العدد 2978 - الأحد 31 أكتوبر 2010م الموافق 23 ذي القعدة 1431هـ

«التسَامح في عصر الإصلاح»... تجربة ما أحوجنا إليها اليوم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

صَدَرَ مؤخراً عن المنظّمة العربية للترجمة (توزيع مركز دراسات الوحدة العربية) كتاب «تاريخ التَّسَامح في عصر الإصلاح» لـ جوزيف لوكلير (1895 – 1988) وهو أستاذ للعلوم الكَنَسِيَّة في الجامعة الكاثوليكية في باريس. الكتاب يتحدث عن تشظّي المسيحية الوسطيّة وحركة الإصلاح، وعن التعدّديّة الدينية في أوروبا خلال القرن السادس عشر والتسامح بين الطوائف.

يقع الكتاب (وهو من القطع الكبير ويُمثّل أحد أهم الترجمات الأخيرة) في 1231 صفحة تتوزّع على ثمانية أبواب، حيث يضم الباب الأول أربعة فصول تتحدث عن العَهْدَيْن القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل)، والحقبة الآبائيّة (قرار ميلانو، عهود قسطنطين والأباطرة) والعصر الوسيط وموقف المسيحية من غير المؤمنين والهراقطة ومسائل الضمير وحرّيته وضلالته.

وفي الباب الثاني تتوزّع البحوث على ثلاثة فصول، حيث خَصّص المؤلف الفصل الأول للحديث عن تراجم سِيَرِيَّة لأبرز مُنظّري القرن الخامس عشر كـ نيكولا دو كوزا ومارسيل فيسان وبيك دو لا ميراندول، بينما خُصِّص الفصلان الثاني والثالث للحديث عن إراسِم وتوماس مور.

وفي الباب الثالث حاول المؤلف أن يضع ثمانية فصول لأحد أهم موضوعات الكتاب، حيث تحدّث فيها عن الحرية الدينية في أوروبا وأوضاعها لدى الروحانيين المتصوفين وثوريّة الأناباتيسية وسِلمها، والتوفيق الديني والحوار والسلطات والإصلاح والتسامح الأهلي.

وفي الباب الرابع والخامس والسادس والذين يقعون في ستة فصول يتحدث الكتاب عن الإصلاح في سويسرا والسجالات حول التسامح، وظروف الهراطقة في القرن السادس عشر، في حين خُصّص الباب السادس للحديث عن الإصلاح في فرنسا ومشكلة التعددية الدينية.

أما البابان السابع والثامن واللذان يقعان في أربعة عشر فصلاً فيُركّز لوكلير على الثورة في البلاد الواطئة (ما بين شارلكان وفيليب الثاني) والصراعات من أجل الحريّة الدينية، وعن الإصلاحات الأنجليكانيّة وموقف الكاثوليك وغير الأنجليكانيين أمام السلطة الملكية الحاكِمة.

أهمية هذا الكتاب تنبع في أنه يُعيد إلى حاضرنا واحدة من أهم حقب الصراع والتكوين التي عاشتها البشرية عبر البوابة الغربية. فالحروب التي ماجَت عليها الشعوب الأوروبية وما تلاها من تسكِيْن «واجب» لشلال الدّم الذي كان يُرَاق بفعل الخلافات الطائفية والمذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت والاضطهاد الذي أَعْمَلَتْه الطوائف ببعضها البعض، ثم عقود الصُّلَحْ التي أبرمها المتناحرون للعيش بسلام وتعددية وفق نظام اجتماعي شامل هو أمر بالغ الأهمية، لمرحلة بِتنا نعيش أواراً يُماثلها، وخصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق.

طَالِعُ هذا الكتاب يتحدث عن المعطيات الكتابية والآبائية والوسيطية في العصرين الوسيط والحديث عن تعزيز تعاليم التوراة كعهد قديم من مواقف الحُكّام وردّ الضلالات، وخصوصاً أن المجتمع اليهودي هو مجتمع ثيوقراطي يجمع ما بين المدنيّة والدّين في آن، وهو التماثل الذي كان سائداً منذ أيام نبي الله موسى وداوود (ع). وقد انطبعت المرونة والانضباط على ذلك التماثل، بتجلّي ذلك حين قام النبي داوود بإصلاح بعض الأحكام الموسوّية بعد مسحه بالكهنوت.

ففي تلك الحقبة استمّر تدخّل الحُكّام في الشأن الديني بشكل فَج إلى ما قبل الملك يوشيّا الذي قاد حركة إصلاحية في العصر الوسيط والقرن السادس عشر. وقد أدّى ذلك إلى هلاميّة البرزخ ما بين الشأن الديني والدنيوي في المسيحية. وقد كان لقسوة الأحكام اليهودية العقابية ضد مُرتكبي الأخطاء (سبّ الإله = القتل/ الزنا = القتل) دوره في قيام حركة الإصلاح تلك على يد الملك يوشيّا، وبداية التمرّد على اليوتوبيات الدينية في ذلك الأوان.

هنا يطرح المؤلف سؤالاً مفصلياً: هل العهد القديم يتضمّن معطيات تدلّ على التسامح وحريّة الضمير أم لا؟ الواقع (وحسب رؤية جوزيف لوكلير) أن تلك المعطيات قليلة جداً وخصوصاً تلك التي تتحدث عن الضمير الخلقي. بل إن كلمة ضمير لم يأت مرادف لها إلاّ في شكل كلمة «قلب» الحاوِي للأفكار، فضلاً عن الإرشاد نظراً لتركيز التوراة على التطابق الموضوعي بين المسلكية الفردية وأوامر الشريعة الوضعيّة.

لكن المؤلف يذكر نصّاً في سِفْرِ الأخبار الأول (الإصحاح 22 الآية 6 وما يليها) يقول مخاطباً داوود (ع) «سَفَكْتَ دماً كثيراً وعمِلت بحروب كثيرة، فلا تبْنِ أنتَ بيتاً لاسمي لأنك سفكت دماءً كثرة». كما أن تعدد الفِرَق الدينية لدى اليهود (الصدّوقية، الفرّيسية وأسّينية) كان دليلاً على وجود التسامح. إلاّ أن الخلاصة النهائية هي غَلَبَة التشدد على الاعتدال في ذلك العهد.

وربما ينتصر المؤلف لاحقاً إلى أن العهد الجديد (بصفته دِيناً سَمْحاً) بقوله إن الدّين اكتسب من الوحي المسيحي بُعداً باطناً أصبح ملكوت الله معه مسألة ضميرية وعبادة بالروح والحق من دون أن يسلبه ذلك صفته الاجتماعية. مشيراً في ذلك إلى عدّة أمور كَوُرُوْد لفظة الضمير ثلاثين مرة معظمها في رسائل القديس بولس، والحديث عن مبدأ الحرية من أجل الدخول في الإيمان، ومبدأ الحسم العقائدي المطلق بالمحبة عملاً بالصيغة البولُسيّة وغيرها من الأمور.

في حالة الصِدام بين المسيحية والدولة الرومانيّة فإن المُهم في الموضوع هو أن الخلاف بين الطرفين لم يكن دينياً وإنما سياسياً، تمثل في إجبار الدولة الرومانية للرعايا الموجودين على أرضها بضرورة عبادة الامبراطور الروماني مع هامش عبادة الطوائف لآلهتها. ورغم العنف والقهر الذي أصاب المسيحيين على يد تلك الامبراطورية كان زعماؤهم ينادون بحريّة المعتقد والتعددية الدينية كما جاء ذلك على لسان طرطليانس في سكابولا وإفريقيا خلال دعوته.

ورغم ذلك الصراع المحموم الذي وَقَعَ بين الدولة الرومانية والجماعة المسيحية، إلاّ أن اتفاقاً للسلام قد وُقِّع بين الكينسة والامبراطور في 13 يونيو/ حزيران من العام 313 م بمدينة نيقوميديا، وهو الاتفاق الذي أعطى المسيحيين الحق في حرية العبادة، وبداية تشرّب الدولة للأفكار المسيحية. وكانت تلك القَدْحَة هي التي فتحت عنوان التسامح في أوروبا والذي سينعكس لاحقاً بصراع مذاهبها المختلفة، وما تلا ذلك من صراع ما بين صكوك الغفران واللوثريّة وبالتحديد مع الأب الدومينيكاني جان تتزيل.

بالتأكيد، فإن حالة التسامح الذي أبداها الأوروبيون مع بعضهم البعض وبالخصوص فيما يتعلق بحرية المعتقد والعلاقة بين الطوائف، لم تكن صُدفة أو هِبَة؛ وإنما كانت حصيلة ممارسة سياسية واجتماعية خاطئة أدّت إلى فرض نمط جديد من التعاطي في العلاقات الإنسانية بين الأوروبيين. ولأن مثل هذه التجارب تُمثّل أهم العِظَات التي يجب أن نستلهمها في عصرنا الحاضر، فإن محاولة قراءتها بتمعّن وتجرّد هو أمر في غاية الأهمية، وخصوصاً في زماننا الحالي الذي عَصَفَت وتعصِف به الخلافات الطائفية بشدّة. (وللحديث صلة).

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2978 - الأحد 31 أكتوبر 2010م الموافق 23 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:28 ص

      أبن المصلي

      المجتمعات التي ينعم أهلها بقيم التسامح هي في واقع الأمر مجتمعات متقدمة وينعم أهلها بأكثر طمئنينه على واقع مستقبلهم ومستقبل أبنائهم فالعلاقة بين الطوائف يجب أن تبنى على احترام الطرف للطرف الآخر مهما أختلف معه في المعتقد ننظر الى المجتمعات الأوربية غلى سبيل المثال نشاهد هذا التقدم المطرد على المستوى العلمي والتكنلوجي والأقتصادي كل هذا لم يأتي من فراغ وأنما مرت هذه المجتمعات بمخضات وتجارب عصفت بها في يوم من الأيام ولكن حينما أتخدو قيم التسامح تقدمت بلدانهم تقدم مطرد وعلى جميع الصعد والميادين

    • زائر 3 | 4:13 ص

      الاستفادة من تجارب الشعوب

      يعتبرون كلامك طنطنة أدا تكلمت بهدا الاسلوب لان ميل القوى حالياً الى جانبهم ولا يعرفون أن هده سنة الحياة أدا حرمت شريكك في السفينة وصار مظلوماً فلن يبقى مكتوف الايدي الى أبد الدهر
      لمادا البدئ من الصفر لمادا لا نستفيد من تجارب الشعوب الاخرى ونبدأ من حيث أنتهو حتى نجب شعوبنا وبال ماحصل بينهم

    • زائر 2 | 12:42 ص

      الاهم في الموضوع

      (((ولأن مثل هذه التجارب تُمثّل أهم العِظَات التي يجب أن نستلهمها في عصرنا الحاضر، فإن محاولة قراءتها بتمعّن وتجرّد هو أمر في غاية الأهمية، وخصوصاً في زماننا الحالي الذي عَصَفَت وتعصِف به الخلافات الطائفية بشدّة)))

    • زائر 1 | 12:18 ص

      الحل للبلاء

      هناك من الناس من يعتقد بان موضوع التسامح هو للاستهلاك المحلي الذي لا يمكن ان يقوم ولكن عندما يكتوي المجتمع ببلاء الطائفية ويصل الامر للدم هنا سيعرفون ان هذا هو الحل بالنسبة لبلائهم

اقرأ ايضاً