العدد 3072 - الأربعاء 02 فبراير 2011م الموافق 28 صفر 1432هـ

البحرين في القرن السابع (5): استقلال بيت قطرايا

في الفصل السابق ناقشنا تمرد كل من بيت قطرايا وريو أردشير ضد جاثليق كنيسة الشرق مطالبين بالاستقلال عنه وقد اشتد هذا التمرد بعد الإسلام حيث وافقت السلطات الإسلامية في تلك المناطق على استقلالهم ضمن شروط معينة. وقد حاول الجاثليق أيشوعياب الثالث إعادة تلك المناطق تحت سلطته واتبع سياسة التفريق بين تلك المناطق ليتمكن من التعامل مع كل منطقة على حدة وقد نجح بالفعل في إعادة ريو أردشير تحت سلطته وذلك بعد إعطائهم امتيازات معينة ولم تكن منطقة بيت قطرايا ضمن تلك التسوية فهي لم تستجب له، لكن الجاثليق على ما يبدو تمكن من فصلها عن ريو أردشير فبقيت هي المنطقة الوحيدة المتمردة ضد الجاثليق وبقيت كذلك حتى عهد الجاثليق جورجيس الأول (661م – 680م) الذي خلف أيشوعياب الثالث، وفي عهده أعلن بيت قطرايا استقلاله الرسمي عن ريو أردشير وبذلك أصبحت بيت قطرايا كمنطقة كنسية مستقلة أي أنه سيكون لها كبير للأساقفة، وقد تمادى أساقفة بيت قطرايا إلى أبعد من ذلك عندما اتفقوا على تسمية الأسقف «توماس» (أو توما) مطران بيت قطرايا (بوتس 2003، ج2 ص 1041). وبذلك لم يبقَ أمام الجاثليق جورجيس إلا الانصياع لمطالب بيت قطرايا وإعطائهم الاستقلال بصورة رسمية وذلك في العام 676م. أما تفاصيل هذا الحدث فننقلها عن بحث بيوكامب وروبين (Beaucamp et Robin 1983) ولكن بصياغة مختلفة.


مجمع العام 676م في دارين

دعا الجاثليق جرجيس الأول إلى عقد مجمع كنسي في جزيرة دارين وذلك لحل الأزمة، ويشير محضر المجمع إلى حضور أساقفة بيت قطرايا الرئيسيين وهم أيشوعياب أسقف دارين وبوسيه أسقف هجر وشاهين أسقف الخط وكذلك حضر توماس رئيس أساقفة بيت قطرايا. وتؤكد المراجع أن هذا المجمع عقد لحل أزمة تمرد بيت قطرايا ضد الانصياع لكبير أساقفة ريو أردشير التي كانت تابعة له وبذلك يكون بيت قطرايا يطالب بالاستقلال عن ريو أردشير ليكون منطقة كنسية وليس الاستقلال عن جاثليق كنيسة الشرق أي أنه لم يعد هناك ثمة عصيان مشترك بين ريو أردشير وبيت قطرايا ضد الجاثليق في العام 676م (كما كان عليه الحال في الفترة بين 649 و659م). وقد ظهر جراء ذلك إقليم كنسي جديد (أي بيت قطرايا) على رأسه رئيس لأساقفة خاص به.


موقع رئيس الأساقفة في بيت قطرايا

هناك من الباحثين من أمثال جان ماري فاي الذي كتب عن تاريخ كنيسة الشرق الذين يقللون من أهمية ذكر وجود مطران لبيت قطرايا حيث يرى «فاي» أن ذلك تنازل مؤقت من جانب الجاثليق بدلاً من كونه مبادرة محلية، وحجته في ذلك تستند على خلو القوائم الأسقفية اللاحقة في المجامع الكنسية من ذكر بيت قطرايا. بالفعل يجد الباحث صعوبة في سبب عدم ذكر بيت قطرايا، فهل اعتزل بيت قطرايا عن بقية المجتمع النسطوري؟ أم أن المجتمع النسطوري في بيت قطرايا اضمحل ولم يعد له وجود؟ إلا أنه من خلال تتبع تاريخ بيت قطرايا نلاحظ أن أساقفته لم تكن تواضب على حضور المجامع الكنسية من قبل حدوث الخلاف بينهم وبين الجاثليق فليس بالغريب أن يختفي اسم المنطقة من محاضر المجامع الكنسية اللاحقة بعد أن أعطيت استقلالاً نسبياً وبعد أن تقلص المجتمع النسطوري وأصبح مقيداً بعهود مع السلطات الإسلامية في المنطقة.

أياً كان الوضع لوجود مطران في بيت قطرايا مؤقتاً أو دائماً فأين يقع مقر هذا المطران؟ لقد ذكرنا في فصل سابق عدداً من الأسقفيات التي ذكرت في بيت قطرايا على مر التاريخ إلا أن أيشوعياب الثالث ذكر في رسائله خمس مناطق كنسية أساسية هي: مشماهيج وتالون ودارين وهجر والخط، ومن بين هذه الأسماء الخمسة المذكورة ذكر ثلاثة أساقفة فقط في محضر المجمع الكنسي الذي عقد في دارين للعام 676م وهي تمثل ثلاث مناطق فقط هي: دارين وهجر والخط، بالإضافة لذكر توماس مطران بيت قطرايا، فعلى اعتبار أن قائمة الأسقفيات التي ذكرها أيشوعياب الثالث هي الأساسية في هذه الحقبة، إذاً لم يبق من هذه الأسماء الخمسة سوى اسمي تالون ومشماهيج، وحيث إن مشماهيح هي في آن واحد أقدم أسقفية في بيت قطرايا، وهي التي ما يتردد ذكرها مع دارين، وهي التي لعبت أهم الأدوار في الأزمة التي نشبت في زمن الجاثليق أيشوعياب الثالث، لهذا فإن المرجح أن مقر مطران بيت قطرايا كان قائماً في مشماهيج أي في أرخبيل البحرين.


قوانين مجمع 676م

توضح محاضر المجمع الكنسي الذي عقد في دارين العام 676م، بالإضافة إلى إقرار مطران لبيت قطرايا، معلومات دقيقة عن أوضاع الطوائف النسطورية في بيت قطرايا حيث أشارت مقدمة المحاضر إلى الاضطرابات العامة السائدة في تلك الحقبة من خلال عبارات تتضمن تلميحات إلى التغييرات السياسية الأخيرة في المنطقة بصورة عامة وأن وضع بيت قطرايا هو الذي يثير قلق المجمع الكنسي بصورة خاصة فقد ورد في المحاضر:

وقد وجدنا أموراً شتى بحاجة إلى تجديد لدى الناس الذين يكنون مودة للمسيح ويعيشون في هذه الجزر من البحر الواقعة في جنوب العالم ومن جملة الأمور التي وجدناها بحاجة إلى تقويم هناك بعض الأمور التي يجب أن تدون الإصلاحات فيها ضمن قوانين وشرائع مكتوبة حتى وإن كان بعض منها قد سنها آباؤنا الأبرار في المجامع الكنسية السابقة.

ويعتبر هذا الإيضاح جوهرياً حيث إنه يثبت أن القوانين والشرائع التي تم إصدارها في مجمع دارين ببيت قطرايا جاءت لتدارك الشرور والمصائب الحقيقية المحدقة ببيت قطرايا في العام 676م، حتى عندما تضمنت هذه القوانين استعادة لبعض الأحكام القانونية المبتذلة للكنيسة النسطورية. سنتناول هنا بعض هذه القوانين وما جاءت لتعالجه بحسب ما جاء في دراسة بيوكامب وروبين سالفة الذكر.


التنظيم الداخلي للكنيسة

من أهم مشاكل بيت قطرايا آلية منح الرتب الكهنوتية للأساقفة والتي كانت في تلك الحقبة حيث كانت هناك بعض الصعوبات المتعلقة بالتنظيم الداخلي للكنيسة (الوصول إلى الرتب الكهنوتية، صلاحيات الأساقفة) والذي وضع لها المجمع الكنسي آنف الذكر حلاً وفقاً للأسلوب التالي والذي نص عليه القانون الثالث من ذلك المجمع:

بعد انتخابهم (أي الأساقفة) يقوم رئيس الأساقفة بمنحهم الرتب الكهنوتية ويقوم بإشعار الجاثليق بذلك «بأن يرسل إليه صك الإذعان إلى الجمهور»، ويمارس الأسقف بأمر من الجاثليق صلاحيات رتبته الكهنوتية ويتمتع بقداسه كاملة».


دور الأساقفة

تضمنت القوانين التي نص عليها المجمع ستة قوانين خاصة بتحديد دور الأسقف حيث أوضحت تلك القوانين أن تنظيم الرتب الكهنوتية وإسناد مسئولية كنيسة أو دير تعتبر من صلاحيات الأسقف وحده (القانون الخامس)، وأن هذه الأمور لا يجوز أن تخضع لضغوط السلطات الدنيوية، كما لا يجوز أن يضلع بها ويقررها أسقف آخر غير الأسقف المحلي (القانون السابع). ويتوجب أن تشيد الكنائس والأديرة في المدن والقرى بتصريح من الأسقف وأن تخضع لسلطته (القانون الثاني)، ولا يجوز إدارة أملاك الكنيسة من قبل الأسقف نفسه ولكن بواسطة شخص جدير بالثقة يعين لطريقة واضحة ومحددة (القانون الرابع)، كذلك فإن الأسقف مكلف بالعناية بالأيتام والمحافظة عليهم وتعيين الأوصياء القائمين بأمورهم وذلك بموافقة الأعمام والأخوال (القانون الحادي عشر).

وقد كانت ظروف تلك الحقبة المواتية للمجمع صعبة وكانت ناجمة عن حالة قحط تعصف بالمنطقة وعليه وضع المجمع قانوناً يلغي شعائر تقديم القربان المفروضة على الذين يحصلون على رتب كهنوتية (القانون الثامن).


النظام الكنسي وسلوك الأساقفة

وهناك سلسلة أخرى من التنبيهات تتعلق بالنظام الكنسي وسلوك الأساقفة فقد وضع المجمع ثلاثة قوانين لتوضيح ذلك:

لا يجوز لرجال الدين أن يغادروا الكنيسة أو المدينة دون إذن من الأسقف (القانون العاشر)، ويتوجب على الرهبان أن يتعلموا الكتاب المقدس وأن يعيشوا في الأديرة أو في الصوامع تحت إشراف رجل دين أعلى منهم مرتبة، لأنه لايزال عالقاً في الأذهان تلك الفوضى التي أحدثها أولئك الذين يدعون بأنهم رهبان دون أن تكون لهم حياة رهبانية (القانون الثاني عشر). وقد اتخذت إجراءات صارمة من أجل الحفاظ على السلوك الخلقي للراهبات (القانون التاسع).


أفراد المجتمع المسيحي

وضع المجمع أيضاً أربعة قوانين ذات طابع ديني وأخلاقي واجتماعي وقانوني تتعلق بكافة أفراد المجتمع المسيحي في المنطقة، وهذه القوانين تنص على وجوب حضورهم إلى الكنيسة جهاراً واشتراكهم في محافل وتجمعات أتباع الكنيسة التي تقام أيام الآحاد والأعياد، وعدم أداء الصلوات في الأديرة والصوامع أو في بيوتهم (القانون الخامس عشر). كذلك شددت القوانين على الامتثال بأمر الزواج بزوجة واحدة وعدم اتخاذ أخريات من قريب أو من بعيد كحرائم أو عبيد أو تحت أي مسمى وإن من يفعل ذلك سوف يطرد من الطائفة (القانون السادس عشر) ويجب أن يتم الزواج بموافقة الوالدين وأن يحتفل به بوجود الصليب المقدس لخلاصنا وتلاوة البركات الكهنوتية (القانون الثالث عشر). وفيما يخص مراسم الدفن الجنائزية فقد أصدر المجمع قانوناً ينص على أنه يتوجب أن تتم تلك المراسم بأكبر قدر من البساطة وبدون نحيب مهول (القانون الثامن عشر)، أي اللجوء إلى الندب والعويل. إلا أن أهالي بيت قطرايا عارضوا هذا القانون الأخير الذي هز مشاعرهم وعليه تم تدارك الأمر وجرى تخفيف القانون فوراً وقد ترك للأسقف حرية الخيار في الحكم في الصفة المفرطة لعلمهم.


تعامل المسيحيين مع الجماعات الأخرى

لم تكن المسيحية تمثل الغالبية في بيت قطرايا فهناك عدد من الجماعات الدينية الأخرى وهو المسلمون واليهود والوثنيون وغيرهم، بمعنى آخر كان الجاثليق يرى أن هناك حالة من حالات المنافسة بين تلك الجماعات الدينية وعليه أصدر حزمة من التشريعات والقوانين لصقل المظهر الخارجي للطائفة المسيحية في المنطقة كما مر علينا سابقاً من قبل الاهتمام الذي تبديه الكنيسة بأن تظهر الراهبات بمظهر مشرف للنصرانية أمام الناس بالخارج (القانون التاسع) وأن يجتمع الأتباع المؤمنون في الكنيسة لأداء الصلوات الجماعية (القانون الخامس عشر). ويتضح من هذه الحالة الأخيرة وجود منافسة خفية بين الكنيسة الأسقفية والأديرة، كما أن هناك خشية من قيام البعض عند قدومهم إلى الكنيسة بالإسراع في أداء الصلاة في موضع منفصل أو في مخبأ أو العودة من حيث أتوا، فغرض هذا الإجراء هو أن يكون الاجتماع في الكنيسة ملفتاً للنظر من خلال تردد الناس وإقبالهم عليها وإضفاء طابع العظمة والروعة اللائق بها فهذه محاولة تضفي على عزم الطائفة النسطورية لتؤكد ذاتها صفة دفاعية تجاه الوسط المحيط بها. وقد وضع المجمع قانوناً خاصاً وهو القانون السابع عشر والذي يحرم شرب النبيذ في حانات اليهود في أيام الأعياد في الوقت الذي تتوافر فيه حانات للمسيحيين بإمكانهم أن يشبعوا رغباتهم فيها من شرب النبيذ، وينص هذا القانون أيضاً على وجوب شرح المعتقد السليم القويم إلى الأتباع المؤمنين بأسلوب يمكنهم من الرد على المشعوذين إذا حدث وأن سألهم عن معتقداتهم وما يدعون إليه.

وقد شدد القانون الرابع عشر على وجوب أن تتخذ النساء المسيحيات حذرهن بكل ما أوتين من قوة من الزواج بغير المسيحيين وهو الأمر الذي يعرض انتماءهن الديني للخطر، وقد يفهم من هذا القانون أنه يشير إلى عمليات التحول إلى الإسلام. كذلك قد يفهم من التنبيه المسهب المتعلق بالالتزام بالزواج بزوجة واحدة وبالالتزام بالطقوس الدينية للزواج (القانون السادس عشر والثالث عشر) بأنها تدابير دفاعية تجاه الشريعة الإسلامية والتوسع الإسلامي. ولكن توجد هناك بعض السوابق التي حدثت قبيل الفتح الإسلامي.


العلاقة بين المسيحيين والسلطة المحلية

وتوجد أيضاً عدة قوانين تهتم بالعلاقة بين الطائفة والسلطة الدنيوية فلا يجوز الانخراط في سلك الكهنوت عن طريق الاعتماد على دعم السلطات الزمنية (القانون السابع) ولا يمكن لرجال الدين المثول أمام الذين بيدهم السلطة الدنيوية بدون تصريح من الأسقف (القانون العاشر) كما تم السعي من أجل المحافظة على استقلالية الطائفة في مجال القضاء (القانون السادس) الذي ينص على وجوب مقاضاة الدعاوى والخصومات بين المسيحيين والحكم فيها ضمن سلطات الكنيسة ولا يجوز أن تجري هذه المحاكمة خارج الكنيسة، كمثل الذين ليست لهم شريعة أو قانون، ويجب أن يحكم فيها قضاة يعينهم الأسقف من بين القساوسة وفق الاجتماع الضمني للطائفة، ويجب إبداء عناية خاصة لإيضاح الأخير، ولا يجوز أن تسند لأي من المؤمنين مهام مقاضاة الأتباع المؤمنين بدون أمر من الأسقف وبدون اجتماع الطائفة طالما أن ضغوط أوامر السلطات الزمنية لا تجبره على الامتثال لذلك. أما القانون الأخير وهو القانون التاسع عشر فقد جاء لينظم دفع الجزية للمسلمين وهي المرة الأولى التي يذكر فيها ذكر صريح أن مسيحيي بيت قطرايا كانوا يدفعون الجزية للمسلمين، وينص هذا القانون أنه لا يمكن لأتباع المؤمنين الذين بيدهم النفوذ أن يفرضوا على الأسقف أداء الجزية والإتاوة نظراً لمكانة الشرف الذي تبوأها الأسقف وأن السلطات الإسلامية قد أسندت مسئولية الجباية إلى أفراد من الطائفة النسطورية لذا يجب احتساب حصة الأسقف على الجباة أو على الطائفة بأكملها.

العدد 3072 - الأربعاء 02 فبراير 2011م الموافق 28 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً