العدد 3037 - الأربعاء 29 ديسمبر 2010م الموافق 23 محرم 1432هـ

فترة حكم النعمان الثالث

البحرين في القرن السادس (4)

ذكرنا في الفصل السابق أن الذي خلف المنذر الرابع بن المنذر الثالث على الحيرة هو النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس (580م - 602م). وقد كنّاه بعض الشعراء بأبي قبيس كما كنّاه بعضهم بأبي منذر، ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا إذا دخلوا على النعمان أو كلّموه قالوا له: «أبيت اللعن»، وذكر المسعودي: أنه «هو الذي يقال له: أبيت اللعن» (علي 1993، ج3 ص261). وسبق أن ذكرنا أن الملك لم ينتقل إلى النعمان بسهولة، فقد كان للمنذر جملة أولاد حين أتته المنية، عدتهم ثلاثة عشر ولداً معظمهم طامع في الملك، والظاهر أن المنذر كان عارفاً بالخلاف الذي كان بين أولاده، فلم يشأ أن يزيده بتعيين أحد أبنائه، ولا ندري لِمَ لم ينص على أكبرهم جرياً على السنة المتبعة في انتقال الملك ولعله كان عارفاً بحَرَج الموقف وضعف مركز ابنه الكبير وعدم تمكنه من فرض نفسه عليهم إذا عينه ونصبه، لذلك وكَّل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، فتولاه لفترة زمنية حتى انفرجت المشكلة باختيار النعمان بعد حيلة حبكها عدي بن زيد ليمكِّن ربيبه النعمان من الملك (علي 1993، ج3 ص263 - 264).


عبد القيس بين التملق والمعارضة

استمر النعمان بن المنذر على السياسة القديمة التي اتبعها أعمامه عمرو وأخوه قابوس أبناء هند من التهديد بالغزو وعرض القوى، حتى أنه استعان بأحد أفراد عبدالقيس من عائلة المعلى ليقوم بجباية المكوس له تماماً كما فعل سلفه، ولا يعلم اسم جابي المكوس إلا أنه ذكر في أحد القصائد باسم «ابن المعلى» كما سنرى لاحقاً وقد حدده جواد علي أنه «الجارود بن المعلى» (علي 1993، ج5 ص306)، ويبدو أن «ابن المعلى» هذا يمثل القيادة السياسية في البحرين التي تعمل تحت سلطة النعمان، وفي حال رفضت عبدالقيس تسليم المكوس لهذه السلطة السياسية يقوم النعمان بتهديد القبيلة بالغزو والسبي، إلا أنه يبدو أن أسلوب استخدام القوى العسكرية لم يرهب كل فروع القبائل العربية في البحرين وبالخصوص تلك الفروع من عبدالقيس التي عارضت عمرو وقابوس أبناء هند وهي شن ولكيز، ولذلك استمر موقف عبدالقيس القديم بمعنى أنه تباين موقفهم من النعمان بين متملق ومعارض. ومن خلال شعر شعراء عبدالقيس في هذه الحقبة يلاحظ وجود فريقين من الشعراء، الفريق الأول يهجو النعمان ويستخف بقوته والفريق الثاني يكيل له قصائد المدح. والظاهر أن الفريق المتملق يمارس تملقه كنوع من السياسة ليوازن قوى المعارضة أو يؤدي دور المصلح بين الملك والمعارضة حيث يظهر هذا الفريق بعد أن يغزو النعمان البحرين ويلقي القبض على عدد من الرجال، وهو بالضبط ما كان يحدث مع سلف النعمان.


تيار المعارضة

يبرز هنا، مجدداً، الشاعر يزيد بن خذاق الشني الذي خلف أخاه الشاعر سويد، الذي سبق ذكره في الفصل السابق، ويبدو أن هذا الشاعر أصبح بمثابة الناطق الرسمي للتيار المعارض، تماماً كأخيه، حيث نرى قصائده تعبر عن الموقف الرافض لأوامر النعمان، ففي إحدى حركات التمرد عندما أمر النعمان «ابن المعلى» بجمع المكوس له مهدداً من يتخلف عن ذلك بالغزو، وفي هذا الموقف نجد يزيد الشني يعلن الموقف الرافض لقومه وفي نفس الوقت يهجو النعمان ويستصغره فيقول في إحدى قصائده (المعيني 2002، ص152):

نُعْمانُ إِنَّكَ خائِنٌ خَدِعٌ

يُخْفِي ضَمِيرُكَ غيرَ ما تُبْدِي

فَإِذَا بَدَا لَكَ نَحْتُ أَثْلَتِنَا

فَعَلَيكَها إِنْ كُنْتَ ذَا حَرْدٍ

يَأْبى لَنَا أَنَّا ذَووُ أَنَفٍ

وأُصُولُنا من مَحْتِدِ المَجْدِ

إنْ تَغْزُ بالخَرْقاءِ أُسْرَتَنَا

تَلقَ الكتائِبَ دُونَنا تَرْدِي

أَحَسِبْتَنَا لحماً عَلَى وَضَمٍ

أَمْ خِلْتَنَا في البأَسِ لا نُجْدِي

ومَكَرْتَ مُعْتَلِياً مَخَنَّتَنَا

والمَكْرُ مِنْكَ عَلاَمَةُ العَمْدِ

وهَزَزْتَ سَيْفَكَ كيْ تُحارِبَنَا

فانْظُرُ بِسَيْفكَ مَن بِهِ تُرْدِي

وفي قصيدة أخرى للشاعر نفسه يذكر فيها التهديدات ويهجو فيها كلاً من النعمان ووكيله على البحرين «الجارود بن المعلى»:

تَحلَّلْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ من قولِ آثِمٍ

على مالِنَا لَيُقْسَمَنَّ خُمُوسَا

إِذَا مَا قطَعْنا رَمْلَةً وعَدَابَهَا

فإِنَّ لَنَا أَمْراً أَحَذَّ غَمُوسَا

أَقِيمُوا بَنِي النُّعْمانِ عنَّا صُدُورَكُم

وإِلاَّ تُقِيمُوا كارِهِينَ الرُّوؤُسَا

أَكُلُّ لَئِيمٍ مِنْكُمُ ومُعَلْهَجٍ

يَعُدُّ علينا غارَةً فَخُبُوسَا

أَلاَ ابْنَ المُعَلَّى خِلْتَنَا وحسِبْتَنَا

صَرَارِيَّ نُعْطِي الماكِسِينَ مُكُوسَا

فإِنْ تَبْعَثُوا عيْناً تَمنَّى لِقَاءَنا

تَجِدْ حَوْلَ أَبْياتِي الجَميعَ جُلُوسَا

مرة أخرى نجد في هذه الأبيات مرارة الهجاء، وعنف التحدي فالشاعر يطلب إلى النعمان في هذه الرسالة الشعرية الثانية أن يتحلل من اليمين الذي قطعه على نفسه في العزم على غزو عبدالقيس، وتقسيم أموالهم أخماساً كما هي نظم الجاهلية، كما يطلب عدم تكرار الغارات وإرسال الكتائب إلى بلاد العبديين لتهديدهم في أمنهم وحريتهم واستقرارهم في منازلهم وديارهم، ويرغب الشاعر إلى الملك أن يرفع المناذرة أيديهم عن العبديين وإلا اضطرت القبيلة أن تلجأ إلى العنف وتجبرهم على رفعها مكرهين صاغرين (المعيني 2002، ص153).


تيار التملق

على النقيض لسويد ويزيد أبناء خذاق الشني اللذان يمثلان التيار المعارض نرى المثقب العبدي يمثل تيار التملق وقد سبقنا وذكرنا مواقفه من ملوك المناذرة في الفصل السابق، وقد استمر المثقب في كيل قصائد المديح إلى ملوك المناذرة، وكعادته يظهر بعد أن يحل البلاء بعبدالقيس، فيبدو أن النعمان قد نفذ تهديداته وغزا عبدالقيس في البحرين وأسر منهم من أسر، وبعد انتهاء الواقعة يبدأ دور المثقب في إعداد قصيدة مادحاً ومستجدياً فيها النعمان فيقول في إحدى تلك القصائد (مبارك 1995، ص33):

فَإِنَّ أَبا قابوسَ عِندي بَلاؤُهُ

جَزاءً بِنُعمى لا يَحِلُّ كُنودُها

ثم استجداه فيها أن يطلق سراح أسرى عبدالقيس فيقول (مبارك 1995، ص32):

فَأَنعِم أَبَيتَ اللَعنَ إِنَّكَ أَصبَحَت

لَدَيكَ لُكَيزٌ كَهلُها وَوَليدُها

وَأَطلِقهُمُ تَمشي النِساءُ خِلالَهُم

مُفَكَّكَةً وَسَطَ الرِحالِ قُيودُها

علاقة كسرى بالنعمان

الثابت أن النعمان تعرض إلى حنق كسرى الثاني (590م - 628م) عليه، وقد عدد دانيال بوتس عدداً من الأسباب المحتملة لنشوب العداء بين كسرى والنعمان معتمداً في ذلك على المصادر السريالية منها أن النعمان عقد تحالفات وثيقة جداً مع القبائل مع تحريك تيار استقلال لا يستسيغه الساسانيون، ومن الأسباب أيضاً تردد النعمان بالتنازل عن حصان أصيل جداً أراده كسرى، ثم رفضه تزويج كسرى من إحدى كريماته، وهناك عامل آخر يمكن الافتراض أنه تسبب في نشوب النزاع مع كسرى، وهو اعتناق النعمان النصرانية العام 593م (بوتس 2003، ج2 ص1029)، ليس هذا وحسب بل أصبحت الحيرة ملجأ يأوي إليه الجاثليق أحياناً، فقد لجأ الجاثاليق أيشوعياب الأول (582م - 595م) إلى الحيرة، والاجتماع مع النعمان الذي أصبح يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري، وأصبحت الحيرة، حاضرة ملكه، من معاقل هذا المذهب، وهناك وافت المنية الجاثليق أيشوعياب الأول، فتولت شئون دفنه هند الصغرى أخت النعمان (أبونا 1985، ج1 ص167).

أما المصادر العربية فتذكر سبباً آخر لغضب كسرى على النعمان حيث تعزو السبب لطبيعة سلوك النعمان الناتجة عن شعوره بالنقص فقد كان النعمان دميم الخلقة فيقال إنه كان أحمر، أبرش، قصيراً ما جعل خصومه تتهكم عليه، يضاف إلى ذلك أصل أمه سلمى بنت عطية التي يعتقد أنها يهودية من فدك، وقد أثر هذا النقص في نفسية النعمان وفي سلوكه فصيّره سريع الغضب أخاذاً بالوشايات، فوقع من أجل ذلك في مشكلات عديدة أهمها تصديق ما قاله الواشون عن عديّ بن زيد، كاتب كسرى والمقرب لديه، فحبس عدي ثم قتله. (علي 1993، ج3 ص 261 - 262).

وقد قام كسرى بتوظيف كل من أخ عدي وابن عدي المسمى زيد اللذان قاما بتدبير مكيدة للإيقاع بالنعمان (علي 1993، ج3 ص 269).


نهاية المناذرة

بعد أن وقع النعمان في المكيدة المدبرة له أصبح طريداً مطلوباً من كسرى ويقال أن ترجمانه معنا المسيحي من دارين أقنعه أن يسلم نفسه إلى كسرى ففعل فسجنه كسرى ثم قتله وقيل إنه سمم، وقيل أمر به فبطح في ساباط الفيلة فوطأته حتى مات (بوتس 2003، ج2 ص1029 - 1030). وبنهاية النعمان انتهى حكم المناذرة في الحيرة حيث عين كسرى إياس بن قبيصة (602م - 611م) كوالي عربي على الحيرة وعين كسرى أيضاً مندوباً فارسياً يسميه الطبري النخيرجان قام إلى جانب إياس (بوتس 2003، ج2 ص1031). وتدل على ذلك تقارير يوم المشقر (أو يوم الصفقة) الشهير الذي وصفه بالتفصيل الطبري، والبكري، وابن دريد وياقوت وأبو الفرج. وينسبه الطبري إلى كسرى الأول، بينما تتفق جميع المصادر الأخرى على أن كسرى الثاني هو الذي ارتكب هذه المجازر البشرية في تميم، إضافة إلى ذلك، تؤيد الرأي أسماء عدد من أنصار هذا العمل، وهم يعودون إلى بداية العصر الإسلامي وبالتالي لا يمكن أن يكونوا في وظيفة أثناء حكم كسرى الأول (بوتس 2003، ج2 ص1031).


يوم المشقر

ويسمى أيضاً يوم الصفقة، والمشقَّر اسم حصن كان قديماً حصناً عظيماً، ومكاناً مرموقاً في منطقة هجر بالبحرين، وقد دُرست آثار المشقَّر الحصن، فلم يعد هذا البناء قائماً الآن، وزالت المصانع التي كانت حوله، ولا يعرف محله تحديداً في الوقت الحاضر ولكن إيجاد شبه تحديد على الأقل، وقد رجح أنه بني فوق جبل القارة شرق مدينة الهفوف (المعيني 1999).

ويوم المشقر هو يوم انتقام كسرى الثاني من بني تميم وكان والسبب اقتصادي؛ إذ ألغى هوذة دور بني تميم في البذرقة (الحماية التجارية)، وأرادها لنفسه، متَّفقًا مع الأساورة؛ ما أدَّى إلى الاعتداء على القافلة ونهبها، وأغضب هذا الاعتداء كسرى فارس، أما تفاصيل الحادثة فننقلها هنا مختصرة عن كتاب أيام العرب في الجاهلية (المولى بك وآخرون، بدون تاريخ، ص 2 - 5).


إلغاء بذرقة تميم

كانت عير كسرى تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان بن المنذر بالحيرة، والنعمان يحميها حتى تدفع إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فيحميها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، ثم تدفع إلى بني تميم، وتجعل لهم جعالة - أي مكافأة - فتسير بها إلى أن تبلغ اليمن، وتسلم إلى عمال كسرى باليمن. وفي إحدى المرات بعث كسرى أنوشروان إلى عامله باليمن بعير تحمل شجراً للقسي والسهام، وعندما وصلت هذه العير إلى اليمامة ألغى هوذة دور بني تميم في البذرقة وأرادها لنفسه، ولما بلغ بني تميم ما صنع هوذة ساروا إليهم وأخذوا ما كان معهم واقتسموه وقتلوا عامة الأساورة وسلبوهم وأسروا هوذة، فاشترى هوذة نفسه بثلاثمائة بعير.


هوذة مع كسرى

عمد هوذة بعد ذلك إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو تميم - وكانوا قد سلبوا - فكساهم وحملهم، ثم انطلق معهم إلى كسرى، فدخل عليه وقص عليه أمر بني تميم وما صنعوا... فقال كسرى: يا هوذة، رأيت هؤلاء الذين قتلوا أساورتي وأخذوا مالي، أبينك وبينهم صلح؟ قال هوذة: أيها الملك، بيني وبينهم حساء الموت، وهم قتلوا أبي، فقال كسرى: قد أدركت ثأرك، فكيف لي بهم؟ قال هوذة: إن أرضهم لا تطيقها أساورتك وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جنداً من أساورتك، فأقيم لهم السوق، فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.


انتقام كسرى

فعل كسرى ما قاله له هوذة، وحبس عنهم الميرة في سنة مجدبة، ثم أرسل إلى هوذة فأتاه، فقال: إيتِ هؤلاء فاشفني منهم واشتفِ، وأرسل معه ألفاً من الأساورة بقيادة رجل يقال له المكعبر، وهو عامل كسرى على البحرين واسمه بالفارسي: آزاد فردز بن جشنس، وسمّته العرب المكعبر لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل. وسار الجيش حتى نزلوا المشقّر، ثم أقام هوذة سوقاً بالمُشَقّر فبعث إلى بني حنيفة ليمتاروا منها فأتوه فدنوا من حيطان المشقر، ثم نودي: إن كسرى قد بلغه الذي أصابكم في هذه السنة، وقد أمر لكم بميرة، فتعالوا فامتاروا، فانصب عليهم الناس وكان أعظم من أتاهم من بني سعد بن تميم. فجعلوا إذا أتوا إلى باب المشقر أدخلوا رجلاً رجلاً، حتى يذهب به إلى المكعبر فتضرب عنقه، وكان الرجل الداخل للحصن يضع سلاحه قبل أن يدخل، فإذا مر رجل من بني تميم بينه وبين هوذة إخاء أو رجل يرجوه قال للمكعبر: هذا من قومي فيخليه له. وقد نظر خيبرى بن عبادة إلى قومه يدخلون ولا يخرجون، فقال: ويلكم! أين عقولكم؟ فوالله ما بعد السلب إلا القتل، وتناول سيفاً، وضرب سلسلة كانت على باب المشقر فقطعها وقطع يد رجل كان واقفاً بجانبها فانفتح الباب فإذا الناس يقتلون فثارت بنو تميم.

فلما علم هوذة أن القوم قد نذروا به كلم المكعبر في مئة من خيارهم، فوهبهم له يوم الفِصح. فكان هذا اليوم من أسوأ الكوارث التي مُني بها بنو تميم وقد قتل منهم جمعاً كبيراً.

العدد 3037 - الأربعاء 29 ديسمبر 2010م الموافق 23 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً