العدد 2932 - الأربعاء 15 سبتمبر 2010م الموافق 06 شوال 1431هـ

شذرات القلم، تأملات الخميس

من حيث المبدأ لا أحدَ يقرُّ العنفَ، بكل أشكاله وألوانه، ولا بثقافة العنف. نعم، الكل يهتف ضد العنف، عنف الرجل إزاء المرأة، وعنف المرأة ضد الرجل وعنف الكبار ضد الصغار، وضد عنف الإنسان تجاه أخيه الإنسان في كل زمان ومكان. ضد العنف الطائفي والمذهبي والديني والعرقي, مهما تكن مبررات ذلك.

ولكن قبل هذا وذاك، ضد العنف السياسي، سواء جاء من تحت أو من فوق، لأن العنف هو العنف أياً كان مصدره، وأياً كانت أسبابه ومبرراته وذرائعه. إنه ما علمتم وذقتم.

ذلك أن الأطراف التي تمارس العنف تجاه بعضها بعضاً, هي متورطة جميعاً في ممارسته، حتى لو بررت ذلك بشتى التبريرات، ولديها صحافة وإذاعة وتلفزيون وكتاب رهن إشارتها لتقديم تلك التبريرات والحجج، لتسويغ ممارسة العنف بأشكاله، وتعرية وتسفيه الطرف الآخر ونعته بأقسى النعوت.

لكن مع ذلك، يبقى هناك أمل دائماً في محاصرة العنف وتجفيف مصادره، مهما كانت المهمة شاقة وصعبة، بشرط أن يتغلب العقل على الغرائز، وتتغلب الحكمة على الجنون.

فالأطراف المتورطة في العنف ليست سواء من حيث القوة والقدرة على المبادرة إلى وقف الدائرة الجهنمية.

بالتأكيد، هناك أحد الأطراف قادر على الخروج من دائرة العنف، وقادر أيضاً على إخراج البلاد والعباد من الدائرة الجهنمية.

وفي مثل هذه الحال، عادة ما يكون الطرف الأقوى قادراً على المبادرة وإنقاذ الموقف، خاصة عندما يكون العنف المتبادل سياسياً، لأن بالسياسة يُدار العنف وليس بغير ذلك، وبالسياسة يتم كسر دائرة العنف، وليس بغير ذلك.

ونقول بالسياسة وليس بغيرها، لأن إدارة المجتمع وقضاياه الكبرى لا تحل إلا بالسياسة، طالما أن السياسة في أحد تعريفاتها أنها الأداة الأفضل والأقل كلفة والتي ندير من خلالها خلافاتنا واختلافاتنا وتناقضاتنا.

العنف عرضٌ لمرضٍ. إذنْ علينا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية التي تغذي العنف وتعيد إنتاجه بين فترة وأخرى، وهذه لا تتم إلا بالسياسة، وبالتنازلات المتبادلة.

بمعنى آخر علينا أن نتدبر الأمور بالسياسة، بالحوار لا بالنار، ومهما كانت حامية، سواء جاءت من هذا الطرف أو ذاك، فإنها لن تأتي بالنتائج المرجوة.

مرة أخرى لنبحث عن حلول في السياسة، عبر الحوار لا عبر النار.


(2)

«من الذاكرة.

يعود من هناك إلى هناك إلى هنا

يستعيد بقع الضوء المتلألئة التي كانت ومازالت

يقرأ السطر الأول في حكاية الحكاية، التي كانت وانقضت

تنثال الكلمات والأشياء والذكريات يقدم قارورة عطر لم تخطر على الخاطر والبال.

هي وردة، هي طفلة، هي امرأة جللتها الأنوثة ورائحة الجنة.

ضمخها العطر، وجاءته صبيحة يوم بارد، ليقرأ في راحة كفها حظها في ذلك اليوم الممطر.

تقول له اقرأ ولا تخفْ. إنها يدي وهي لك.

فيرد. ما أنا بقارئ للأكف، وهو يرتعش

ماذا ترى؟ ماذا تقول؟ حدثني عن شيء لم يأتِ بعد، ولم يتكون بعد، ولم يزل في اللوح المحفوظ.

للتو يخرج من قريته، لم يقرأ وجه امرأة قط ولا حتى ابنة الجيران الصبية يحاول، يقرأ صفحة اليد الناعمة البضة، يتمتم ولكن دون كلمات، للتو يبدأ يقرأ أبجدية فتاته لم يتهجَ من قبل.

تضع أمامه قارورة شذى رجولي، على ذوقها اختارته بعناية وعلى ذوقه.

لا يكترث بتلك العلبة، فصفحة اليد التي يتفرسها أجمل من القارورة. هي العطر وكفى.

يبادرها يتهجى أبجديتها: فاتنة أنتِ يا سيدتي، حالمة أنتِ، يا امرأة جمعتْ أجمل ما في النسوة وأبسط ما في الأطفال.

باسقة أنتِ يا سيدتي، عذبة أنتِ، وأنتِ.

هل تعلمين يا سيدتي أن الذي جعل الطيور تطير هو الحب

ودون الحب سرعان ما تهوي إلى الأرض.

هل سمعتِ أن الحب يجعلكِ ويجعلني كالفراشة خفة وألقاً.

إذنْ لأقرأ الفنجان في محياك وفي سواد وبياض عينيك الواسعتين الناعستين النائمتين الحالمتين، كما أوراق الوردة في يوم ندي يا سيدتي.

قالت: اقرأ ما تريد, اقرأ الفنجان في وجهي وفي جسدي، اقرأ كتاب الولع الطائر والحب الحالم في عيني، كما أقرأ في عينيك، وفيك وجهي الآخر.

وأضافت وهل نحن سوى وجهين لعملة واحدة يا سيدي

هل نحن إلا سادة بعضنا بعضاً.

كلانا يرى في آخرِه ذاتَه، وما أنا وأنتَ إلا ذاتاً واحدة في جسدين، إذْ التقى الحبيب بحبيبه والتقت العيون بالعيون، والروح بالروح.

طفرت دمعة من عينيه

مسحتها بكلمات كالشعر، بمنديل كانت رائحته تتحدث ببلاغة أخاذة يعبق بها المكان

قبل يديها، سقطت لؤلؤتان

احتسيا قهوة الصباح

قرآ سوية فألهما في ذاك الفنجان الأبيض والأسود في أحشائه

وقال: صباحك سكر ورائحتك عنبر

قالت له: وجهك اليوم مشرق، فلستَ أنتَ سواي ولستُ أنا سواك

هكذا الحب يجعلنا اثنين في واحد، نطير وننسى أننا اثنان، أو أننا محكومان بالجاذبية.

لقاء الروح أقوى من قانون نيوتن.

بسبب ذلك، نصبح كائنات خفيفة وأثيرية نَسْبحُ خارج المكان والزمان».


(3)

نحتاج إلى الفكر دائماً، ليس بسبب أننا نملك أداة التفكير، بل لأن التفكير ينقذنا من ورطات كثيرة، ومن مهالك كثيرة. فالتفكير هو سفينة النجاة التي ننقذ بها أنفسنا وغيرنا ومجتمعاتنا، ولولاه، لما كان للحياة من معنى.

تارة نفكر بالعقل وتارة نفكر في العقل وما أبعد المسافة بين الاثنين.

عندما نفكر بالعقل نصبح كائنات متميزة على بقية الكائنات. وعندما نفكر في العقل نقوم بمقاربة ما ينتجه العقل الإنساني وكيف يعمل وما هي آليات عمله كما نقوم في التفكير فيما ينجزه الإنسان على هذه الأرض، ونحاول عقلنته.

في ظل الأوضاع التي نعيشها نحن، نجدنا في أمس الحاجة إلى الفكر، في أمس الحاجة إلى الفلسفة باعتبارها أحد أشكال الفكر، تلك الفلسفة التي افتقدناها في بلدنا منذ زمن طويل جداً ولم تقم لها قائمة.

السوق مليئة بكل أنواع السلع والبضائع الفكرية والثقافية، بينما سلعة الفلسفة إذا جاز القول غير متاحة، بل غير موجودة حتى في جامعتنا الوطنية.

وغياب الفلسفة عن المشهد في بلدنا له نتائج سلبية كثيرة، من بين هذه النتائج تعثر المحاولات النهضوية التاريخية التي شهدتها بلدنا على امتداد قرن من الزمان دون أن تكلل بالنجاح.

وأحد الأسباب في ذلك، أن تلك الأحداث والمحاولات النهضوية لم تحظَ بمقاربة فلسفية نظرية، يتم من خلالها أخذ العبر والدروس والانطلاق بشكل جديد وعلى أسس جديدة لتأسيس نهضة جديدة.

الفلسفة ليست ترفاً كما يعتقد البعض، بل حاجة ضرورية للمجتمعات لصياغة قوانين عامة للمجتمع والتاريخ بهدف فهمهما وتعقلهما وإدارتهما.

ومما يذكر هنا، أن أعظم لحظات الحضارة العربية الإسلامية هي تلك اللحظات التي كان فيها للفلسفة الحضور الكاسح. وينطبق ذلك على الحضارة اليونانية، كما ينطبق على الحضارة الغربية الحديثة، حيث كانت الفلسفة هي الرافعة الأولى لولادة هذه الحضارة قبل ألف عام، انطلاقاً من آخر ما وصلت إليه الفلسفة العربية الإسلامية ممثلة في الفلسفة الرشدية اللاتينية.

أمام هذه الانتكاسات التاريخية التي مرت بلدنا بها ولحد الآن، لم تشهد محاولة جريئة لتدشين الفلسفة، وفي بلد عرف عنه في غابر الأزمان أنه ينتج الفلسفة والفلاسفة، وكانت له مكانته في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية أيام عزها.

بالفلسفة ننهض ونستطيع أن نضع الحلول المناسبة لكثير من الإشكالات النظرية والعملية. بالفلسفة نستطيع أن نعرف أسباب الفشل والنجاح، لماذا نجحوا هم ولماذا فشلنا نحن، لماذا نهضتنا مجهضة دائماً في البلدان العربية مجتمعة، وفي كل بلد على حدة. سؤال بحاجة إلى إجابات من نوع معين، إجابات فلسفية تحديداً.

العدد 2932 - الأربعاء 15 سبتمبر 2010م الموافق 06 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً