العدد 1121 - الجمعة 30 سبتمبر 2005م الموافق 26 شعبان 1426هـ

وما أدراك ما المشاركة

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

يمكن للمشاركة في الرأي أن تفعل شيئا سحريا غير معتاد في حياة الناس، فهي تجدد فاعليتهم، وتزيد من نشاطهم، والأهم أنها تحولهم من مجرد عبيد يتجرعون القهر ويعانون إزعاج العمل وتعب العطاء، إلى أرباب عمل، تتراءى لهم أنفسهم من خلال العطاء والبذل، ويؤذيهم ضميرهم إذا استشعروا التقصير والإهمال في مسئولياتهم، إنها باختصار شديد شعور بالشراكة في كل حدث وصيرورة يصلها مجتمعهم، وتتسع لها أحداق عيونه. على أي نحو كانت هذه المشاركة سلبية أو إيجابية فإنها ليست ضارة غالبا، أكتب هذا مع التسليم أن الإيجابية والسلبية أمور نسبية، وغالبا ما تعتمد زاوية النظر التي يلحظ تصير الأشياء من خلالها، وانطلاقي نابع من أن الكبت والحرمان من المشاركة سوء ليس فوقه سوء، وعذاب لا يضاهيه إلا الخزي. لقد استطاع مالك مصنع للبلاستيك في اليابان أن يضاعف فاعلية العاملين في مصنعه، وأن يصنع منهم عمالا منتجين، في الوقت الذي أجاد أن يبلور في نفسه شخصية المدير الناجح، ليس بمفرده فحسب بل مع فريق عمله. كانت فكرته باختصار تدور حول الكيفية التي تمكن العمال أن يشاركوا بآرائهم في سير العمل وتعامل أربابه معهم من دون خوف أو خشية، ولأن هدفه كان جادا فقد تسابقت الخواطر إلى مخيلته حاملة العشرات من الأفكار المفيدة، لكنه استحسن واحدة منها أشد الاستحسان. كانت الفكرة أن يصنع لنفسه دمية تمثل شخصه كمالك للمصنع وإلى جانبها أخرى للمدير التنفيذي الذي عادة ما يكون صاحب الاحتكاك والشجار مع العمال، ثم خصص غرفة للدميتين، وعين وقتا يستطيع العمال أن يدخلوا إلى الغرفة كل بمفرده، وأن يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء بالدميتين، كان بعضهم يقبلهما وآخر يشتمهما وثالث يبصق عليهما أو على احداهما، ويصل الأمر ببعض العمال أن يضرب الدمية بيده أو بأي شيء آخر. لقد لاحظ المالك أن بعضا من العمال المشاكسين قدروا هذه الخطوة وثمنوها لأرباب العمل، واعتبروها خطوة للأمام تصب في مصلحتهم، كما لاحظ أنها قضت على الكثير من التشنجات والمشاحنات أثناء الأداء والممارسة للعمل المهني التنفيذي، ما أوجد حالا من الانسجام والحميمية بين الجميع كفريق واحد يعمل من أجل هدف مشخص ومعلوم، أصبح فيما بعد هدفا للجميع بعد أن كان حصرا على رب العمل. على جانب آخر تقلصت نسبة الأخبار المتسربة إلى خارج أسوار المصنع والمرتبطة بالعمل، والمشكلات التي تتجدد فيه نتيجة لتضارب المصالح أحيانا، أو لما ينتج عن العمل من احتكاكات طبيعية، بما في ذلك مجموعة كبيرة من الإشكالات التي تفرزها طبيعة الهيمنة المفروضة من أرباب العمل. المهم في الأمر أن نسبة الإنتاج تضاعفت، ودب النشاط من جديد حتى في نفوس المحبطين، كما انعكس ذلك على التزام الجميع بالانضباط في أوقات الحضور والانصراف. لقد طرأ تغير جذري يلحظ واضحا على أداء الموظفين. لقد كان مالك المصنع يدخل إلى الغرفة على مشهد من العمال ويرى بعض آثار البصاق على الدمية التي تمثل صورته، لكنه يخرج مبتسما، من دون أن يصدر ردود فعل سلبية تجاه أي أحد من الموظفين، كان يحتفظ بكل ذلك ويتأمل فيه، كما كان يحتفظ بمنظر الورود التي يراها على دميته والتي يضعها العمال الراضون عن المصنع وعن سير العمل فيه، ولم يكن يحاول التعرف على أي من الفريقين "الإيجابي أو السلبي". لقد اكتشف أيضا أن الذعر الذي كان يحيط ببعض المثبطين له عن تنفيذ الفكرة هو هوس غير مبرر، لأن إبداء العمال لآرائهم غير مخيف، لا يسبب المزيد من الانتكاسات في العمل كما كان البعض يصوره، ولا يزرع البغض والشحناء في باقي النفوس الإيجابية. مكنت التجربة رب العمل من تلمس الفرق الشاسع جدا بين إيجابية الصامتين، الذين يؤدون دورهم باعتبارهم أجراء أو مرغمين على الفعل ولو بحكم القضاء والقدر، وبين الذين يمارسون الفعل والعمل بإقبال وتلهف وكأنه جزء ملتصق بأرواحهم. صحيح أن بعض الصفات كالرهبة والهلع والهيبة - من أرباب العمل - تراجعت بعض الشيء في نفوس الموظفين، لكن الصحيح أيضا أن فقدان جزء من الهيبة والرهبة لم يخلف فراغا يوجب الخوف والذعر، لأن قيمة أخرى أعلى وأكرم وأجل قد حلت بديلا عن تلك القيم الغابية، وهي قيم الاحترام والحب والتقدير لرب العمل ولمديره التنفيذي. ربما كان أصعب ما في الأمر أن يقرر صاحب العمل ومديره التنفيذي هدفهما بدقة وصراحة، فهل الهدف صنع الهيبة والمحافظة عليها مع قلة الإنتاج، وتأزم وضع العمال، وتراكم القضايا في نفوسهم؟ أم أن الهدف والصدارة هي للإنتاج الأفضل والتنافس الأقوى، وترسيخ الحب والانتماء في نفوس العمال لمعملهم؟ إنها معادلة صعبة فعلا، يلعب النضج دورا كبيرا في تحديد اتجاهها، ويؤثر التطلع الجاد للمستقبل في التمسك بأصلح خياراتها، وتترك حال الاعتدال في القلق والذعر الفرصة مهيأة للتفكير السليم في نتائجها، كما أنها فكرة قابلة للتبني والتطبيق في غالبية أعمالنا مهماتنا التي تربط بيننا وبين من يجب أن نفترضهم شركاءنا، سواء كانت تلك الأعمال بصغر الذرة أم بحجم المجرة. أتصور حينها أن فائدتنا من الذين حولنا لن تقتصر على قدراتهم الجسدية وعملهم الوظيفي فحسب، بل سيهيمن حبنا على عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، وسيكونون معنا يدا واحدة من أجل مستقبل مشترك ومشرق. * رجل دين وكاتب من السعودية

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1121 - الجمعة 30 سبتمبر 2005م الموافق 26 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً