العدد 2133 - الثلثاء 08 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ

الوقود الحيوي يتلف المحاصيل الزراعية وارتفاع أسعار الغذاء يهدد بفوضى عالمية

شكلت «قمة النفط» التي انعقدت في جدة بتاريخ 22 يونيو/ حزيران الماضي مناسبة لمراجعة العلاقات المتأزمة بين الدول المنتجة للنفط والدول المستهلكة. فالمراجعة كانت ضرورية لإعادة بحث كل القضايا المتصلة بالإنتاج وخصوصاً تلك القطاعات التي توفر للإنسان مصادر الرزق والمعاش والغذاء.

الأزمة عالمية وهي في جوهرها تتجاوز سلعة النفط لكون القطاعات الغذائية تتأثر بمجموعة عوامل تتحمل مسئوليتها تلك الشركات التي تحاول الاستئثار بمصادر معاش الإنسان. وجاءت «قمة النفط» لتفتح الباب أمام مهمة تسوية تلك العلاقات وإزالة الشكوك وتوضيح الملابسات. فالاجتماع بين الدول المنتجة والمستهلكة انتهى إلى بيان ختامي دعا إلى «تحسين الشفافية» في الأسواق المالية والتشريعات المتعلقة بها لتحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمية. واتفق المجتمعون على أن أسعار النفط الحالية تلحق ضرراً بالاقتصاد العالمي وخصوصاً الدول النامية. ورأت منظمة أوبيك التي تضم 13 دولة تنتج 38 في المئة من النفط في العالم أن السوق متوازنة بين القدرة على الإنتاج وحاجات الدول المستهلكة وبالتالي فإن سبب ارتفاع الأسعار يعود إلى المضاربات ومحدودية المصافي (النقص في قدرات التكرير) وتراجع الدولار والأوضاع السياسية وتلك الضرائب التي تضعها الدول على استهلاك الطاقة. وبناءً عليه قررت دول الأوبيك عدم رفع إنتاجها من النفط قبل تصحيح تلك السياسات الاحتكارية التي حولت الطاقة إلى سلعة للمضاربة ومادة للتخزين.

وأبدت الدول المنتجة استعدادها لرفع طاقة التصدير في حال تمت زيادة الاستثمارات في قطاعات الصناعة النفطية (التنقيب والإنتاج والتكرير والتسويق) بهدف تأمين إمدادات كافية للأسواق والمساهمة في استقرارها. كذلك قررت الدول المنتجة تأسيس صناديق مالية لتأمين الدعم (قروض ميسرة) للبلدان النامية التي تعاني من تضخم الأسعار وارتفاع العجز في ميزان المدفوعات.

الوقود الحيوي

«قمة النفط» في جدة فتحت نافذة على مشكلة أكبر وهي دور إنتاج «الوقود الحيوي» وتأثيره على ارتفاع أسعار المواد الغذائية. فالدول المستهلكة للطاقة حاولت تحميل دول «أوبيك» مسئولية التضخم في أسعار الغذاء من خلال ربط السلع الغذائية بارتفاع أسعار المحروقات. وهذا الربط الذي حاول الابتعاد عن الصورة الحقيقية للأزمة الغذائية كشفه تقرير منظمة «أوكسفام» الخيرية حين أشار في 25 يونيو إلى أن «الوقود الحيوي» مسئول عن 30 في المئة من الزيادة في الأسعار العالمية للأغذية. وحذر تقرير «أوكسفام» من احتمال دفع 30 مليون إنسان في مختلف إنحاء العالم إلى الفقر. فالتقرير أشار إلى أن معدل استخدام الوقود الحيوي ازداد مع سعي «الدول المتقدمة» إلى الحد من اعتمادها على النفط المستورد وهذا ما أدى إلى نقص في الحبوب وارتفاع أسعار السلع الغذائية. وتسبب استخدام الوقود الحيوي في وسائل النقل في انخفاض احتياطات الحبوب وتضخم أسعار الغذاء. فالدول الغنية بحسب تقرير «أوكسفام» أنفقت 15 مليار دولار في سنة 2007 لدعم «الوقود الحيوي» ما أدى إلى استغلال المزيد من الأراضي الزراعية لإنتاج الوقود لا لتأمين الاحتياجات من الحبوب. وهذه السياسة في حال نموها خلال السنوات العشر المقبلة ستؤدي إلى تدهور البيئة وزيادة الاحتباس الحراري لأنها عملياً ستعمل على استخدام الأراضي الزراعية مصدراً للوقود وليس للأغذية ما سيدمر معيشة الملايين من البشر.

«الوقود الحيوي» إذاً أساس مشكلة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وليس النفط. النفط كان الذريعة التي استخدمتها الدول الكبرى (الصناعة والمتقدمة) لإعادة هيكلة القطاعات الزراعية وإتلاف محاصيلها واستخدامها في إنتاج الطاقة البديلة لتعويض فاتورة الاستيراد من حاجات النفط. وشكلت الذريعة (ارتفاع أسعار برميل النفط إلى 140 دولاراً) فرصة للشركات الاحتكارية للبدء في دراسة الجدوى الاقتصادية لاستيراد النفط والمباشرة في البحث عن مصادر طاقة بديلة ومنافسة، الأمر الذي شجعها على تعديل وجهة الاستثمارات ونقلها من التنقيب إلى المحاصيل الزراعية التي تزيد عن حاجات السوق المحلية. فالولايات المتحدة مثلاً، تصدر 70 في المئة من الذرة في العالم، وتعتبر ثاني أكبر مصدر لفول الصويا، وهي أكبر مصدر للحوم البقر في العالم. وبسبب سياسة إنتاج «الوقود الحيوي» رجح تقرير أصدره «دوتشيه بنك» أن يرتفع شوال الذرة إلى 7.6 دولارات في صيف 2008 ثم إلى 8.5 في صيف 2009، كذلك سيرتفع سعر الصويا إلى 15.93 دولاراً. وجاء في تقرير بثته محطة «فوكس نيوز» الشهر الماضي أن أسعار صادرات المواد الغذائية ارتفعت نحو 83 في المئة خلال 12 شهراً. وتشير الإحصاءات إلى أن قيمة الصادرات الأميركية من المواد الغذائية بلغت العام الماضي 114 مليار دولار ذهب نصفها تقريباً إلى دول «الشرق الأوسط». فأميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) تعتبر أكبر مصدر للحبوب في العالم (105 ملايين طن متري سنوياً) تستهلك منه دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط نحو 58 مليوناً. ويعني الأمر أن فاتورة استهلاك الحبوب واللحوم العربية أعلى من وارداتها من فاتورة تصدير النفط. ويرجح أن يزداد العجز في ميزان المدفوعات التجاري في حال واصلت الدول الصناعية (المتقدمة اقتصادياً) في إتلاف ملايين الهكتارات المزروعة بالحبوب بذريعة استخدامها في إنتاج «الوقود الحيوي».

إتلاف المحاصيل واستخدامها للوقود لا الغذاء أدى آلياً إلى ارتفاع أسعار الذرة والقمح وفول الصويا ما أدى بدوره إلى رفع كلفة تربية الدواجن والأبقار فزادت تلقائياً أسعار اللحوم والدجاج والحليب ومشتقاته فضلاً عن المنتجات الغذائية. وفي هذا الصدد حذر وسطاء في سوق الغذاء في لندن وشيكاغو من مؤشرات سلبية ظهرت في تسعيرات العقود الآجلة إذ سجلت أسعار لحوم البقر عند التسليم في أبريل/ نيسان 2009 ارتفاعاً نسبته 115 في المئة وهي الأعلى منذ العام 1986.

مجاعات وانهيارات

المسألة خطيرة جداً وهي تدفع البشر نحو مجاعات وانهيارات اجتماعية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الدولي والحث على الانتفاضات الشعبية. فالمدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو) جاك ضيوف أعلن أمام المؤتمر الإقليمي الخامس والعشرين لإفريقيا الذي انعقد في مراكش أن حال انعدام «الأمن الغذائي» في القارة تفاقمت جراء الارتفاع السريع في أسعار المواد الغذائية الناجم عن استخدام الإنتاج الزراعي في توليد «الوقود الحيوي». وأكد ضيوف أن الواردات الزراعية ازدادت بسرعة تفوق الصادرات على مدى السنوات الثلاثين الماضية، إذ أضحت مستوردات إفريقيا من السلع الغذائية تشكل 87 في المئة من فاتورتها التجارية. وأشار ضيوف في تقريره إلى أن الزيادة الكبيرة في أسعار المواد الغذائية التي قفزت في سنة واحدة بنسبة 52 في المئة ستكون لها نتائج سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة السوء.

هناك لاشك عوامل مختلفة تساهم في أزمة الغذاء من سوء الإدارة أو عدم القدرة على تطوير الاستثمارات لاستصلاح الأراضي القابلة للزراعة وتغير المناخ والتصحر وشح المياه ونمو السكان من دون توفير فرص للعمل. فإفريقيا مثلاً يزداد نموها السكاني بنسبة 2.6 في المئة سنوياً ولكنها في المقابل لا ترفع معدل إنتاجها من الحبوب وتربية الماشية والدواجن وصيد السمك إلى نسبة سنوية مساوية. معدل إنتاج الماشية ارتفع خلال السنوات العشرين الماضية بنسبة 1.4 في المئة فقط بينما استمر صيد السمك راكداً طوال السنوات العشر الماضية ما أسفر عن هبوط نصيب الفرد من سلة الغذاء. الرز أيضاً الذي ارتفع سعره إلى ضعف ما كان عليه قبل سنة يهدد الأسواق العالمية وتحديداً الدول الفقيرة والنامية بأزمة غذاء تثير الذعر السياسي لدى حكومات كثيرة. وعلى رغم أن نصيب الرز الذي يتم تصديره للأسواق العالمية لا يتجاوز نسبة 7 في المئة من الإنتاج العالمي فإن تأثيره السلبي على الغذاء لا يمكن تقديره من الآن بسبب اعتماد الكثير من الشعوب (وخصوصاً الآسيوية) عليه كسلعة رئيسية.

المشكلة إذاً عالمية وهي متشعبة في عناصرها وأسبابها وتتجاوز فاتورة النفط لتشمل سياسات دول تمتلك قدرات استثنائية على التحكم بخيرات الشعوب ومصادر رزقها. وظهور مسألة «الوقود الحيوي» على شاشة العلاقات الدولية فاقم من المشكلة ودفعها من طور الاحتكار والتخزين والتنافس إلى طور إتلاف المحاصيل الزراعية بذريعة استخدامها في مجال الطاقة حتى لو أدى الأمر إلى حصول مجاعات وحرمان البشر من أبسط حاجاتهم لمواد لا غنى عنها في الرزق والمعاش والبقاء على الحياة.

العالم يهتز. وفي حال واصلت الاحتكارات السير في سياسة تكديس الأرباح واكتناز الثروات فإن الاتجاه نحو الفوضى العالمية يصبح هو المرجح وخصوصاً أن الطمع وصل إلى سلة الغذاء والمحاصيل الزراعية (الحبوب) وتربية الماشية والأبقار.

العدد 2133 - الثلثاء 08 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً