العدد 1170 - الجمعة 18 نوفمبر 2005م الموافق 16 شوال 1426هـ

هل عاد الهدوء إلى ضواحي باريس؟

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يشار في تراثنا العربي إلى انه من لا يجيد الشعر فليشتغل بالرواية، ويبدو أن هذا القول قد وجد له صدى واسعا لدى أصحاب القرار في أوروبا، خصوصا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، فالدولة التي لا تتعرض للهجمات الإرهابية، عليها أن تشعلها في أراضيها، لإيجاد منفذ شرعي لإصدار قانون منع الإرهاب والتضييق على طلبات اللجوء السياسي والحد من الهجرة. فرنسا على كل حال قرأت الرسالة جيدا، وبدأت تنثر الأوراق وتوزع الاستحقاقات. تقع فرنسا في غرب القارة الأوروبية، وهي عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومشارك فعال في حلف "الناتو". تبلغ مساحتها نحو 964543 كلم، وهي دولة زراعية كبرى تمتاز بخبرات زراعية عالية، اذ أنشأت الدولة 6 محميات جغرافية، و126 محمية طبيعية وأكثر من 400 منطقة لحماية الكائنات الحية، وتضم فرنسا 12 مدينة يزيد عدد الواحدة منها على 350 ألف نسمة بينما يعيش في باريس وضواحيها نحو10 ملايين نسمة. عرفت فرنسا مع ألمانيا في التاريخ الوسيط باسم "بلاد الغال"، وهي مقاطعة خاضعة للإمبراطورية الرومانية الى ان جاءت القبائل الجرمانية إلى المنطقة في القرن الرابع الميلادي، واستقرت إحدى قبائلها المعروفة باسم الفرنجة "Francs" في الجزء الفرنسي الحالي، وأعطت هذه القبيلة اسمها للبلاد "فرنسا"، بعد زوال الإمبراطورية الرومانية. وقد أخذت المنطقة شأنا عظيما عندما حكمها شارلمان الذي حولها إلى إمبراطورية، لكن أحفاده من بعده قسموها الى مملكتين، مملكة فرنجة الشرقية وشكلت ألمانيا فيما بعد، ومملكة فرنجة الغربية التي شكلت فرنسا. وفي العام 842م عقد حلف ستراسبورغ تم على أساسه الفصل بين المملكتين، واعتبره المؤرخون في فرنسا بمثابة عقد الميلاد الرسمي لبلادهم. وفي العام 987م توج الدوق هوغ كابينت "من سلالة الكبيسيون" ملكا لفرنسا، واستمرت هذه السلالة تحكم فرنسا حتى قيام الثورة الفرنسية العام 1789م. تعتبر الثورة الفرنسية حدثا تاريخيا مهما بدأ على شكل انقلاب سياسي في فرنسا وأثر مجراه في العالم بأسره. ويختلف المؤرخون كثيرا في أسبابها، فيرى بعضهم أنها حركة عقلية نشأت من حركة الاستنارة الحرة في القرن الثامن عشر، بينما يرى آخرون أنها ثورة الطبقات المحرومة من الاستحقاقات الوطنية ضد الطغيان الإقطاعي. خاضت الثورة الفرنسية صراعا دام عشر سنوات بين قوى التجديد والقوى المحافظة، شهدت فيها فرنسا سلسلة من الاضطرابات العنيفة والمدمرة، ومرت بعد الثورة بثلاث مراحل كانت الأولى مرحلة الملكية الدستورية. والثانية مرحلة النظام الجمهوري، ثم استعادت البورجوانية الكبيرة "في المرحلة الثالثة" السيطرة على السلطة وعملت على نشر مبادئ الثورة في ظل حكم قوي ساعد نابليون بونابرت على إرسائه. خاضت فرنسا حربين عالميتين، كانت فيهما محظوظة بانضمامها للمعسكر الغربي، الذي أنقذها مرتين خلال الحربين من الاحتلال الألماني، وعلى رغم خروجها منتصرة منهما، إلا أنها تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح البشرية والموارد الاقتصادية، لكنها خضعت لفترة نمو كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية امتدت قرابة الثلاثين عاما، عرفت فيها فرنسا حراكا سياسيا، ففي العام ،1958 ومع قيام الجمهورية الخامسة أصبح للبلاد نظام رئاسي ديمقراطي لرئيس ينتخب من قبل الشعب، ويتمتع بصلاحيات أكبر، كما منحت فرنسا في هذه الفترة الاستقلال لكثير من مستعمراتها في إفريقيا والمشرق العربي. لم يكن لفرنسا سجل تاريخ مشرف لدى العرب، اذ إنها تقاسمت مع بريطانيا العالم العربي، وإن كانت الأخيرة على خلاف مع فرنسا في تعاملها مع الثوار العرب طيلة فترة الاستعمار، إذ استخدمت معهم أسلوب المناورة والمفاوضات السياسية، بينما آثرت فرنسا على نفسها اتباع أسلوب العنف والمواجهة بالنار. بل إنها سعت الى تطبيق "الفرنسة" مع الشعوب العربية الخاضعة لها، وهذا يتضح بشكل جلي في لبنان وبلدان المغرب العربي، ولهذا اختار الكثير منهم الإقامة والعمل في فرنسا بعد الاستقلال. وطيلة النصف الثاني من القرن الماضي لم تسجل في فرنسا أية حال تذمر من قبل المهاجرين العرب، لكن مع مطلع الشهر الجاري تعرضت ضواحي باريس إلى أعمال عنف تحولت فيها إلى ساحة معركة، إذ انبعثت ألسنة اللهب بشكل ينذر بكارثة. هذه الأعمال غير المسبوقة حولت مئات السيارات إلى حطام متفحم. إضافة الى إضرام النار في المؤسسات الحكومية والمباني العامة من مكاتب البريد، والمدارس، ومراكز الرعاية، ومحاصرة أعداد كبيرة من مراكز الشرطة التي اشتعلت احتجاجا على مقتل اثنين من الفتية من أصل إفريقي عرضا، إذ حاولا الاختباء داخل غرفة محول كهربائي، بعد أن ظنا أن الشرطة تلاحقهما فقتلا صعقا بالكهرباء، وقد تم اعتقال المئات خلال فترة ليالي الشغب التي امتدت نحو الأسبوعين. استنفرت الحكومة الفرنسية المتمثلة في الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ورئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان، ووزير الداخلية ساركوزي قواها من أجل وقف أعمال العنف وإنهاء الأزمة واستعادة النظام العام. ويشار في تقارير الداخلية الفرنسية الى ان المتسبب في أعمال الشغب هذه شبان معظمهم من المهاجرين والمسلمين الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 18 و،25 وهم المحبطون بسبب الفقر والبطالة والتمييز الذي يمارس ضدهم بسبب هويتهم وجنسهم المغاير للمجتمع الفرنسي. تقدر الكثافة السكانية لمسلمي فرنسا بنحو 10 في المئة من مجموع السكان، أي نحو 7 ملايين نسمة وهم يشكلون الديانة الثانية في البلاد بعد الكاثوليكية، وعندما قدموا إلى فرنسا رفضهم المجتمع، فتوجهوا إلى السكن في ضواحي باريس. وفي السنوات الأخيرة، بدأت الأقلية المسلمة تزداد في فرنسا في ضوء تناقص الفرنسيين، وأصبح لهم امتداد اجتماعي وثقافي واسع، إذ يخيل للزائر لمدينة سان دوني "الضاحية الشمالية الكبرى لباريس" انه في مدينة عربية، إذ تنتشر فيها متاجر العرب وأسواقهم، إضافة إلى صورة النساء والفتيات المحجبات المتكررة. وقد جاء في تقرير بثته القناة الثانية الفرنسية في أوائل هذا العام عن ان عدد المسلمين في مدينة تراب الواقعة بالضواحي الغربية لباريس، قد بلغ 80 ألف نسمة، هو نصف سكان المدينة تقريبا. وقد تخطى هذا النمو ليصل الى الضغط السياسي وتغيير الموازين في الانتخابات المحلية، إذ استجاب عمدة باريس إلى ضغط الجالية المسلمة في الموافقة على تأسيس مركز إسلامي لضمان تصويتهم له في الانتخابات المقبلة، اذ تقدر نسبتهم من مجموع سكان العاصمة بنحو 35 في المئة وهي نسبة لا يستهان بها. وتنامى الوجود الإسلامي في فرنسا، وزادت المخاوف منه، وخصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، فلذلك سعت فرنسا الى دمج الأقليات المسلمة مع المجتمع الفرنسي وكسر خصوصياته، وهذا ما نتلمسه جليا في قانون منع الحجاب الذي صوت عليه البرلمان بغالبية مطلقة، وهي حال نادرة لم يسبق حدوثها في البرلمان الفرنسي الحالي. ويتخوف الفرنسيون من تزايد أمواج المهاجرين بفعل القانون الاشتراكي الصادر في 11 مارس/ آذار 1998 المعروف بـ "ريزيدا" أي الإقامة، والمتعلق بدخول وإقامة الأجانب بفرنسا، والحق في اللجوء السياسي، إذ ارتفعت طلبات اللجوء من 20 ألفا في العام 1997 إلى 82 ألفا في ،2003 وفقا للمصادر الرسمية الفرنسية. في وقت تراجعت فيه طلبات اللجوء إلى ألمانيا وبريطانيا. كما تشير تلك المصادر الى ان أكثر من 300 ألف من المهاجرين والمتواجدين في فرنسا من العام 1998 قدموا طلبات لجوء تم رفضها، والغالبية منهم تعيش في فرنسا من دون وثائق، كما ازدادت الهجرة العائلية ضعفين، منتقلة من 50 ألفا إلى أكثر من 100 ألف شخص. في شهر أغسطس/ آب الماضي، وبعد أسبوع من تفجيرات لندن، أدلى وزير الداخلية والأديان الفرنسي نيقولا ساركوزي بتصريح لصحيفة "ليبراسيون"، قال فيه: "إنني ملزم بالقول إنه بعد نيويورك جاءت مدريد وبعد مدريد جاء دور لندن، ولا أعرف ما هو الهدف اللاحق، الخطر بمستوى الصفر غير موجود، ومن واجبي أن أتحرك قبل أن يضرب القتلة". وفعلا، تحرك وترأس الحملة المركزة ضد المهاجرين الشرعيين منهم وغير الشرعيين، كما قام بطرد إمام جزائري يدعى رشيد عيساوي لأنه يهدد أمن واستقرار فرنسا بتبنيه خطابا دينيا متشددا، كما أصدر في هذا السياق تهديدا بطرد ما لا يقل عن 10 أئمة من مختلف الجنسيات الإسلامية، إذ ثبت تورطهم في التطرف الديني. وللسبب نفسه تعكف الحكومة الفرنسية منذ أشهر على إصدار قانون لمكافحة الإرهاب، ليجيزها متابعة المشتبه بهم أمنيا، وإنزال العقوبة بمن يثبت تورطه إما بالسجن أو بالترحيل. ويبدو أن حوادث نوفمبر/ تشرين الثاني قد أعطت فرنسا الفرصة، وخصوصا أن هناك من يتهمها بأنها تمهلت في إخماد النيران وجعل حوادث الشغب تثار لأكثر من أسبوعين من دون أن تتمكن من إيقافها، إلا بعد أن صادقت الحكومة الفرنسية على خطط لمنح السلطات المحلية حق فرض حظر التجول بموجب قانون حالة الطوارئ، وهو إجراء لم تشهده فرنسا منذ حرب الاستقلال الجزائرية التي استمرت من العام 1954 وحتى العام .1962 فهل استطاعت فرنسا إشعال الإرهاب في أراضيها لتستعجل إصدار قانون منع الإرهاب كما فعلت لندن؟ وهل وصلت إليها رسالة واشنطن، التي سارعت كعادتها الى إصدار بيان تحذيري لرعاياها في باريس تدعوهم إلى عدم استقلال القطارات والاكتفاء بسيارات الأجرة وحافلات المطار وكأن الحرب قد قامت؟ وهل ستنضم بلجيكا وألمانيا الى القافلة؟ اذ بدأت النيران هناك تحرق السيارات ولن يطفيها إلا قانون الطوارئ ومكافحة الإرهاب

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 1170 - الجمعة 18 نوفمبر 2005م الموافق 16 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً