية مع الخليفة الجديد المستظهر بعد رحيل السابق "المقتدي" في العام 487هـ "1094م".

لم يعد الغزالي الآن ذاك الشاب الباحث عن موقع. فالموقع حصل عليه وبرز في مهنته كأستاذ ناجح. كذلك تبوأ مكانة مرموقة كمفكر دولة يدافع عن مصالحها ووظائفها. والأمر الأخير وضعه في دائرة الاستهداف السياسي من خصوم الخلافة من مختلف تياراتهم المذهبية والعقائدية. فالغزالي الذي حظي برعاية الخليفة المقتدي وخليفته المستظهر نجح في تأليف سلسلة كتب فكرية "فلسفية" بتكليف منهما للرد على الفرق الباطنية والمذهبية والمدارس الفلسفية وغيرها من اتجاهات واجتهادات وتيارات.

اطلع الغزالي الذي جمع مختلف العلوم على معظم كتابات تلك الفرق وتعرف على مناهجها وتعقيداتها الفكرية وتوصل إلى كشف مفاتيحها النظرية مستخدما أدوات معلمه إمام الحرمين الجويني. وبسبب اتساع معارفه وتنوع مداركه أنتج في فترة لا تتجاوز السنتين مجموعة كتابات لاقت شهرة ورواجا في عصره وترجمت لاحقا إلى اللاتينية واستخدمها فلاسفة أوروبا في مطارحاتهم وسجالاتهم حين تحولت إلى مصادر كلاسيكية في نقاشات التيارات الفلسفية التي انتعشت في تلك القارة عشية نهضتها. إلا أن أبرز الكتب هي تلك التي تناولت "مقاصد الفلاسفة" وبسط فيها آراء الفلاسفة وشرح مناهجهم ومدارسهم وصولا إلى كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" الذي انتقد فيه آراء الفلاسفة وتخبطهم وتضاربهم وتهافت نصوصهم التي كشف فيها الكثير من التعارضات والتناقضات بين الفارابي وابن سينا.

خلال تلك الفترة الغنية بالتنقيب والبحث والكشف والرد على الباطنية والفرق الإسلامية والتيارات الفلسفية ازدادت شدة الضغط السياسي على مركز الخلافة، وارتفعت المخاوف من احتمال اختراق فرق الاغتيالات بغداد وتنفيذ بعض العمليات السياسية ضد العلماء والمفكرين وقادة التدريس في المدرسة النظامية. فالغزالي الآن لم يعد مجرد أستاذ مدرسة يمارس مهنة بتكليف من الخليفة بل تحول إلى معلم يتمتع بوجهة نظر لها الكثير من المريدين والأتباع. فهو الآن من أئمة المفكرين وحجة في الإسلام ومن كبار علماء الدين. ومثل هذه المكانة ستكون عرضة للاغتيال والهجوم المضاد من الخصوم السياسيين والعقائديين وتلك المعارضة المسلحة التي تقودها فرق الحشاشين.

آنذاك وتحديدا في العام 487هـ حصلت مجموعة تطورات ملفتة تلت وفاة المقتدي وتولي المستظهر الخلافة مكانه، أهمها رحيل الحاكم الفاطمي المستنصر بعد أن حكم مصر مدة 60 سنة وهي الأطول في تاريخ تلك الدولة. إلا أن المهم ليس رحيل المستنصر عن حكم مصر وإنما نجاح زعيم جناح الفرقة النزارية في الحركة الإسماعيلية الحسن الصباح في تأسيس دولة "الحشاشين" المستقلة في خراسان متخذا من قلعة ألموت مركزا لدعوته في العام 487هـ. فهذه الخطوة ستنقل فرق الحشاشين من دوريات "مجموعات صغيرة متنقلة" تحترف الاغتيال السياسي كأسلوب لإرهاب الخصوم إلى مؤسسة تراتبية تعتمد التنظيم الهرمي في إدارة الفرق وتوجيهها من مركز واحد.

نجاح "الحشاشين" في انتقالهم من مجموعات متحركة إلى طور تأسيس دولة مستقلة أثار الفزع في الخلافة، وزاد من قلق الغزالي الذي واصل مهنة التدريس ومهمة الرد على الباطنية والفرق الإسلامية بتكليف من الخليفة المستظهر. فالغزالي الذي مضت عليه أربع سنوات في بغداد مواصلا عمله الفكري والمهني بانضباط ومن دون انقطاع وجد نفسه فجأة في موقع صعب ووضع نفسي لا يحسد عليه. وبسبب هذه الضغوط النفسية والقلق والشك العقائدي الذي عصف به أصيب بمرض شديد فانعقد لسانه وعجز عن النطق.

هناك الكثير من الكتابات والتحليلات التي تدرس مرض الغزالي النفسي - الذي وصفه في كتابه الرائع "المنقذ من الضلال" - في محاولة منها لشرحه وتأويله وتفسيره. وكل تلك القراءات اعتمدت وصف الغزالي مضافا إليه تلك التعليقات الشامتة التي صدرت من خصومه وخصوصا ما صدر من كلمات ساخرة من ابن كثير في كتابه التاريخي. واتفقت مجموع تلك التعليقات والتحليلات على ربط عقدة لسان الغزالي التي دامت ستة أشهر بالشك الذي ساوره في تلك الفترة من كثرة اطلاعه على كتب الفلاسفة والباطنية. فتلك القراءات ربطت أزمته النفسية بالمنهج الفكري الذي اتبعه في الإحاطة الكاملة بكتب الباطنية والفلاسفة "درسها في مدة سنتين" ثم قام بتفكيكها والرد عليها في سنتين في كتابين شهيرين. فهذه القراءات ربطت العقدة بالمسألة الدينية وظهور الشك عند الغزالي على اليقين الإيماني. إلا أن المسألة أبعد من ذلك وأعقد من موضوع تعرض معتقده الديني للضياع ودخول الشك عقله وقلبه. المسألة أهم، وأساس حصولها يتأتى من الخوف على حياته وقلقه السياسي واضطراب حياته اليومية من احتمال قيام فرقة من الحشاشين باغتياله بذريعة عقائدية ولأسباب تتصل بعلاقاته المميزة مع السلطة ودوره في قيادة السجال انطلاقا من موقع مفكر الدولة.

مفكر الدولة الآن بات في موقف حرج، فهو لا يستطيع الاستمرار في مهمته الرسمية ولا يقوى على البقاء في بغداد يمارس وظيفة التدريس متخفيا أو بعيدا عن سيوف فرق الاغتيالات. وبسبب وضعه القلق أصيب الغزالي بتلك الأزمة النفسية "عقدة اللسان"، فقرر اعتزال العمل نظرا إلى إحساسه بأنه مستهدف من قبل دولة الصباح.

تصادف حصول العقدة النفسية بعد تأليفه الكتابين ضد الفلاسفة إلا أنها ليست نتاج الشك الذي يساوره بعد تأليفهما. فالعقدة كانت سياسية وليست فكرية ولا صلة لها بالنقص الذي أصاب منسوب إيمانه ويقينه الديني. فالعقدة ربطت لسانه حين قويت شوكة فرق الحشاشين وظهرت دولة ابن الصباح. وبسبب توجسه وتصاعد قلقه وارتفاع نسبة مخاوفه أصيب الغزالي بذاك العارض الصحي المؤلم فانهارت أعصابه وفقد القدرة على النطق.

عادت الذاكرة بالغزالي خلال فترة مرضه النفسي إلى فترة طفولته الشقية وزاد الحنين إلى تلك المرحلة التي تميزت بالبساطة حين عاش حياة متواضعة في أسرة فقيرة أشرف على رعايتها وتربيتها أحد رجال الصوفية بعد رحيل والده. فالإمام هو في النهاية ابن أب متواضع وزاهد ومطواع وملتزم بتقاليد الصوفية، كذلك صديقه الفقير الذي اعتنى به بعد رحيل الأب.

الصوفية إذا كانت الحل، والعودة إليها كانت المخرج العملي للهروب من الواقع السياسي المعقد والمضطرب. وحين وجد الغزالي الحل/ المخرج قرر الإمام تقديم استقالته من وظيفة التدريس في النظامية تاركا المهمة لشقيقه الكبير أحمد.

ارتاح الغزالي الآن من تلك المهنة الرسمية وقرر مغادرة موقع مفكر الدولة والاندفاع بقوة إلى مرحلة المفكر الحر/ المستقل مستخدما الصوفية واسطة ووسيلة ومنهجا وهدفا في حياته التائهة بين منازعات تتجاذبه وفضاءات مضطربة أخذت تحيط بالخلافة من خراسان إلى روما "الفاتيكان".

حين استقال الغزالي من منصبه خوفا، قرر مغادرة بغداد في العام 488هـ "1095م" هربا من هواجس خيمت عليه ورفعت من حدة توتره الداخلي فشرد في الصحارى والبراري هائما ينتقل من مكان إلى آخر ويقتات على ما يتوافر لديه من صدقات. فالطفولة الشقية عادت إلى ذاك المفكر "حجة الإسلام" بقرار منه وبرضاه. فالرحلة إلى الصوفية جاءت واعية هذه المرة وبطلب منه، ومن شروطها كما قال لاحقا هي الممارسة. فالصوفية ليست نظريات فلسفية وإنما هي نمط في الحياة يعتمد الزهد والتواضع والتقشف. فهي رياضة نفسية.

غادر الغزالي بغداد شاردا متشردا في السنة التي دعا فيها البابا اوربان الثاني ممالك أوروبا إلى الزحف على بلاد الشام و"انقاذ" القدس من المسلمين. وبين لحظات ضياع الغزالي ودعوة البابا إلى الحرب لقتال المسلمين مضت سنة واحدة بدأت بعدها حملة الفرنجة "الصليبية" الأولى في عهد الخليفة المستظهر في العام 489هـ "1096م"

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1015 - الخميس 16 يونيو 2005م الموافق 09 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً