العدد 1071 - الخميس 11 أغسطس 2005م الموافق 06 رجب 1426هـ

في معنى طرد العرب من التاريخ

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مسألة اقصاء المسلمين عن الفلسفة الأوروبية وعزلهم عن سياق مخطط تطور الأفكار تطرح علامة استفام عن صلة تلك المسألة بالتفاوت الحضاري الحاصل في أيامنا بين أوروبا والعالم الإسلامي. فالحاضر يسقط نفسه على الماضي كما يبدو، ويعيد تشكيل نظرية تاريخية عن التطور الإنساني تستبعد دور المسلمين ونشاطهم الذهني والعملي في بلورة التقدم الذي احرزه الإنسان في صراعه الطويل مع الطبيعة والاجتماع.

طرد المسلمين من تاريخ الابداع ليس جديدا. فالنظرية موجودة في أكثر من حقل من حقول المعارف الإنسانية. فالفكرة نجدها حين تحدث بعض المؤرخين عن انتفاء مفهوم الدولة في القرآن والسنة النبوية. وكانت ذريعة هذا النفر من الباحثين ان الدولة توجد فقط في المجتمعات المستقرة، وبما ان المجتمع الإسلامي في بدايات الدعوة اقتصر على الجزيرة العربية فإن احتمالات نشوء دولة في ذاك الوقت مسألة مستبعدة بسبب اعتماد سكان الجزيرة على البداوة في المعاش. والبداوة في رأي هذا النفر لا تنتج دولة لأنها تعتمد على الترحال ولا تستقر في مكان.

والفكرة نجدها أيضا حين تحدث بعض المؤرخين عن المدينة في المجتمع الإسلامي. فهذا النفر من الباحثين مال إلى نفي وجود فكرة مدينة في القرآن والسنة النبوية بذريعة ان المدن لا تنهض في الصحراء وتتطلب مجموعة شروط اجتماعية واقتصادية تبرر قيامها، وبما ان تلك الشروط غير متوافرة في مجتمع بدوي "غير زراعي" استبعد هؤلاء احتمال نشوء مدن في الجزيرة في العهد النبوي.

وعلى هذا القياس يمكن ان تقرأ الكثير من الأفكار الاستشراقية "الأوروبية - الأميركية" التي تطرد المسلمين من كل الحقول الإدارية والمعرفية والعسكرية والقضائية والمالية والتنظيمية والفلسفية. فالعرب "واستتباعا الإسلام" غير مؤهلين إلى ابتكار أو ابداع الجديد في مجالات تحتاج إلى مجموعة شروط عقلية "ذهنية" وعملية "ممارسة". وعلى هذا المنوال ساقت تلك الأفكار سلسلة استنتاجات مبسطة تلغي موقع المسلمين أو على الأقل تقلل من شأنهم في التأثير والتطوير والاضافة.

العرب برأي هؤلاء اكتسبوا المعرفة واخذوها عن غيرهم واعادوا صوغها في سياق ينسجم مع طبيعتهم البدوية "الصحراوية" التي لا تستقر على حال ولا تملك المقومات الموضوعية للثبات والتراكم والتطور. فالحضارة العربية "واستتباعا الإسلامية" ثقافة ارتحالية "انتقالية" تأخذ ولا تعطي وتنقل ولا تقدم الشيء الجديد "الاضافي" إلى ما صنعه غيرهم.

وبناء على هذه الاستنتاجات اسقط الدور العربي واقصي من سياق التطور الإنساني. حتى الفتوحات ربطت بتلك التنظيمات الإدارية والتشكيلات العسكرية التي اخذها العرب عن البيزنطيين والحضارات القديمة في دائرة المنطقة من وادي النيل وبلاد الشام وبلاد الرافدين والفرس.

فالعرب برأي هذا النفر من المؤرخين والباحثين والمستشرقين بدأ تاريخهم الحضاري "المدني" حين انتقلوا من الجزيرة إلى الشام والعراق ومصر وإيران فاكتسبوا ثقافات غيرهم وخلطوها بتلك المفاهيم الصحراوية "البدوية" واعادوا انتاجها بما يتناسب مع حاجاتهم ومصالحهم وعصبياتهم.

اذا، العرب وبرأي هذه الحفنة من العنصريين لا يملكون أي فكرة عن مفاهيم تحتاج الى نوع من التطور الاجتماعي والاستقرار التاريخي. فهم برأي تلك الاستنتاجات الخبيثة يعوزهم التصور عن مسألة الدولة أو القضاء أو المال أو الإدارة والتنظيم وتشكيل الجيوش وغيرها من شئون متصلة بالاجتماع الإنساني من تربية وتعليم وصحة وفكر وفلسفة وغيرها من قنوات طبية وعلمية وفلكية وعمرانية "مدينية".

طرد العرب من مخطط التطور التاريخي للانسانية مسألة سياسية، كما يبدو، تتصل بالنزعة العنصرية الاستكبارية المعاصرة التي تريد التقليل من شأن المسلمين خدمة لمصلحة استراتيجية راهنة تحاول الاستفادة من الوضع القائم في ايامنا لتقديم تفسير عام لسياق زمني يبدأ من العرب للنيل من الاسلام والمسلمين. فالنزعة الطاردة لها صلة بالسياسة التي تتعمد النفي والاقصاء والتهميش لتأكيد نظرية تقوم على جملة فرضيات واستنتاجات تعوزها الدقة والمعلومات.

فكرة الدولة مثلا موجودة في القرآن والسنة النبوية وهي تجسدت في زمن الرسول "ص" في دولة المدينة. وفكرة الدستور موجودة وكذلك القضاء والمال والخراج والإدارة والتشكيلات العسكرية "الغزوات والحروب". وأيضا يمكن رؤية تلك الفروع الانسانية المتصلة بحاجات البشر من كفالة أو رعاية اجتماعية وصحة أو عند الحث على طلب العلم والمعرفة... حتى ولو كان الأمر يقتضي الذهاب إلى الصين.

كل هذه المعارف قامت على الابتكار والابداع كذلك لم تتردد في الاكتساب واعادة انتاج الوارد في سياق إنساني "حضاري" جديد. حتى مسألة العمران والانحياز إلى المدينة "تغيير اسم يثرب" والحث على الاستقرار والزراعة وممارسة التجارة كلها مفاهيم تجديدية كانت موجودة عند العرب في بدايات الدعوة وتطورت في مجرى الفتوحات التي حدثت لاحقا. فهناك الجديد "المبتكر" وهناك القديم "المكتسب" وهناك ما بينهما من اتصال انتج حضارة مركبة اخذت من السابق واضافت اليه ما انزله الله.

سياسة الاقصاء هذه مسألة غير عادلة ومضادة للتاريخ لأن التاريخ في النهاية هو سلسلة وقائع تؤكد أو تنفي الاسقاطات النظرية أو الاستنتاجات الذهنية. الا ان هذه السياسة كما يبدو مقصودة. فهي تهدف الى تجريد العرب من تاريخهم مقدمة لتجريد المسلمين من دورهم التاريخي في صنع التقدم الإنساني على صعيد الانجازات والابتكارات والاضافات التي تراكمت زمنيا لتنتج حاضر العالم وما فيه من اختلافات وخلافات وتفاوتات بين "طبقات الأمم". فالمجتمعات طبقات وكذلك العالم. وهذه الفكرة ليست جديدة وقال بها منذ قرابة ألف سنة الفيلسوف/ المؤرخ المسلم صاعد الاندلسي في كتابه "طبقات الأمم".

صاعد قرأ تاريخ الأفكار قراءة عادلة معتمدا المنهج التاريخي التطوري لدورات الأمم الزمنية فجاء عمله الابداعي أكثر انسانية من تلك النظريات الطاردة للمسلمين "والعرب" من التاريخ. فصاعد أرخ لتاريخ الحضارات "الأفكار" بدءا من الصين والهند وفارس واليونان والرومان والعرب وصولا إلى الاسلام الذي دمج وحذف وأضاف واعاد انتاج وتطوير ما سلف من جهود بشرية منتهيا في مخططه التدريجي في الاندلس "غرب العالم الإسلامي" وهو المكان الذي ولد به وعاش زمنه فيه وأعطى الكثير من الانفتاح والتسامح والاعتراف بالآخر... وهو ما يفتقده كتاب أوروبا في حاضرنا.

مسألة طرد المسلمين "والعرب" من التاريخ تشبه كثيرا تلك المحاولات الدؤوبة لتهميش دورهم في تاريخ تطور الفلسفة والعلوم والعمران وغيرها من حقول تتصل بالمال والنقد والقضاء والطب والهندسة والفلك الى ما تبقى من معارف إنسانية.

مسألة الاقصاء "التغييب" تحتاج إلى قراءة جديدة لا تقتصر على التحليل الاجتماعي لمفهوم التقدم والتخلف وانما تشمل أيضا ذاك الجانب السياسي وهو أمر في جوهره ليس بعيدا عن المواقف المسبقة التي تعتمد فكرة الطرد تمهيدا لاسقاط العرب والمسلمين من معادلة التاريخ في المستقبل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1071 - الخميس 11 أغسطس 2005م الموافق 06 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً