العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ

الرهائن والتجارةُ القذرة

عندما تسوّر الصحافي «ديفيد رودي» حائط المنزل الذي كان محتجزاً فيه، وجدَ الحرية والحظّ السعيدين يضحكان له ويفتحان أذرعهما لكي يحتضنانه بعد أن قضى سبعةَ أشهرٍ كرهينةٍ في قبضة طالبان.

ظلّ ردوي ومعه آخران هما سائقه ومترجمه الأفغانيان، صيداً ثميناً وعنواناً لصفقةٍ لم تكتمل بعد أن نجح في الفرار هو ومترجمه وأغلقا الباب على المطالباتِ بالفدية وإطلاق بعض الأسرى، وأطفأوا حلم نصرٍ صغيرٍ كان يتقد في عقول الطالبان بعد أنْ حُملَ «الرجل الغربي» بعيداً في طائرةٍ خاصةٍ.

بعد أشهرٍ قليلةٍ من فرار رودي، وقع الصحافي البريطاني «ستيفن فاريل» ومترجمه الأفغاني «سلطان منادي» أسيرين في قبضة طالبان بعد أن وطأت أقدامهم إقليم قندز الأفغاني، وذلك حين عزم فاريل على إجراء تحقيقٍ عن غارةٍ قام بها حلف الأطلسي وذهب ضحيتها عددٌ من المدنيين في الإقليم نفسه، فألفوا أنفسهم في قبضةِ من كانوا أهدافاً لتلك الغارة.

فاريل ومترجمه كانا أقل حظاً من رودي وصاحبه، فبعد فترةٍ من احتجازهما تمّ اتخاذ قرارٍ سيتضح بعد حينٍ أنه مكلفٌ للقيام بعمليةٍ خاصةٍ لتحريرهما، فأتت فرقةٌ بريطانيةٌ مجوقلةٌ في إثرهما وتمّ تحديد المنزل الذي يحتجزان فيه، وعلى وجه السرعةِ قام الكوماندوز باقتحام المنزل واستخدام غطاءٍ ناريٍ كثيفٍ لم يهدأ إلا على جثث عددٍ من القتلى، كان بينهم «سلطان منادي» مترجم فاريل، الذي سيترك الكوماندوز جثته غير عابئين، ليضطر أهله أن يأتوا بأنفسهم فيسحبوا جثته ليقيموا عليه المأتم، وعددٌ من الأفغان، وجنديٌ بريطانيٌ، وهنا بيت القصيد، سيكونُ سبب زوبعةٍ أصابت فيمن أصابت رئيس الوزراء البريطاني آنذاك غوردن بروان وشخص فاريل الذي «لم يلتزم بالتحذيرات التي وجهت له سابقاً».

أمّا الأسوأ، فإنه ما حدث قبل فترةٍ وجيزةٍ لعاملة الإغاثة البريطانية «لندا نورجروف» عندما احتجزت شرقي أفغانستان، فعزمت فرقةٌ أميركية خاصةٌ على تحريرها في عمليةٍ أثارت جدلاً واسعاً، بعد أن قضتْ نورجروف والشكوك تتفاقم أنها قتلت بنيرانٍ صديقةٍ، فتمّ الإيعاز لمختصين بإجراء تحقيقٍ في ذلك، والمحصلة أن الشابة ذات الـ 36 ربيعاً قد دفنت سر موتها معها بعد أن أُلحدت في مثواها الأخير.


تحطيم النموذج

 

في اعتقادي، فإن القيام بالعمليات الخاصة لتحرير الرهائن هو قرارٌ يهدفُ للتصويبِ على الأهداف المرجوة من الاختطاف نفسه، وذلك لتحطيم النموذج التي تجهد الحركات المسلحة والجهات الثورية لتثبيتها كوسيلةٍ لتحقيقٍ نصرٍ جزئيٍ لتحرير أسراها أو تحقيقٍ مطالبٍ بعيدة المنال، وهذا ما نجح حزب الله في تقديمهِ وإخراجهِ في عمليات التبادل التي عرضها على الهواء بشكلٍ دراميٍ، ما أبرز ذلكَ كنموذجٍ تقتدي به الحركات الأخرى، رغم التباين الشديد في المنطلقات والأهداف.

ومع الثمن الباهظ الذي تدفعه الحكومات عندما تخسر ثقة مواطنيها أو تكونَ هدفاً للنقد اللاذع أحياناً مثل حكومة براون سابقاً أو حكومة كاميرون حالياً في بريطانيا، فإنّ الإجهاز على أهداف الاختطاف لوقف إشهارهِ كسلاحٍ فعّالٍ يرغمها على التراجع أو تقديم التنازلات يصبحُ غايةً لها ما يبررها.

وفي تحقيقٍ مثيرٍ نشرته صحيفة «الإندبندنت» بعنوان: تجارة الرهائن، كيف أصبح الاختطاف صناعةً عالميةً؟ قام الكاتبان «ازمي ماكافوي» و«ديفيد راندول» بتسليط الضوء على ظاهرة الاختطاف بوجهٍ عامٍ في العالم، فتتبعوا في شكلٍ إحصائي وتدقيقٍ تاريخيٍ كيف تطور هذا الفعل الذي يختلف تصنيفه الأخلاقي واللاأخلاقي من بواعث الجماعاتِ ودافعها للقيام بمثل هذا العمل الذي يظلّ في خانةِ ليِّ الذراعِ باستخدام طرفٍ أضعفٍ لتحصيلِ غايةٍ من طرفٍ قويٍ، أو يصنف من غير شبهةٍ كعملٍ إجراميٍ يهدف للنيل من كرامات الأشخاص وسحقها أو للحصول على المال والإثراء السريع.

وقد تطور هذا الفعل كما سنرى لاحقاً ليصبح صناعةً عالميةً لها روادها ومحترفوها ومستثمروها، الذين يتدرجون في هرميةٍ معقدةٍ تبدأ ربما من القراصنة ورجال العصابات أو المسلحين في حركات التمرد والعصيان والجماعات الثورية، ولا تنتهي بأطراف معروفةٍ وواضحةٍ حتى تصل في المقابل إلى شركات التأمين التي تضعُ مبالغ لا قِبَلَ لأحدٍ بها للتأمين على عمال الشركات الكبرى في المناطق المضطربة، خصوصاً في دلتا النيجر الغنية بالنفط والتي اشتهرت بوقوعها تحت سيطرةِ الجماعات المسلحة.


عواصم الرهائن

 

أفغانستان، العراق، المكسيك، الصومال، نيجيريا، الكونغو، السودان، الفلبين، النيبال، وكثيرٌ من العواصم التي تنشط فيها هذه الصناعة، ولك أن تتخيل ثمن إطلاق سفينةٍ عند سواحل الصومال هو سبعة ملايين دولار، أو نصف مليون دولار لإطلاق زوجة بنكيٍ ألماني، وكما يذكر إحصائيون فإن مبلغ 350 ألف دولار يشكل الحد الأدنى لتأمين إطلاق عامل نفطٍ أجنبي مختطفٍ على سبيل المثال، ففي نيجيريا وحدها سجلت الشرطة ما مجموعه 100 مليون دولار، دُفعت كفديةٍ ما بين الأعوام 2006 و2008م.

أما في بلدٍ تزدهر فيه هذه التجارة مثل الصومال، فإن الاختطاف يطال ما يزيد على المئة شخصٍ شهرياً، وإجمالاً فإن معدل الاختطاف عالمياً يصل إلى 12 ألف حالةٍ سنوياً، ناهيك عن الاختطاف الناشئ عن الخلافات العائلية أواختطاف الفتيات للزواج منهن كما يحدث في القوقاز.


ذهبٌ يمشي

 

المادة الخام لهذه الصناعة كما يسميها التحقيق هي «الذهب الذي يمشي» The Walking Gold، هؤلاء هم الأشخاص الذي يتواجدون من غير حمايةٍ في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ فيتحولون في لحظةٍ خاطفةٍ إلى رهائن وأكثر ما يعنونه أنهم تحولوا إلى مالٍ حقيقيٍ سوف يتمّ استلامه ولو بعد حينٍ، وربما تتم المساومة عليه فيما بين الجماعات نفسها لتسليمه لجماعةٍ أكثر احترافاً.

حتى وقتٍ قريب، ظل الاختطاف مشكلةً مؤرقةً في أميركا الجنوبية، حيث كانت نسبة الاختطاف فيها 64 في المئة من مجموع الحالات في العالم بأسره، وفي العام 2009م، هبطت هذه النسبة لتصبحَ 37 في المئة بسبب ازدهاره في أمكنةٍ أخرى من العالم.

ولكن الاختطاف عند اللاتينيين يظلّ هو الأقسى والأكثر رعباً، فالرهائن هناك كما يذكر التحقيق لا يُعاملون بشكلٍ جيد، وعادةً ما يكونون عرضةً لفقد أحد أعضائهم كأيديهم مثلاً، في سبيل لفت انتباه ذويهم عندما يشعر الخاطفون بتقاعسهم عن دفع الفدية، وإذا لم تصل فحوى الرسالة، يكون الموت هو المصير المحتوم لأولئك المساكين. على العكس من ذلك، فإن الرهائن في نيجيريا يلقون معاملةً حسنةً وقليلاً ما يصيبهم مكروه، والمضحك أنهم يطعمونهم من الوجبات السريعة وسندويشات الهمبورجر!


الحريةُ الثمينة

 

في العراق، ومنذ 2004م، فإن مئتا أجنبيٍ قد تعرضوا للاختطاف، منهم خمسة عشر لايزالون مجهولي المصير، فضلاً عن آلاف العراقيين الذين أصبحوا الأهداف الأولى لهذه العمليات، أما في نيجيريا، فإن 500 حالة اختطاف قد سجلت منذ 2006م، منهم مئتا عامل نفطٍ أجنبي أدركت شركاتهم بعدِ تجرعها لهذه الكأس، أنه لا بد من سحبهم أو إحاطتهم بحراسةٍ مشددة، ففدية الواحد منهم تصل إلى 200 ألف دولار، وللالتفاف على ذلك، فقد تبدلت استراتيجيات الجماعات المسلحة هناك، فقامت باستهداف أفراد الطبقة النيجيرية المتوسطة وأطفالهم الذين تقدر فدية الواحد منهم بأقل من 30 ألف دولار.

ولكن بعض الضحايا لا يكونون إلا أبناء تجارٍ عاديين، مثل تاجر الحلويات البغدادي الذي أطلق سراح ابنه مقابل دفعِه لـ «تحويشة عمره» التي تقدر بعشرة آلاف دولار، أو ابن الميكانيكي البغدادي أيضاً الذي قُـتل في ظرف 48 ساعةٍ بعد عجزه عن تأمين فديةٍ قدرها 100 ألف دولار.

أما الحكومات، فإنها لم تكن بمنأىً عن دفع الفدية، فالحكومة الأسبانية مثلاً دفعت 5 ملايين جنيه استرليني لتأمين إطلاق سراح اثنين من عمال الإغاثة الأسبان في موريتانيا، وكذلك فعلت كلٌ من فرنسا وإيطاليا وألمانيا بما يصل مجموعه إلى 45 مليون دولار.


الشركاتُ تدخل اللعبة

 

وما أفرزته هذه العمليات ووقائعها، يبرز الآن في المبالغ الخيالية التي ترصدها شركات التأمين التي تقدم خدمة التأمين عند الاختطاف وصرف الفدية، ويذكر التحقيق أن ثلاثة أرباع الشركات الكبرى في أميركا لديها هذا النوع من التأمين الذي يبلغُ حتى 400 مليون دولار، ولنا أن نتخيل أن الطائرة التي تلقي حقيبة الأموال للخاطفين في خليج عدن تؤمن بمبلغٍ قدره 250 ألف دولار ! وهذه الشركات تقوم بعمل جميع الخطوات لتأمين الوصول السليم للرهائن.

هذه التجارة، أغرقت سواحل الصومال الفقيرة بالملايين بين ليلةٍ وضحاها، فقفزت أسعار السلع الأساسية بشكلٍ غير متوقع حتى أصبح الناس العاديون غير قادرين على اقتنائها، والمثير أن القراصنة قد دشنوا سوقاً ماليةً لتنشيط الاستثمار فيها عن طريق عرض الجماعات لأسعار أسهمها، وكل ما على الشخص هو أن يتبرع بالسلاح أو المال، ثم الحصول على نسبةٍ من الربح عند القيام بعمليةٍ ناجحة.

على أية حال، فإن ما قاله أحد الرهائن البريطانيين السابقين عن الحاجة لإنشاء جهازٍ دوليٍ يختصّ بحالات الاختطاف وتحريرهم أصبحَ ضرورةً في الوقت الراهن بدل ترك ذلك في عهدة الشركات الخاصة، فربما أسعف الحظ البعض فتخلص من هذه التجربة المرة مثل رودي وفاريل، إلا أنّ آلاف الرهائن على وجه الكرة الأرضية لا يزالون مجهولي المصير!

العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:08 ص

      العرض الرائع

      أحسنت يا أخ علي على هذا العرض الرائع وعلى هذا القلم الرشيق

اقرأ ايضاً