بناء على طلب من المخابرات الأميركية تم بتاريخ 19 مارس/ آذار 2002 مداهمة مكاتب مؤسسة خيرية إسلامية في مدينة سراييفو وزينيكا. أبرز ما عثر عليه وصودر مجموعة من أقراص الكمبيوتر، كتب على أحدها باللغة العربية: تاريخ أسامة. تبين للمحققين بعد طبع عشرة آلاف صفحة أنهم حصلوا على كنز ثمين، فقد بات بأيديهم معلومات قيمة عن تاريخ تنظيم "القاعدة" لما في المحتويات من تقارير عن لقاءات سرية ورسائل بخط أسامة بن لادن وصور. بعد وقت قصير وصل إلى سراييفو عملاء من الـ "سي آي إيه" يحملون جوازات سفر دبلوماسية نقلوا كل شيء معهم إلى الولايات المتحدة: تاريخ "القاعدة" من نهاية الثمانينات حتى مطلع التسعينات. في ذلك الوقت كان أسامة حليف الأميركيين حين كان يخوض حرب الجهاد ضد المحتلين السوفيات على أرض أفغانستان. وعثر عملاء "سي آي إيه" أيضا على قوائم بأسماء أشخاص قدموا تبرعات سخية لـ "القاعدة"، بينهم وزيران سعوديان وعدد من رجال الأعمال إضافة إلى اثنين من أشقاء أسامة.
بالاتفاق مع القاضي ريتشارد كيسي تم في يناير/ كانون الثاني الماضي توجيه دعوات إلى عدد من أقارب بن لادن للمثول أمام المحكمة استجابة لطلب المحامي الأميركي المعروف رون موتلي، وقبل كل شيء أشقائه الذين يديرون مجموعة شركات بن لادن في جدة. من يرغب في الحصول على فكرة عن تاريخ أسرة بن لادن، ينبغي عليه البحث عن أفرادها الموزعين بين جنيف وواشنطن ولندن، لكن أشهرهم موجود في مكان ما على الحدود الطويلة بين أفغانستان وباكستان.
بالنسبة إلى مدير قسم مكافحة الإرهاب السابق في الـ "سي آي إيه" فنسنت كانيسترارو، فإن الصلة لم تنقطع نهائيا بين أسامة بن لادن وأسرته، فـ "الدم لا يتحول إلى ماء" كما قال. في هذه الأسرة يبقى الأخ أخا، ولأسامة 25 شقيقا و29 شقيقة وصهر، إضافة إلى عمات وأولاد أسامة الـ 15 على الأقل. والهدف الذي يسعى له المحامي موتلي ربما الحصول على أموال الأسرة.
الأمي الذي امتلك العقارات
كان بكر بن لادن البالغ 58 عاما من العمر صاحب نفوذ واسع في جدة لكنه نادرا ما يظهر في العلن. وإذا قرر تناول الطعام في مطعم فإنه يحجزه لنفسه. وجدة المكان الذي أقامت فيه أسرة بن لادن صرحها ومنها ظهر أسامة. وتتهم الولايات المتحدة أيضا صهره محمد جمال خليفة بتحمل مسئولية اعتداءات وقعت خارج أراضي المملكة. أب الأسرة الكبير محمد بن لادن كان أميا حين ترك بلده الأصلي اليمن، ولم يتعلم القراءة والكتابة. وبدأ العمل في تطويف الحجاج ثم أنشأ شركة خاصة به. بعد ظهور النفط عقد صلات وثيقة مع كبار المسئولين وبدأ صعوده من خلال شركة العقارات. وفي ذلك الوقت بدأت موجة تعمير واسعة في أراضي المملكة. في العام 1956 أنجبت له زوجته السورية طفله السابع عشر أسماه أسامة. بعد عشر سنوات ولد طفله رقم .54 في العام 1968 توفي الأب بعد تحطم طائرة صغيرة. ولفت أسامة الأنظار إليه داخل أسرته منذ عامه العاشر، إذ كان يعتبر لعب كرة القدم منافيا للإسلام. والتحق بعد سنوات بكلية الاقتصاد في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وراحت الأسرة تتوزع في مناطق العالم.
سالم، شقيق أسامة درس في بريطانيا وتزوج من ابنة أسرة بريطانية أرستقراطية وفي العام 1972 أصبح مديرا على شركة والده. وعقد صلات وثيقة مع شركات أميركية وكان مقربا من أسرة بوش. وطبقا لبيانات المخابرات الفرنسية ساعد سالم إدارة الرئيس رونالد ريغان في عملية تمويل جماعات الكونترا في نيكاراغوا. وفي العام 1988 قتل سالم في حادث تحطم طائرة قرب ولاية تكساس وخلفه شقيقه بكر في منصبه. في العام 1979 حاول متشددون السيطرة على مكة وكانوا قد طالبوا بوقف التعاون مع الغرب، وكان أسامة في ذلك الوقت مندمجا مع المجتمع السعودي لكن شقيقه محروس كان على صلة بالمتشددين. لا أحد يعرف ما إذا زود الذين هاجموا مكة بخريطة البناء ليسهل لهم التحرك والانسحاب، لكن الشاحنات التي استخدمت كانت شبيهة بشاحنات تملكها شركة بن لادن، وتم على الأثر اعتقال محروس وأفرج عنه لاحقا لعدم ثبوت الأدلة ضده.
في العام 1979 بدأ صعود أسامة بن لادن الذي حصل على تأييد واسع حين توجه إلى أفغانستان ليخوض حرب الجهاد ضد السوفيات. وقامت الـ "سي آي إيه" بالتعاون مع السعودية في تمويل حرب المجاهدين. وقام مدير المخابرات السعودية آنذاك بزيارة أسامة في أفغانستان أكثر من مرة حاملا معه معدات ثقيلة مولتها شركة بن لادن تم استخدامها في حفر أنفاق تحت الأرض. وبعد حرب أفغانستان عرض أسامة بن لادن على القيادة السعودية القيام بعمليات عسكرية ضد القوات العراقية التي احتلت أراضي الكويت في 2 أغسطس/ آب .1990 لكن القوات الأميركية دخلت أراضي المملكة لبدء معركة تحرير الكويت، وكان هذا القرار بداية تحول مزاج أسامة الذي انتابه الغيظ وغادر إلى السودان، إذ أقام معسكرات تدريب وراح يعد لهجمات تستهدف مؤسسات ومصالح أميركية. ولم تنقطع علاقات أسامة مع الجهات السعودية حتى بعد أن أصدرت ليبيا مذكرة إيقاف ضده، بعد أن اتهمته بالتسبب في مقتل عميل في البوليس السري الألماني وزوجته. وقام الأمير تركي مرارا بإرسال حميدة بنت لادن والدة أسامة لتزوره في الخرطوم، وكان مدير المخابرات السعودية يأمل أن تقنعه والدته بالتخلي عن العنف.
الموساد الإسرائيلي الذي كان يرصد هذه التحركات عن كثب كان يعتقد أن أسامة عميل للمخابرات السعودية. وفي العام 1994 فاتحت واشنطن القيادة السياسية في الرياض بدور أسامة في تفجيرات وقعت في اليمن والصومال، فسحبت الحكومة السعودية الجنسية منه، كما تبرأت أسرته منه، ووقع بيان التبرؤ شقيقه بكر نيابة عن الأسرة، لكن الصلات لم تنقطع.
بعد انتقاله من السودان إلى أفغانستان زاره الأمير تركي مرارا وقدم له سيارات بيك أب ومبالغ مالية، وكان أسامة قد تحالف مع الطالبان. واشترط الأمير ألا يقوم بن لادن بأي اعتداء داخل الأراضي السعودية. وفي 9 يناير 2001 احتفل أسامة بزواج أحد أبنائه بحضور والدته واثنين من أشقائه. وبعد أشهر قامت شقيقتان بالسفر إلى دبي لتسليم أحد أتباعه مبلغا كبيرا من المال.
الأميركية وفاء بنت لادن
في أسرة بن لادن هناك من يعيشون حياة عصرية بعيدة عن أسلوب حياة أسامة. شقيقه يسلم البالغ 55 سنة، صاحب عطر خاص به يعيش في فرنسا. أبلغ مجلة "دير شبيغل" أنه يختلف تماما عن أسامة. في سن السادسة دخل إحدى مدارس لبنان ثم تابع دراسته في السويد وانجلترا. في العام 1978 شاهد شقيقه من أبيه أسامة لآخر مرة. عرف يسلم في حياته مراقص الشباب في أوروبا وتجول في مدن أميركية، ونادرا ما كان يزور السعودية لكنه حين تزوج من كارمن الإيرانية أقام الزواج في جدة. وهي تعيش حاليا مع بناتها الثلاث في جنيف بعد طلاقهما، وقالت إنها بصدد إعداد كتاب عن الحياة مع أسرة بن لادن. والابنة وفاء "29 سنة" التي درست الحقوق في جامعة كولومبيا وتتنقل بين نيويورك ولندن قالت إنها شعرت أن هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 كان موجها ضدها شخصيا. وأوضحت أنها كانت في جنيف حين وقع الهجوم لكن مكان إقامتها يبعد مسافة 2 كم عن مركز التجارة العالمي.
ولدت وفاء في لوس أنجيلس وحاصلة على الجنسية الأميركية وتؤيد المبادئ الغربية التي يرفضها عمها أسامة ويحاربها. وهي من نجمات المجتمع الشبابي في لندن ومولعة بالموضة، كما تعشق موسيقى البوب. وقد عرفتها المغنية الأميركية الشهيرة مادونا على أحد الملحنين ليعد لها مجموعة من الأغنيات. لكن وفاء كما قالت لا ترغب في الحصول على الشهرة وتأمل لو حصلت على عمل في مكتب للمحاماة. وترى وفاء أن اللعنة تطاردها أينما ذهبت واضطرت لتذكر اسمها بالكامل: وفاء بن لادن. أنك كمن يقول أنا بنت شقيق هتلر.
الرجل الذي غير حياة أسرته يتنقل باستمرار من مكان لآخر على الحدود بين أفغانستان وباكستان. عملاء استخبارات غربية يتهمون المخابرات الباكستانية بالتعاون أو التعاطف مع بن لادن، ففي كل مرة يتكرر السيناريو نفسه: بمجرد أن تحصل الوحدة الأميركية الخاصة التي تلاحق زعيم "القاعدة" على أرض الهندكوش تنتشر الإشاعة بأنه كان في المكان الذي داهمه الأميركان. وهو ما يشير إلى حصول بن لادن على معلومات من جهات نافذة في المخابرات الباكستانية، ما ينقذه من الوقوع في قبضة الأميركيين.
في العام 1996 استطاعت المخابرات الأميركية الحصول على رقم هاتف خاص بأسامة بن لادن واسترقت السمع وسجلت مئات المكالمات الهاتفية التي وردت على الرقم الذي ألغي في هذه الأثناء .00873682505331 ولم يستخدم هذا الرقم باستمرار أكثر من والدته حميدة. وقبل وقت قصير على هجمات الحادي عشر من سبتمبر استخدم أسامة هذا الهاتف لآخر مرة، وكان مما قاله لوالدته إنه سيمضي بعض الوقت قبل أن يعاود الاتصال. ومنذ ذلك الوقت تنتظر الولايات المتحدة بشغف أن يجرى اتصال هاتفي جديد بين أسامة ووالدته حتى يتم التوصل إلى أثر يقود إليه. في العام 2003 نقل عن والدته قولها: "أنا لا أؤيد ما نسبته إليه وسائل الإعلام من أفعال لكنني سعيدة به وأدعو الله أن يهديه إلى الطريق المستقيم".
سعد بن لادن شقيق أسامة من بين أهم عشرين من المطلوبين للولايات المتحدة تحت الإقامة الجبرية في إيران بعد أن ضبط وهو يحاول دخول أراضيها قادما من أفغانستان. وتريد إيران استخدام سعد مع معتقلين آخرين من "القاعدة" حينما تقوم مفاوضات مع الولايات المتحدة. ومنذ وقت تراقب أجهزة استخبارات غربية قرية في حضرموت اليمنية، بعد أن وصلتها امرأة تعيش مع طفل لا يتجاوز عمره عامين يعتقد أنه أحد أبناء أسامة، وهو أول عضو في أسرة بن لادن يعود إلى المكان الذي ظهرت فيه الأسرة الأكثر شهرة في العالم ولا أحد يتباهى بالانتساب لها
العدد 1022 - الخميس 23 يونيو 2005م الموافق 16 جمادى الأولى 1426هـ