العدد 3129 - الخميس 31 مارس 2011م الموافق 26 ربيع الثاني 1432هـ

ماذا أراد صاحب المقدمة أن يقول؟

وصية ابن خلدون التاريخية (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كُتب الكثير عن ابن خلدون. ومعظم الكتَّاب قرأه كما يريد هو منه لا كما هو ابن خلدون. واكتفت معظم الكتابات بقراءة نظريات المقدمة بمعزل عن تاريخ صاحبها وصلة تاريخه الشخصي بمشاهداته وملاحظاته على علل الحوادث واختلاف الأحوال والأجيال. فابن خلدون مثقف سياسي. الثقافة عنده روح التاريخ والسياسة عصبه. ومنطق القوة عنده يتسلط بدافع تلك الروح العصبية. ومجموع الثقافة والسياسة هو العمران البشري.

ابن خلدون لا يعزل ماضيه عن حاضره ويقرأ الحوادث بناءً على معطيات حسية - برهانية. فالدولة عنده هيئة تتحرك في وعاء أطلق عليه العمران البشري، وهي تاريخ تصعد ثم تهبط في سياق قوانين تعود إلى طبائع العمران، وهي عصبية تبدأ بالقوة وتتحول إلى فعل، وهي استبداد (تسلط) تنزع من السيطرة المحدودة إلى السيطرة الكلية وتنهار، وهي أنواع منها الطبيعي ومنها الاجتماعي ومنها الديني، وهي غالبة ومغلوبة فعندما تتغلب تتأثر بالمغلوب ثم تأتي دورة أخرى فيتأثر المغلوب بها. والدولة غاية وعندما تحقق مرادها ينتفي مبرر وجودها. فهي تبدأ بفكرة وتحقق غايتها من طريق العصبية، فتقيم المُلك. وعناصر المُلك ذاتية - تاريخية تتحرك من دائرة التحقق بالقوة إلى دائرة التحقق بالفعل. والفعل تاريخ يدمج الذاتي بالموضوعي ويتحرك في سياق دائري تطوري تتحكم به الطبائع فيتجه من التسلط العصبي إلى الاستبداد الاجتماعي الشامل فتعود إلى التفكك مجدداً إلى العناصر الأولى التي تتألف من عصبيات متنافسة تطمح أيضاً إلى تحقيق غايتها: إقامة المُلك.

لم يخترع ابن خلدون هذه النظريات بل اكتشفها واستخرجها من بطون كتب التراث ومعارف عصره والموروث المتراكم من العلوم والفقه والحكمة وقام بتركيبها وإعادة ترتيبها وفق مفهوم متماسك ونظام محكم لم يهمل فيه أي جانب من جوانب العمران البشري. فهو درس الجغرافيا ولاحظ تأثيرها على الناس. ودرس الاجتماع ولاحظ حاجة الإنسان إلى بني جنسه للغذاء والدفاع. ودرس التاريخ ولاحظ أن للحوادث عللها وأسبابها. ودرس العلوم العقلية ولاحظ النسق في تطور مراتب الوجود وعلاقتها بتطور مراتب الوعي من المحسوس إلى اللامحسوس ومن العقل إلى ما هو أعلى من العقل. لذلك لم يهمل الدين والشرائع بل اعتبر أن الاجتماع الديني أقوى من العصبية لأنه يوحد ويركز عناصر القوة ويدمجها ويدفع بالتطور درجات من الأدنى إلى الأعلى. فالاجتماع الديني عنده يستوعب الاجتماع الطبيعي ويتجاوز الاجتماع المعيشي لأنه من ناحية التتابع التاريخي جاء بعدهما. فالعمران البشري الخلدوني هو حاصل مجموع عوامل جغرافية واجتماعية وحاجية (دولة وعصبية) إلى جانب الدين بما هو اجتماعي وعقلاني وما فوق عقلاني.

لم يفهم التيار العربي المعاصر فكرة ابن خلدون المركبة فأخذ بتبسيطها وتشطيرها إلى أجزاء متناثرة فأخذ كل فريق الجزء الذي يريده وما يريحه وادعى أن ابن خلدون ملكه الخاص وتلميذ في مدرسته. وبالغ التيار الذي أطلق على نفسه سهواً اسم «العقلاني» في الإساءة إلى ابن خلدون حينما أخذ في قراءة ما يريده وإهمال الجوانب الأخرى من نظريته بذريعة أنها ليست عقلانية. التيار المذكور ليس عقلانياً على الإطلاق، فالعقلانية ليست نقاشاً في التجريدات والنظريات العامة بل هي أصلاً محاولة فهم لتعقيدات الواقع في ظروف المكان وتحولات الزمان. لذلك تعتبر ملاحظات ما يسمى «التيار العقلاني» على غيبيات ابن خلدون ولاعقلانيته، لا محل لها في النقد المبدع ولا تقدم مساهمة تذكر لتفسير الواقع الاجتماعي. فالتيار الذي يعتبر أن الدين هو مجرد خرافات ولا علاقة له بالاجتماع البشري ولا يؤثر في التحولات السياسية ولا يتأثر بها هو تيار تنقصه الكثير من العقلانية ويفتقد إلى نظرة دقيقة لتطور الوعي التاريخي عند الشعوب.

مات ابن خلدون مظلوماً وعاش وحيداً ومعزولاً ودفن كما يذكر ابن حجر في «مقابر الصوفية» بعد أن انتقل من الفلسفة (العلوم العقلية) إلى الغزالي (نقد الفلسفة) إلى الزهد في شيخوخته (الصوفية) أو ما يسميه «الصوفية السنية».

عُرف الحاج بصفة رافقته في كل مراحل حياته، وهي الخجل. وبسبب من تلك النزعة تناقضت شخصيته بين الكبرياء والتواضع وبين العبقرية والتسامح حتى لفظه الزمن خارج خيمة تيمورلنك يطارد لقمة العيش في وقت واصل «أهل السعايات» السعي لقطع رزقه. عند ذاك وبعد فوات الأوان انفجر ابن خلدون في آخر فقرة سجلها في مذكرات حياته المتقلبة (76 سنة)... «قاتل الله جميعهم»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3129 - الخميس 31 مارس 2011م الموافق 26 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً