العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ

محاكم تفتيش النوايا

يذكر الناشر روبنسون في كتاب "عجائب" انه في "العام ،1474 في مدينة بال السويسرية، باض ديك، فحاول محاميه الادعاء بأن ذلك من سوء حظه، ولم يكن يقصد، على الرغم من ذلك، وفي محاكمة تفتيش طويلة دين الديك بالسحر، وحكم عليه بالموت حرقا على عمود". على الأقل حوكم الديك بسبب، بغض النظر عن منطقية السبب أو عدالة الحكم الصادر من محكمة هي في النهاية صورة مصغرة ومفزعة لمحاكمات طالت المتحرك والجامد في حقبة ظلامية عاشتها أوروبا سنوات طويلة، اضطلعت فيها الكنيسة بدور القاضي والجلاد في الوقت نفسه. بمعنى آخر، لم تكن العقليات ولا الضمائر المهيمنة على أمور البلاد والعباد وقتها في وارد تحكيم أي منها وبالتالي التعاطي مع قضايا ومحاولات الخروج على التعاليم المعتمة تلك بأحكام تتسق وما يصدر عن رجال الكنيسة. اليوم، وبعد 531 سنة من ذلك الحادث - والذي هو قطرة في بحر لجي من المحاكمات التعسفية والظالمة - تم تجاوز البشر الى محاكمات نصبت لما هو أفظع، على رغم كل الثورات والتحولات العلمية والتقدم الهائل في مختلف المجالات، فباتت محاكمة النوايا واحدة من سمات مظالم هذا العصر الذي من المفترض أن يكون تقدمه على مستوى التشريع والقوانين والأنظمة، سببا رئيسيا ومنطقيا لتقليص أو تدارك المظالم التي قد تنشأ هنا أو هناك، إلا أن الحقائق على الأرض تشير الى النقيض من ذلك. محاكم تفتيش النوايا يمكن الوقوف عليها في أكثر من صورة وموقع، ولم تعد قصرا على الدول التي تعاني تشريعاتها وقوانينها وأنظمتها من تخلف أو تهميش، بل امتدت لتشمل حتى الدول التي حققت قفزات نوعية في هذا المجال. الرئيس السابق للجنة الشئون الخارجية في الكونغرس الأميركي جيسي هيلمز، لم يتردد في احدى مداخلاته أمام المجلس في القول: "الأمم المتحدة لن يكون لها كيان سيد، ما بقيت على قيد الحياة!". في موقف استباقي يقطع الطريق أمام المنظمة الدولية في حال قررت أن تعزف على وتر هو بالنسبة الى الولايات المتحدة نشاز، وترى انه لا ينسجم مع مزاجها وتوجهها. "إسرائيل" هي الأخرى، ظلت - ولاتزال - تتعامل مع المحيط من حولها انطلاقا من محاكمة النوايا، وتملي على الولايات المتحدة الأميركية التحدث بلسان نواياها، ولذلك لم يكن تعجب وزير الخارجية الأميركي السابق كيسنجر منطلقا من رؤية نقيضة، أو مستهجنة للتوجه الإسرائيلي بقدر ما هو تعجب المأخوذ والمنجذب لمثل ذلك التمنع، وذلك من خلال ما نقرأه في مذكراته: "عجيب أمر "إسرائيل" هذه فكلما دعوتها الى الجلوس حول مائدة المفاوضات تمنعت واحتجت بأنها ضعيفة، وأنها لا يمكن أن تحتل مقعدها إلا بعد أن تشعر بالقوة، فأبادر بإعطائها السلاح، وهنا ترفض أيضا المفاوضات لأنها أصبحت قوية!". ما يقود إلى تلك الدرجة من تقرير مصير أمم وبشر من خلال الحكم على نواياهم، هو اضطراب الشخصية، وعدم استقراراها وخضوعها الى حال من المزاج المرعب الذي يعز ويذل أنى ومتى شاء، ولعل المفكر العربي الراحل هادي العلوي خير من عبر عن طبيعة تلك الشخصية المضطربة بقوله: "الشخصية الغربية مزاجية، غير مستقرة بسبب فوضى الحياة في الغرب. التقيت في الصين سيدة بريطانية اعتنقت الإسلام وغيرت اسمها الى خديجة، ثم اعتنقت البوذية، ثم صارت ماركسية، ثم عادت إلى المسيحية البريطانية". هل بوسع العلوم الحديثة وما توصلت اليه الأمم المتقدمة أن تقلص من مساحة المزاج تلك، ومن ثم الخضوع لشهوة محاكمة نوايا ما عداها من أمم الأرض؟ التاريخ وحوادثه لا يتركان البشر على مبعدة من الوقوع في الأخطاء، التي تراكمت فيه، والذاكرة بطبيعتها معرضة للأخطاء ولا تستطيع أن تحفظ - دائما - الدرس عن ظهر قلب، ثم ان حفظه لا يكفي لتجاوز الأخطاء، اذ تكمن المسألة في تعلم الدرس، ومن ثم العمل على تراكم النقيض من تلك الأخطاء. بعضهم يستوعب الدرس بالسخرية من الأخطاء والتهكم عليها ومن ثم تجاوزها، لأنه محصن من الداخل، لا يروم سوى خلاصه بإطلاق الحقيقة وتجاوز حرس النوايا، أولئك الذين نصبوا من أنفسهم حراسا على العالم بما يعتقدون انه فضيلة وصواب. أحد أصدقاء غاليليو غاليلي، بعد إعلان توبته "تقية" في محاكمته أمام البابا، لم يوفر السخرية تلك في حوار معه ضم عددا من تلامذة غاليلي: "أحد تلامذة غاليليو: انك أخفيت الحقيقة عن العدو - الكنيسة - حتى في علم الأخلاق كنت تسبقنا بقرون... فقدنا رشدنا في الزوايا المعتمة. تلميذ آخر: الأرض التي بلا أبطال غير سعيدة. غاليليو: خطأ... بل الأرض التي بحاجة الى أبطال غير سعيدة. صديقة: كيف يترك أصحاب السلطة رجلا يقول الحقيقة حتى حول أبعد النجوم؟ هل تتخيل أن البابا يكتب في مذكراته: 10 يناير 1610 "الغاء السماء" عندما كنت تراقب من خلال منظارك... رأيتك مربوطا إلى خازوق... وعندما قلت انك ستحتاج الى براهين شممت رائحة لحمك المحترق". في هذا الأفق الضيق ... هنا في الساحة الشعرية البحرينية، مثل عدد من الساحات، ثمة من لا يتردد لحظة في عقد محاكمات تفتيش للنوايا، وإصدار أحكام بالجملة إما حنقا أو طيشا أو مزاجا أو كإجراء يعتقد أنه الأخير لمن هو في طريقه الى هدم المعبد على من فيه، فيما يتكرر مثنى وثلاث ورباع في توجه يكشف عن حال مستعصية وإدمان لم يعد بالإمكان السيطرة عليه، تعاني منه مجموعة خارجة على المثل والقيم

العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً