العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ

البحرين في القرن السابع (4)... تمرد بيت قطرايا

كانت سلوقية – طيسيفون عاصمة الدولة الفارسية وهي مدينتان متجاورتان وكانت سلوقية هي مركز جاثليق كنيسة الشرق وتسمى بالسريالية ساليق أو ماحوز واللفظة الأخيرة تعني بالعربية المدينة،وقد فتح العرب المسلمين سلوقية – طيسيفون في ثلاثينيات القرن السابع الميلادي،وقد بني على أنقاض تلك المدن مدينة المدائن. وحالياً توجد مدينة باسم المدائن أو سلمان باك تقع على بعد بضعة كيلومترات جنوب شرق بغداد وقد بنيت هذه المدينة بالقرب من موقع مدينة المدائن التاريخية لذلك سميت بالمدائن وهي تضم قبر الصحابي سلمان الفارسي،ومنه اسم المدينة الآخر سلمان باك، ويوجد بها كذلك مبنى إيوان كسرى أو كما يسميه أهل بغداد والمنطقة باسم طاق كسرى (طاگ كسرى).

بعد الفتوح الإسلامية في العراق أصبح مقر جاثليق كنيسة الشرق في المدائن تحت سيطرة المسلمين منذ العام 635م وهذا الحدث أدى لزيادة حدة التمرد التي بدأت في ريو أردشير التي لم تقع تحت السيطرة الإسلامية إلا في العام في 650/ 651م (Beaucamp et Robin 1983) إلا أن هذا لم يكن السبب الرئيسي للخلاف فقد سبق أن ذكرنا وجود خلاف بين ريو أردشير وجاثليق كنيسة الشرق من قبل ظهور الإسلام وقد تم الإعلان عن هذا التمرد في المجمع الكنسي الذي عقده الجاثليق أيشوعياب الأول العام 585م حيث لم يحضر غريغوريوس رئيس أساقفة مدينة ريو أردشير وكذلك لم يحضر أي أسقف من أبرشيات الجزر (بيت قطرايا) ولم يمثلهم أحد،ولم يكن غياب غريغوريوس «وأساقفة إقليمه» عفوياً كما تشير إلى ذلك محاضر جلسات المجمع الكنسي،فغيابهم يعود إلى رفضهم الاستجابة إلى نداء الجاثليق، أي الاعتراف بسلطته البطريريكية،وقد يعود غياب أساقفة أبرشيات الجزر إلى السبب نفسه (Beaucamp et Robin 1983). وفي العام 649م تسلم قيادة كنيسة الشرق في سلوقية – طيسيفون الجاثليق النشيط أيشوعياب الثالث (649م – 660م) والذي حاول توحيد الطائفة النسطورية (بوتس 2003،ج2 ص 1039).


سياسة أيشوعياب الثالث

كانت مسئولية أيشوعياب الثالث التفاوض مع أساقفة ريو أردشير وبيت قطرايا لكي يقبلوا بسلطته ويمتثلوا لأوامره. وتتلخص سياسة أيشوعياب الثالث في فصل كل من ريو أردشير عن بيت قطرايا لكي يتمكن من التعامل مع كل منطقة على حدة حيث كان بيت قطرايا تابعاً لريو أردشير وقد استغل أيشوعياب الثالث هذه النقطة فنلاحظ في خطاباته التي أرسلها لبيت قطرايا يؤكد فيها على نقطة عدم استقلالية بيت قطرايا وعلى ارتباطه بريو أردشير حيث إن بيت قطرايا لا يمثل إقليماً كنسياً على رأسه رئيس للأساقفة إذ إن أساقفة هذه المنطقة كانوا تابعين للكرسي الأسقفي لريو أردشير أي أن أسقف مدينة ريو أردشير يعتبر رئيساً لأساقفة ريو أردشير وبيت قطرايا في آن واحد،وفي إحدى رسائل أيشوعياب الثالث التي سنتناولها لاحقاً وهي الرسالة رقم واحد وعشرين المرسلة للرهبان في بيت قطرايا يسخر أيشوعياب الثالث على وجه الخصوص من الموقف المتناقض لأساقفة بيت قطرايا فهم يطالبون بالاستقلال عن الجاثليق ولكنهم لايزال يتم تعيينهم في ريو أردشير،فلا يوجد مغزى من المضي في انشقاقهم عن الجاثليق ليصلوا إلى نهاية منطقية وذلك بأن يتم تعيينهم من قبل ريو أردشير. وقد رجح كل من بيوكامب وروبن أن أيشوعياب الثالث برسالته هذه كان يشجع بيت قطرايا لكي تتمرد على ريو أردشير (Beaucamp et Robin 1983).

بعد أن تأكد أيشوعياب الثالث من فصل المنطقتين عن بعضهما بدأ يتعامل مع كل منطقة بصورة منفصلة وبطريقة واحدة حيث يقوم بإرسال أساقفة للتفاوض ثم يقوم بإرسال مجموعة من الرسائل ثم يحاول أن يجعل سكان المنطقة يتمردون على الأساقفة.

تمرد ريو أردشير

في فترة تولي أيشوعياب الثالث منصب الجاثليق كان الأسقف سمعان رئيس أساقفة ريو أردشير وكان هو وأتباعه يتبعون سياسة استقلال عن الجاثليق،ومن الأمور التي أحدثها سمعان وأتباعه رسم ما يزيد على عشرين أسقفاً ومطرانين بصورة غير شرعية،وكان أيشوعياب الثالث يرسل العديد من الرسائل إلى أولئك وكان يرمي من ذلك في الحد الأدنى إلى تبادل الرسائل بين ريو أردشير وبينه شخصياً ليثبت أن ريو أردشير لاتزال عضواً في الكنيسة برضاه. وفي إحدى رسائله إلى سمعان والذي كتبها العام 647م أثنى أيشوعياب الثالث كثيراً على العرب المسلمين فقد كتب (بوتس 2003،ج2 ص 1039 والحاشية ص 1039): «هؤلاء العرب الذين وهبهم الله في الوقت الحاضر إمبراطورية العالم قريبون أيضا جدا منا مثلما تعلمون،وليس لأنهم لا يهاجمون الديانة المسيحية،بل يمدحون معتقدنا،ويكرمون الكهنة وقديسي الرب،ويعطون مكاسب للكنائس والأديرة».

وعندما فشلت محاولة تسوية الخلاف بعث أيشوعياب الثالث أسقفين من خوزستان (بيت حوزية) هما تيودور وجورج لتحقيق تقارب فأجاب أساقفة فارس باطلاع السلطات المسلمة على قراراتهم طالبين مساندتهم ضد الأسقفين الزائرين (بوتس 2003،ج2 ص 1040). أخيراً تنازل أيشوعياب الثالث عن موقفه المتشدد وقام بزيارة خاصة إلى ريو أردشير،ونجح بإعادة سمعان إلى منصبه وبإجراء تسويات ناشئة عنها،وأعطى ريو أردشير بعض الامتيازات،فنجح بإعادة توحيد ريو أردشير مع الكنيسة إلا أن بيت قطرايا لم تكن طرفاً في هذه التسوية وبقيت متمردة حتى العام 676م (بوتس 2003،ج2 ص 1041).


تمرد بيت قطرايا

يوجد مصدران رئيسيان لتتبع أحداث التمرد في بيت قطرايا،الأول خطابات الجاثليق أيشوعياب الثالث المرسلة إلى أساقفة وأهالي ورهبان بيت قطرايا،والثاني محاضر جلسات المجمع الكنسي الذي عقده خلفه جرجيس الأول في جزيرة دارين العام 676م. وتبين الخطابات وجود أزمة حادة في بيت قطرايا وهي شبيهة بحركة التمرد التي كانت تحدث في نفس الوقت في ريو أردشير،وقد اتبع أيشوعياب الثالث الأسلوب ذاته الذي اتبعه مع ريو أردشير وهو إرسال المفاوضين وإرسال الرسائل.


إرسال المفاوضين

لقد كان أيشوعياب الثالث يعنف أساقفة ورهبان وسكان بيت قطرايا بشدة ويتهمهم بانفصالهم عن سائر العالم المسيحي وأنهم اعتنقوا الإسلام من أجل مكاسب دنيوية تفادياً لدفع الجزية. فبادر أيشوعياب الثالث إلى إرسال أسقفين من بيت ميشان إلى بيت قطرايا في محاولة منه لتسوية القضية إلا أنهما عادا من هناك حاملين أخباراً بأن الأساقفة هنالك قدموا فعلاً إلى سلطات المسلمين في المنطقة طلبات مكتوبة ومختومة يعلنون فيها استقلالهم عن جاثليق سلوقية - طيسفون ويطلبون مساعدة تلك السلطات لتأمين تحقيق رغباتهم (بوتس 2003،ج2 ص 1040).

في واقع الأمر ما كان يقلق الجاثليق هو أن انشقاق الأساقفة سيؤدي حتماً إلى إضعاف العقيدة النسطورية فلم يكن ما يهدد الكنيسة النسطورية هو الاعتناق الجماعي للإسلام بل انشقاق الأساقفة،إلا أن هناك من يرى عكس ذلك وهذا الرأي المعاكس يستند على أساس فهم خطأ لخطابات أيشوعياب الثالث التي سنناقشها لاحقاً،فهذه الخطابات تذكر أن هناك العديد من المسيحيين الذين يعتنقون الإسلام تفادياً لفقدان ثرواتهم،لكن المقصود بهؤلاء هم مسيحيو مزون أي مسيحيي عمان،فمشكلة بيت قطرايا تختلف عن هذه فأساقفتها شأنهم شأن أساقفة ريو أردشير يرفضون الاعتراف بسلطة الجاثليق أي باختصار يرفضون أن يتم تعيينهم من قبله وتسلم ما تسميه الكنيسة النسطورية «بالتحسين» (Beaucamp et Robin 1983).


رسائل أيشوعياب الثالث

أرسل أيشوعياب خمس رسائل لبيت قطرايا: رسالة واحدة وجهها لأساقفة بيت قطرايا (الرسالة رقم سبعة عشر) ورسالتين موجهتين للمسيحيين في بيت قطرايا (الرسالتين رقم ثمانية عشر وتسعة عشر) ورسالتين موجهتين لرهبان بيت قطرايا (الرسالتين رقم عشرون وواحد وعشرون) (Bin Seray 1996 and Brock 2000).


رسالة الأساقفة

فأما الرسالة التي أرسلت لأساقفة بيت قطرايا فقد تضمنت تأنيباً لهم بسبب انفصالهم عن الكنيسة،وقد طلب أيشوعياب الثالث من الأساقفة الامتثال لأوامر الجاثليق مثل ما يفعل مسيحيو بيت مزونية (عمان) (Bin Seray 1996 and Brock 2000)،إلا أن تهديداته لم تلاقِ إلا آذاناً صماء.


التحريض ضد الأساقفة

عندما لم يستجب الأساقفة وجه أيشوعياب الثالث رسالتين للمسيحيين في بيت قطرايا،في الرسالة الأولى (الرسالة رقم ثمانية عشر) أشار أيشوعياب للرسالة التي بعث بها إلى الأساقفة وقد وصف أيشوعياب الأساقفة بالشياطين واتهمهم أنهم هم من يتسببون بالمشاكل وأنهم تمردوا ورفضوا حضور مجمع للصلح وأنه أرسل لهم أسقفين للتفاوض معهم إلا أنهم رفضوا الصلح،وقد طالب أيشوعياب في الرسالة المسيحيين في بيت قطرايا بالتمرد ضد أولئك الأساقفة المتمردين والذين لم يرسموا بصورة شرعية وأن عليهم أن ينتخبوا أساقفة آخرين بدلاً عنهم (Bin Seray 1996 and Brock 2000).


تمرد إبراهيم المشماهيجي

وفي الرسالة الثانية (الرسالة رقم تسعة عشر) التي وجهها أيشوعياب للمسيحيين في بيت قطرايا ذكر خاص لأسقف مشماهيج المتمرد إبراهيم والذي يسميه أيشوعياب «أمير الشر الذي يحكم في مشماهيج» على الرغم من أن إبراهيم هذا كان يقال عنه إنه أفضل من يستحق المديح والسمو بين مطارنة بيت قطرايا. وقد اتهم أيشوعياب إبراهيم أنه يسيء معاملة الرهبان وأنه يجبرهم على الوقوف مع المتمردين،وقد نصح أيشوعياب المسيحيين أن يفتحوا أعينهم للشر الذي يحدث هناك. ويبدو أن إبراهيم المشماهيجي كان أكثر أساقفة بيت قطرايا قذعاً وتشدداً في حركة الانشقاق هذه،وقد مضى في تشدده إلى حد اضطهاد جماعات الرهبان الذين علقوا آمالهم في الجاثليق،وقيل إنه في تلك الأثناء طرد إبراهيم أفضل رهبانه من منطقته (Bin Seray 1996 وبوتس 2003،ج2 ص 1041 والحاشية ص 1041).


الرسائل الموجهة للرهبان

أما الرسائل الموجهة لرهبان بيت قطرايا فقد احتوت الأولى (الرسالة رقم عشرون) على شكر لهم ولولائهم فقد عاد الأسقفان اللذان أرسلهما أيشوعياب الثالث للتفاوض وأثنوا كثيراً على موقفهم الموالي له. وقد أخبر أيشوعياب أن أساس الشر هو سمعان أسقف ريو أردشير. وقد طلب أيشوعياب من الرهبان أن يقرأوا رسائله للناس كافة وكذلك رسالته التي أرسلها للأسقف ومن بعد ذلك يتوجب عليهم أن يكتبوا له ليخبروه بما هم يفعلونه (Bin Seray 1996 and Beaucamp et Robin 1983).

أما الرسالة الثانية (الرسالة رقم واحد وعشرون) فيبين فيها أيشوعياب الثالث أن الرهبان ما عادوا بتلك القوة في الثبات فقد بدأ بعضهم في الانقياد للمتمردين والبعض الآخر يهدد بالانضمام للمتمردين،وقال أيشوعياب الثالث إن جميع أساقفة كنيسة الشرق يساندونه باستثناء أساقفة بيت قطرايا وريو أردشير وإنه أرسل العديد من الرسائل لأساقفة ورهبان كلٍ من بيت قطرايا وريو أردشير وإن البعض لم يقرأ الرسائل للناس حيث رفض نمباروج في الخط تسليم رسائل أيشوعياب إلى أقرانه من أعضاء الكنيسة خوفاً من الثأر (Bin Seray 1996 وبوتس 2003،ج2 ص 1041).


التمادي في التمرد

أرسل بعض الرهبان من بيت قطرايا رسائل لأيشوعياب الثالث يخبرونه بأنهم يلاقون ضغوطاً كبيرة من قبل المتمردين،ولقد ساء الأمر كثيراً في بيت قطرايا ولم يستطع أيشوعياب الثالث أن يعمل شيئاً حتى وفاته العام 660م وقد خلفه على كرسي الجاثليق جورجيس الأول (661م – 680م) وقد استطاع هذا الأخير حل الأزمة وذلك بإعطاء بيت قطرايا استقلالاً نسبياً وسوف نناقش تفاصيل ذلك في الفصل القادم.

العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:14 ص

      عندما تكتبون على الأقل أكتبوا صح

      التعليق موجه لكاتب المقال الذي لم يعرف ان يميز بين اللغة السريانية والسريالية ومن ثم الكنيسة إسمها كنيسة المشرق وليس الشرق، ولا أدري لماذا اقتبس من كتب ولم يتوجه الى الأصل أي الى مسؤولي كنيسة المشرق لكي يحصل على المعلومات المتعلقة بتنظيم الكنيسة لأنه في الزمن الذي يتحدث عنه الكاتب كان هناك إنفصال في الكنائس تماماً كما حصل عند المسلمين في مذاهبهم المتفرقة. أما عن أولئك المسيحيين الذين "دخلوا" الإسلام فالتاريخ يخبرنا بأنهم أجبروا للضغوط التي كانت تمارس عليهم من الجزية والضرائب وغيرها ...

اقرأ ايضاً