العدد 1064 - الخميس 04 أغسطس 2005م الموافق 28 جمادى الآخرة 1426هـ

الحظ العاثر

صفعه بالأرض وصفع الباب بالجدار، تركه ملقى بقارعة الطريق، ككومة نفايات لا تستحق حتى البصق بجوفها...

شمل الباب بنظرات قهر ملتهبة، يود لو يحرقه بعينه، عض على شفتيه بغيظ يغالب دمعاته البريئة... جالت عيناه بصدر السماء، كأنما يناجي أمطارها الغاضبة، علها تهلك النيران التي التهمت قلبه الصغير، فحظه السيئ سرقه عن أمه إثر ولادتها به، وفي أول يوم دراسي له، سقط والده جراء المرض العضال، جواره حتى أمسى عاجزا لا يفارق فراشه. بعد أن أصابته طلقة فرنسية نهشت ساقه، لذلك؛ اطلق على هذا الفتى بـ "يحيى النحس".

ووسط الرياح الماجنة، ورقصها مع ايقاعات الطبيعة إذ البرد ينخر العظام نخرا... ظل يحيى يصارع زوبعة بكائه، وإذا بجسده الصغير يتلقى ركلة مباغتة، جعلته يثب مفزوعا...

- ألم تتحرك من هنا بعد؟ قلت لك ابتعد من هنا وليس لك شيء عندي...

قال الرجل ذلك بلكنته المعوجة... فابتلع يحيى الصغير ريقه وهوى راكعا عند قدم ذلك الفرنسي:

- أرجوك يا سيد"دانييل"... أنا فتى لا أملك قوت يومي. وأبي مريض وبحاجة إلى دواء... أرجوك يا سيدي... أرجوك...

زمجر الرجل باشتياط:

- ليس لدي ما أنفقه على المتسولين! قلت لك اذهب...

قاطعه يحيى بموجات بكائه المختلطة بدموع السماء

- سيدي... أنا لا أطلب منة أو رأفة من أحد... انا أطالب بحقي... حقي فقط... فقد عملت أشهرا تحت إمرتك خادما... وعندما آن وقت حصادي... لم أجد منك طنين قرش! بل رميتني وقلت إنني لا أصلح لشيء... أرجوك سيدي... اعطني نصف ما اتفقنا عليه أو فليكن الربع! ولكن... ارحمني يا سيدي أرجوك... أنا...

انبتر حديث يحيى بكم هائل من الركلات التي صوبها الفرنسي نحوه، فحشت فمه وألجمت لسانه إلا عن التأوهات والبكاء. فراح الآخر يقول بلغة لا تحمل أي هوية وهو يفد لمنزله... لكن يحيى فهم أنه قال "طردتك باللين ولم تستجب... هذا السبيل الوحيد لدحر طمعك..."...

فما كان من يحيى إلا أن نهض بثقل آلامه، وجروح جسده؛ إذ عجزت ملابسه الرثة الممزقة عن أن تسترها... وراح يسير في درب لا يعلم إلى أين سيهديه... فكم من العسير عليه أن يلقى والده هذا المساء بيد خاوية، لا تحمل حتى قطعة رغيف تسد ثورات جوعه... "يا لحظي العاثر! لم أتجاوز العاشرة... وأنا أحمل بغاربي ما تنوء عن حمله الجبال الثقال! وكلما أردت أن أداوي صفحات طريقي... جاءت نهايات مسالكي ظلماء كحلكة الليل الأليل! عملت حتى تحت سلطة المستعمر... ولو علم أبي بذلك لكانت نهايتي قد أزفت! مع ذلك لا أجد حبلا يخرجني من الفقر الذي أرتمي بحضرته! تبا لهذه الأرض الخربة! تبا كم عشنا بطغيانهم الويلات! ألا لعنة الله على الظالمين...".

الليل يمضي... ويحيى يمضي... لكن الليل يدرك أنه متجه لمعانقة الفجر... بينما يحيى لا يدري بأنه قد سقط وخضع لعاصفة إغماء...

فتح عينيه عندما عانقت وجهه قطرات ماء بارد... فجالت أنظاره لتحيط بالمقام علما... لا يدري كيف برق بذهنه للحظة شك بأنه ربما يكون في الجنة... فقد كانت السماء صافية... والشمس تنشر شعرها الأشقر بتيه ودلال كأنها تمده بدفء وحنان لم يذقهما مذ أطل على مسرح هذه الحياة...

التفت على صوت طفلة تحمل بيدها قارورة ماء

- آسفة... قد أيقظتك...

لم يحر جوابا... فعندما رفع رأسه ورأى جراد الجنود ببنادقهم يجوبون قارعة الطريق، أدرك بأن ظنه لم يكن في محله... فطأطأ رأسه بانكسار وخيبة الأمل تحطم جوارحه تحطيما... فانتبه للطفلة تمسك بأطراف قميصه البالي وتقول ببراءة:

- هذه مئة ليرة... إنها من ماما... تقول خذها وانصرف من هنا بسرعة...

بترت الطفلة حديثها بسرعة إثر نداءات والدتها... فرمت عليه بالورقة النقدية وراحت تجري خلف والدتها حتى التهمتهما ملتويات قريبة...

ظل يحيى ينظر للورقة بذهول... إنه لا يصدق! مئة ليرة بين يديه... يا لحظه السعيد... سيشتري طعاما يكفيه ووالده لأسبوع على الأقل أو قد يكفيه أيضا لشراء علبة دواء... آه كم ستتراقص الفرحة على محيا والده إن عاد محملا ببعض المؤونة... "ولن يطلق علي بعد الآن بالابن النحس... فقد هطلت علي مئة ليرة... من دون أن أبذل أدنى جهد!".

هكذا خاطب نفسه... ولا يدري كيف استطاع أن ينهض بخفة ونشاط وهو الذي لم يأكل شيئا منذ يومين... راحت قدماه تسابق الريح، فالدنيا تكاد لا تسعه، وقد صدق من قال: "بهذه الدنيا يوم عليك... ويوم لك... وهذا اليوم لي أنا".

ضحك بحبور وسعادة كما لم يضحك من قبل، وجرى بغمرة فرحته، كما لم يجر من قبل، لكنه بغتة اصطدم بشخص صلب. فكاد يهوي على الأرض، لكن الآخر أمسك بتلابيبه، كان أحد أولئك الفرنسيين المغتصبين، تملى يحيى جيدا وخطف من يده المئة ليرة، فغاص قلب يحيى في بركة دم، صرخ من دون وعي "لا... لا تأخذها مني"...

فضحك الجندي بمكر، رمى بالورقة على الأرض وهرسها بقدمه، ويحيى على مشهد من ذلك، فكأنما كان قلبه هو الذي يهرس تحت الحذاء. فجثا على قدم الجندي يود انتزاع الورقة النقدية، لكن أصحاب عدوه قيدوه... وراحوا يتضاحكون على حسراته ودمعاته... وعندما رفع ذلك الجندي قدمه... كانت الورقة قد تمزقت إلى أشلاء... وجاءت كف الرياح تحملها بعيدا بعيدا... لتبعثرها في الهواء... أما يحيى فقد كان يودعها بدموعه المتكالبة "أي أمل هذا الذي خلته بصيصا بشرفة خافقي.. ففي كل مرة

أخطئ الحساب...

وها أنا أقولها الآن وبزفرة مرة...

قد رضيت من الغنيمة بالإياب"..

العدد 1064 - الخميس 04 أغسطس 2005م الموافق 28 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً