العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ

التطور الدلالي: معجم الأسماك المحلية مثالاً

بدأت منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي مشروع جمع وتوثيق أسماء الحيوانات المحلية مستخدماً عدة طرق شملت طرق الجمع الميداني المباشر من العديد من مناطق البحرين وأخذت أصنف تلك الحيوانات كما هو متبع في الطرق العلمية معتمداً على ما وثق في المراجع العلمية وبذلك كانت بداية مشروع استمر حتى يومنا هذا وهو مشروع معجم الأسماء المحلية لحيوانات البحرين, وكان الهدف الأساسي منه توثيق الأسماء المحلية ودراسة التطور الذي لحق بها عبر الزمن, فالأسماء كبقية ألفاظ اللغة معرضة للتطور, وهذا التطور يخضع في سيره لقوانين جبرية ثابتة واضحة المعالم، ولا يستطيع أحد أن يوقف عملها أو يغير نتائجها إلا أن سرعة التغير ونتائجه تختلف من زمن لآخر ومن جانب لآخر من جوانب اللغة, فهناك تطور عفوي بطيء نسبياً وهناك تطور مقصود بفعل الإنسان وهو الأسرع والأخطر والذي أدى لضياع كم كبير من تراثنا اللغوي وهو ما سنتناوله في العديد من فصول هذه الدراسة.


محاور التطور اللغوي

يشمل التطور في اللغة العربية ثلاثة تبدلات رئيسية هي: تبدلات صوتية وتبدلات المفردات وتبدلات الدلالة. تختص التبدلات الصوتية وتبدلات المفردات بالكلمات بينما تختص الدلالة بالمعاني وبما أن قائمة الألفاظ أي الكلمات منتهية مهما كثرت وأن المعاني قائمة مفتوحة غير محدودة فإن تطور معاني الكلمات أو تغييرها وانتقالها أظهر ما يكون في تطور النظام اللغوي في جميع مستوياته, وهذا لا يعني أن التطور في صورة الألفاظ غير واقع ولكنه يظل أقل بكثير من التطور في الجانب الدلالي وهو ظاهرة شائعة في كل اللغات وذلك لأن العوامل الاجتماعية والتغيرات الحياتية التي تواكبها اللغات تفرض ذلك. ومن أوائل الكتب وأشهرها التي درست الدلالة كتاب «دلالة الألفاظ» لإبراهيم أنيس الذي صدر العام 1958م (أنيس 1984, ط5, المقدمة) بعدها استحدث مسمى «علم الدلالة» semantics والبعض يسميه علم المعنى ومن الخطأ تسميته علم المعاني فهذا الأخير فرع من فروع البلاغة (عمر 1998, ص11). وقد صدرت كتب متخصصة في هذا العلم الذي بدأ في الغرب ثم بدأ ينتشر عند العرب, وقد ظهرت أولاً الكتب المترجمة التي تحمل عنوان «علم الدلالة» ومن أشهرها كتاب بالمر (بالمر 1985) ثم ظهرت الكتب العربية التي تحمل العنوان ذاته وكان أولها كتاب أحمد مختار عمر الذي صدر العام 1985م (عمر 1998, ط5, المقدمة) وقد تلته كتب أخرى تحمل العنوان ذاته.


تطور دلالة الألفاظ

الألفاظ لا تستقر على حال واحد فهي تتبع الظروف فكل متكلم يكوّن مفرداته من أول حياته إلى آخرها بمداومته على الاستعارة ممن يحيطون به؛ فالإنسان يزيد من مفرداته، ولكنه ينقص منها أيضاً, ومع مرور الزمن وتغير الظروف المحيطة وزيادة الاكتشافات من نباتات وحيوانات وكثرة الابتكارات لأدوات وآلات تسهل الحياة على الإنسان سيحتاج الإنسان كذلك لابتكار ألفاظ جديدة يعبر بها عن معنى جديد لم يكن معروفاً من قبل, وبذلك تكون هذه الحاجة أهم العوامل التي تؤدي إلى تطور الدلالة، فالمتكلمون بلغة من اللغات عندما يستجد لديهم معنى جديد لم يكن معروفاً من قبل، يحاولون تعيين دالٍّ لـه من ذخيرتهم اللفظية القديمة. وقد أدت كثرة استعمال ألفاظ دون غيرها لسرعة تطورها فالاستعمال يعتبر أكثر أسباب التطور الدلالي أهمية, ويؤكد الجبوري في كتابه «تطور الدلالة المعجمية» هذه النقطة حيث نقل عن ابن جني قوله:

«والشيء إذا كثر استعماله وعرف موضعه جاز فيه من التغير ما يجوز في غيره... وليس كذلك ما كان مجهولاً قليل الاستعمال» (الجبوري 2006, ج1 ص16).


مظاهر تغير الدلالة

بسبب التطور الدلالي للألفاظ ظهرت ظواهر عديدة في اللغة تم تناولها بالتفصيل من قبل العديد من الكتاب إلا أنه لم يتطرق أحد لدراسة ظواهر التغير الدلالي في أسماء النباتات والحيوانات وهذا ما سنفعله نحن في هذه الدراسة ولكن قبل ذلك سنذكر هنا بصورة سريعة أهم مظاهر تغير الدلالة بحسب ما جاء شرحها في دلالة الألفاظ (أنيس 1984, ص 152 - 167) ولحن العامة (مطر 1981, ص 363 – 372) وعلم الدلالة العربي (الداية 1996, ص288 وما بعدها), إلا أننا سنعطي أمثلة لأسماء محلية لحيوانات, أما ما سنتناوله في الفصول القادمة فهي تطبيق هذه الظواهر على جميع الأسماء المحلية للأسماك مع تحديد العلاقة بين الاسم والسمكة التي تحمل ذلك الاسم. وينفرد الداية في كتابه بتصنيف ظواهر تطور الدلالة في أربعة أقسام رئيسية هي: التجريد (الانتقال من المحسوس إلى المجرد), وتطور الدلالة فيما بين المحسوسات والاشتقاق والتعريب. فأما التجريد فخارج نطاق دراستنا للأسماء فهو يناقش الألفاظ المجردة, وأما التعريب فهو نادر في الأسماء المحلية للحيوانات المحلية والأمثلة فيه غالباً لأسماء حيوانات دخيلة وعليه لن نتطرق لهذه الظواهر وسنناقش الظواهر الأخرى الشائعة في أسماء الحيوانات المحلية.

أولاً: الاشتقاق

الاشتقاق هو أحد طرق توليد ألفاظ جديدة عند العامة, وقد قسمت العرب أسماء الحيوانات لأسماء قائمة بذاتها وأسماء مشتقة, ويقصد بالأسماء المشتقة تلك الأسماء التي اشتقت من صفات معينة في الكائن الحي كاللون أو الصوت الذي تصدره أو من سلوك معين للحيوان. وتعتبر العديد من أسماء الأسماك في البحرين أسماء مشتقة وسنتناول في الفصول القادمة الطرق المختلفة التي اشتقت بها أسماء الأسماك بصورة مفصلة.

ثانياً: التطور فيما بين الدالات على المحسوسات

وهي ظاهرة تخص التطور الدلالي للألفاظ في المجال المحسوس المتصل بالإنسان والحيوان والأشياء وأشهر هذه الظواهر وهي الأكثر تداولاً عند الكتاب العرب منذ القدم وهي التعميم والتخصيص وانتقال الدلالة, وهناك ظواهر أقل تناولاً وقد ظهرت في البحوث الحديثة نقلاً عن البحوث الأجنبية بصورة أساسية وهي انحطاط الدلالة ورقي الدلالة واللامساس وتوهم الأصالة.

1 - التعميم:

وقد تطرق لها الكتاب العرب منذ القدم حيث أسماها الصقلي «ما جاء لواحد فأدخلوا معه غيره» (مطر 1981, ص197), وهو انتقال بالكلمة من معنى ضيق إلى معنى أوسع منه، وتحدث عندما يختفي على المتكلم الفروق الدقيقة بين النوع والجنس فيسهل عليه أن يطلق اسم الجنس الخاص على النوع الذي هو أعم منه (الأنطاكي, بدون, ص370 و371). ومن أمثلة ذلك من أسماء الحيوانات عندنا اسم أحد أنواع الطيور وهو «الخطاف» وكان هذا الاسم عند العرب الأوليين اسم جنس يطلق على الطيور المعروفة حالياً باسم الخطاف (Martin) والسنونو(Swallow) والسمائم (Swift) فتعرف السنونو مثلاً على أنه نوع من الخطاطيف (حياة الحيوان, الدميري, 1995: ص282) فكان العالم بهذه الطيور يميز أنواعاً شتى منها ومع مرور الزمن ضاعت الأسماء الخاصة وبقي الاسم العام وهو الخطاف والعامة في البحرين حالياً تطلق اسم خطاف على جميع تلك الطيور.

2 - التخصيص:

وأسماه الصقلي «ما جاء لشيئين أو أشياء فقصروه على واحد» (مطر 1981, ص197), وهو انتقال بالكلمة من معنى عام واسع إلى معنى أخص منه وأضيق (الأنطاكي, بدون, ص370 و371). ومن أمثلة ذلك عند العامة في البحرين اسم «الجِح» الثمرة المعروفة وهي في الأصل اسم عام كما جاء في لسان العرب في مادة «جحح»:

«جَح الشيء يجِحه جحاً سحبه. والجِح عندهم: كل شجر انبسط على وجه الأرض كأنهم يريدون انجَح على الأرض أي انسحب. والجح: صغار البطيخ والحنظل قبل نضجه وواحدته جحه».

والعامة في البحرين تخص اسم جحه بالمعروف بالإنجليزية (Water melon) وهو الذي ذكره ابن البيطار في مفرداته باسم بطيخ هندي، والمتعارف عليه في الكتب الحديثة باسم بطيخ. وهذا الاسم أي بطيخ يطلق في اللغة على الجح وعلى الشمام (Sweet melon) ولكن العامة في البحرين تخص اسم البطيخ بالشمام فقط وكلا التسميتين بطيخ وشمام عربيتان.

3 - انتقال الدلالة:

وذكره الصقلي وابن الجوزي وابن السكيت وغيرهم من كتاب العرب باسم «ما وضعوه غير موضعه» (مطر 1981, ص195)، وهو تحول الكلمة من معنى إلى آخر يختلف عنه كل الاختلاف فلا هو أضيق منه ولا أوسع (الأنطاكي, بدون, ص370 و371). ويشمل هذا المظهر نوعين من تطور الدلالة: ما كان انتقال الدلالة فيه لعلاقة المشابهة، وهو ما يعرف بـالاستعارة وما كان انتقال الدلالة فيه لغير علاقة المشابهة، وهو ما يعرف بالمجاز المرسل.

أ- انتقال مجال الدلالة لعلاقة المشابهة

وذلك يكون في الاستعارة، التي هي عبارة عن تشبيه حُذف منه أحد طرفيه وأداة التشبيه، وطرفا التشبيه هما المشّبه والُمَشبّه به (الصالح 2003). ومن تطبيقاته على أسماء الحيوان نعطي مثالاً الاسم «صعوه» أو «الصوعه» وهو اسم محلي لطائر صغير يعتبر من أصغر أنواع الطيور حجماً, والاسم صعوه مذكور في كتب اللغة ولكنه لنوع آخر غير التي تسميه به العامة في الخليج وفي مصر الاسم صعوه يطلق على نوع ثالث, والعامل المشترك بين أنواع الطيور الثلاثة أنها أصغر أنواع الطيور.

ب- انتقال الدلالة لغير علاقة المشابهة

وقد سمي هذا النوع بالمجاز المرسل لإطلاقه من قيد المشابهة وهو يأخذ أكثر من شكل اعتماداً على العلاقة بين المنقول منه والمنقول له والتي قد تكون سببية أو زمانية أو محلية أو تجاورية أو غيرها (مطر 1981, ص 372 - 375), وسنأخذ لفظة «سفط» كمثال والتي في الأساس تعني جلد السمك الذي يغطى بالقشور أو الفلوس وبسبب علاقة التجاور أصبحت لفظة «سفط» تعني القشور نفسها وسنخصص الفصل القادم للحديث عن السفط والفلوس والقشور بصورة مفصلة.


توهم الأصالة وتعمد نبذ العامية

أسماء الحيوانات المحلية تواجه مشكلة حقيقية ناتجة من التطور الدلالي المقصود أي الذي يتعمد الكتاب أن يضعوه وهو تطور سريع وقضى على العديد من الأسماء المحلية في الخليج العربي والتي اعتبرت عامية رغم أصالتها اللغوية واستبدلت بألفاظ موضوعة لا تمتُّ للعربية بصِلة, ومن أهم أسباب ذلك أن الكتب العربية الأولى التي ظهرت عن الحيوانات في البلاد العربية ظهرت في بلاد الشام ومصر حيث استخدمت فيها الأسماء الشائعة في تلك البلاد أو الأسماء المترجمة, وعمل محققون على تحقيق هذه الأسماء بحثاً عن أصالتها كما عملوا على تحقيق أسماء الحيوانات الواردة في الكتب العربية ومن أروع ما كتب من معاجم الحيوان كان معجم «أمين معلوف» الذي ظهر في طبعته الأولى العام 1908م ولايزال يعتبر هذا المعجم هو الأفضل بين المعاجم الأخرى إلا أنه لا يخلو من الأخطاء التي وقع فيها الكاتب حيث كان يسعى دائماً للحصول على اسم عربي يقابل الاسم الأجنبي وبما أن الموارد التي كانت في تلك الحقبة محدودة بخلاف الوقت الحاضر فلم تكن أسماء الحيوانات في الخليج العربي قد ظهرت حينها وبذلك سقطت هذه الأسماء من عمليات التحقيق وهو خطأ سار عليه من جاء بعد معلوف حتى من الكتاب المحليين الذين شككوا بأصالة الأسماء المحلية وتوهموا أصالة الأسماء الموضوعة وسنرى لاحقاً ونحن نناقش أسماء الأسماك المحلية العديد من الأمثلة وسأكتفي هنا بذكر مثال واحد.


«الفقاقة»: درس يجب أن نتعلمه

الفقاقة والجمع فقاق Wheatear وهو طائر يعرف بهذا الاسم في الخليج العربي وهو اسم عربي فصيح جاء وصفه دقيقاً في (المخصص، لابن سيده) وذكر في (القاموس المحيط، للفيروزآبادي) و(تاج العروس للزبيدي). إلا أن هذا الطائر يعرف باسم «أبو بليق» في بلاد الشام وقد نشر بهذا الاسم وقد توهم أمين معلوف أن للاسم «أبو بليق» صيغة فصيحة هي «الأبلق» التي لم ترد في كتب اللغة, وبذلك شاعت الأسماء الشامية ومشتقاتها وأهمل الاسم العربي. ومن مهازل المترجمين لأسماء الطيور أن يترجم الاسم الإنجليزي لهذا الطائر بثلاث ترجمات مختلفة لأنواع مختلفة لنفس جنس الفقاق كما في ترجمة «فكري بكر» لكتاب «طيور الخليج العربي» (ص 143 - 144) فأسمى النوع الأول «أبو بليق» والثاني «أبليق» والثالث «الإبليق». أما المهزلة الكبرى فهي استيراد الأخطاء, ففي العام 1909م صدر كتاب Bergtold عن طيور كولورادو والذي اُنتقد بشدة لأن Bergtold أخطأ في كتابة الاسم الإنجليزي لهذا الطائر فكتبه Wheateater فاقتبس المترجمون الخطأ فأسموا هذا الطائر «آكل القمح» أو «القميح» والبعض حتى وإن كتب اسم الطائر صحيحاً بالإنجليزية فإنه يعيد كتابته بالصيغة المحرفة ويعيد ترجمته كما في ترجمة أصل الأنواع لإسماعيل مظهر (1973, ص650) وكما في ترجمة كتاب «صور من الحياة الفطرية في الكويت» حيث ترجم الاسم «آكل القمح» و «آكل الحنطة» بعد إعادة كتابة الاسم الإنجليزي المحرف. وللفائدة يعتقد أن أصل التسمية Wheatear ربما من White arse ويعني أبيض العجز ثم لُطِّف هذا الاسم فقيل (Wheatear) ل «Webster’s Dictionary» ولا علاقة له بالقمح, وإن كان عذر Bergtold قلة المصادر في العام 1909م فما حجة المعاصرين الآن في حقبة الانفجار المعلوماتي؟

العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً