العدد 3134 - الأربعاء 06 أبريل 2011م الموافق 03 جمادى الأولى 1432هـ

دلالة المصطلح: بين توصيف العامة والتوصيف العلمي

يتم التواصل بين أفراد مجتمع ما بلغة معينة من بينها مجموعة ألفاظ تعارفوا عليها؛ أي أن هناك اتفاقاً بين عموم المتكلمين على جملة من الكلمات أو الألفاظ التي ورثوها عن أجدادهم جيلاً بعد جيل، هذه الكلمات تسمى اصطلاحاً عامياً أي بين عموم المتكلمين.

وفي قبال ذلك هناك جملة من الألفاظ أو الكلمات التي يضعها أهل الاختصاص وهي ما تعرف باسم الاصطلاح الخاص أو ما تم التعارف عليها باسم «المصطلح»، فالمصطلح هو لفظ يضعه أهل عرف أو اختصاص معين ليدل على معنى معين يتبادر إلى الذهن عند إطلاق ذلك اللفظ. ويجب هنا أن نفرق بين المصطلح والاصطلاح العام فقد تصوغ العامة مفاهيم ليست علمية وتضعها في إطار وكأنها مصطلحات علمية وفي واقع الأمر ما هي إلا مفاهيم أو توهمات أو أساطير شعبية غير محققة. وفي ما يخص الأسماك فقد تصدى لوصف أنواع من الأسماك بعض الكتاب ليسوا من أهل الاختصاص وقاموا بصوغ بعض المعارف الشعبية بصورة توهم البعض أنها حقائق علمية عن الأسماك فحدثت عدد من الإشكالات منها التشكيك في حلية أو حرمة بعض الأسماك، وعدم تحقيق الأسماء العامية بصورة صحيحة، والركون للأساطير في تعليل بعض الظواهر المرتبطة بالأسماك. في هذا الفصل سنأخذ مثالين لتوضيح كل ما سبق وهما سمك الصافي والكنعد.


أولاً: الصافي

الصافي هو الاسم المحلي الشائع في الخليج العربي لمجموعة من الأسماك تعرف في الكتب العلمية باسم أرانب البحر أو الأسماك الأرنبية (Rabbitfish) وهي جمع والمفرد أرنب البحر والاسم مترجم. وقد شبهت هذه الأسماك بالأرنب لأنها تحرك شفتها العليا باستمرار كالأرنب.

أما الاسم «صافي» فهو في الأصل إحدى الصفات التي تطلق على أنواع من السمك الجيد، وقد ورد هذا الاسم كصفة في إحدى قصائد السري الرفاء المتوفى العام 976م وهو من شعراء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) الذين برعوا في وصف صيد الأسماك والتي اعتبرت قصائدهم من النوادر في الشعر نظراً إلى قلة من وصف البحر والصيد من الشعراء. وقصائد الرفاء في وصف صيد الأسماك وطرقه تعتبر أروع ما وصلنا، ففي إحدى قصائده يصف فيها رحلة صيد بالشبك يتضح من خلالها أن الشبك الموصوف يرمى باليد؛ أي كشبك السالية في الوقت الحاضر، إذ قال:

وأقبلَتْ تملأُ عينَ الرائي

بكل صافي المتنِ والأحشاءِ

أبيضَ مثلِ الفِضَّةِ البيضاءِ

أو كذِراعِ الكاعبِ الحسناءِ

فحازَ إذ خاطرَ بالحوباءِ

سعادةَ الجَدِّ من الشَّقاءِ

ويمكننا أن نلاحظ من قول الرفاء أن صفة «صافي» من الصفات التي أطلقها العرب على الأسماك الجيدة. وربما تطورت هذه الصفة وخصصت بأنواع بعينها من الأسماك حيث إن الاسم «صافي» ورد أيضاً بمعنى سمك وذلك في شعر للشاعر ابن المقرب العيوني وهو من شعراء البحرين في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث قال:

وَمِن لَحمِ صافٍ في أَوَال وَكَنعَدٍ ضِبابٌ وَجُرذانٌ كَثيرٌ خُدُوعُها

وبذلك يكون الاسم «صافي» تسمية عربية قديمة لهذه الأنواع من الأسماك. ويذكر أن هناك أنواعاً من الصافي فهناك نوع من الصافي كان مشهوراً عندنا في البحرين ألا وهو «الصافي الصنيفي» أو كما يسميه البعض «صافي كيس» والذي لم يعد له وجود حالياً في الأسواق.

ومما يميز سمك الصافي صلابة أشواكه وخاصة أشواك الزعنفة الشرجية، والتي تكون لسعتها مؤلمة جداً حتى شبهت العامة لسعات أخرى بشدة لسعة سمك الصافي فتقول العامة في التشبيه «چنها (كأنها) ضربة صافية)، حيث إن أشواك زعانف الصافي تتصل بغدد تفرز سموماً ولسعتها مؤلمة ولكن لا يدوم الألم أكثر من نصف ساعة ولتخفيف الألم يوضع العضو المصاب في ماء حار (55 ْ).


توصيف العامة والخلاف الفقهي

تصف العامة وخاصة العوام من الطائفة الشيعية سمك الصافي بأنه بدون سفط، قال الشيخ محمد علي الناصري في كتابه «من تراث شعب البحرين» إن هذا السمك سمي بالصافي لأنه لا يكدر صفوه شيء كغيره فليس عليه سفط ولا شوك ولا جلد سميك، وأن العريضة من هذه الأسماك تسمى «عربيه» بينما تسمى القبيبة أي المسلوبة «الوحم» (الناصري 1990، ص160). وقال علي الدرورة في كتابه «الكنايات الشعبية الملاحية» في وصف سمك الصافي (الدرورة 2003، ص93):

«وجسمها بيضاوي منضغط من الجانبين بدون قشور».

إن مثل هذا التوصيف «العامي» (وليس العلمي) لسمك الصافي عند العديد من العوام من الطائفة الشيعية خاصة لا يمكن أن يمرر بهذه السهولة، فالطائفة الشيعية تعتقد بحرمة الأسماك عديمة السفط، فكيف تصف العامة سمكاً أنه عديم السفط وتأكله وفي الوقت نفسه تعتقد بحرمة السمك عديم السفط؟ بقيت تلك التوصيفات والشكوك عند العامة حتى تجرأ البعض واستفتى بعض الفقهاء وقد حدث خلاف كبير في العام 2008م بالتحديد، إلا أن هذا الخلاف انتهى بقطع الشك باليقين فسمك الصافي له قشور صغيرة وهذا هو التوصيف العلمي.


ثانياً: الكنعد والخباط

ينتمي الكنعد والخباط لمجموعة من الأسماك تعرف باسم الإسقمري (Mackerel)، وهذا الاسم الأخير تعريب للاسم اليوناني Skombros واللفظة شائعة على ألسن العامة في مصر والشام لهذه المجموعة من الأسماك (معلوف)، وقد اشتهر اسم «الإسقمري» لهذه الأسماك في العديد من المؤلفات فقد ذكر في «المنجد في اللغة» وفي «قاموس الحيوان» نقلاً عن كتاب «غرائب اللغة». وهناك عدد من الظواهر الدلالية التي ارتبطت بالأسماء «كنعد» و»خباط» يمكننا إيجازها في النقاط الآتية:

1 - التعميم وضياع «الكنعد» و»الخباط»

لقد ذكرنا سابقاً أن التعميم المقصود لترجمة الألفاظ الإنجليزية العامة أدت إلى شياع أسماء معينة وضياع لمسميات أخرى حتى وإن كانت هذه الأخيرة أسماء عربية فصحى مشهورة؛ إذ تُرجم الاسم الإنجليزي Mackerel وهو الاسم الذي يعمم على جميع الأسماك من هذه المجموعة بالاسم «إسقمري»، وعليه تم ترجمة جميع الأنواع التي تسمى Mackerel بالإسقمري على رغم أن لها أسماء عربية واردة على ألسن العامة وموثقة في المعاجم اللغوية القديمة حيث ترجم الاسم King Mackerel بالإسقمري الملكي ولكنه مشهور باسم «الكنعد» وكذلك الاسم Spanish Mackerel يترجم باسم الإسقمري الإسباني وهو مشهور باسم «الخباط».

2 - ظاهرة التصغير واللبس اللغوي

العامة في البحرين تطلق مسمى «الكنعد» على نوع محدد من الأسماك وهو مشهور بهذا الاسم في جميع أرجاء الخليج العربي وهو اسم فصيح ورد في المعاجم اللغوية المختلفة، وجاء في لسان العرب أنه يسمى الكنعد والكنعت والكعند. وتسمي العامة في البحرين صغار الكنعد باسم «الخباط» والصحيح أن الخباط نوع آخر شبيه بالكنعد ولكن أصغر منه حجماً وهو مشهور في دول الخليج الأخرى باسم «الخباط». وقد جاء في معجم «تاج العروس»:


«الخباط ضرب من السمك أولاد الكنعد»

وهذا يطابق ما قالته العامة في البحرين وهذا لغوياً صحيح أما علمياً فالخباط هو نوع آخر شبيه بالكنعد، وهذا مرتبط بظاهرة متعلقة بالأسماء، جاء في معجم معلوف في أكثر من موضع «أن العرب إذا أرادوا وصف حيوان أصغر من حيوان آخر قالوا أنثاه أو ولده» وهناك العديد من الأمثلة التي ذكرها معلوف متناثرة في معجمه، ومما جاء عند العامة في البحرين ويندرج تحت هذه الظاهرة تسمية نوع من الطيور باسم «فرخ السمن» (Robin) وهو معروف أنه أصغر أنواع السمن أو السمان (جمع سَمنه) Thrush ولذلك وصفته العامة بقولها فرخ السمن.

3 - توصيف العامة والخلاف الفقهي

كما حدث في توصيف العامة للصافي حدث أيضاً بالنسبة إلى الكنعد إلا أن الكنعد من الأسماك المشهورة منذ القدم وعليه فقد وردت نصوص عن أهل البيت (ع) تحل اللبس الذي ارتبط بالكنعد، فقد جاء من جملة الروايات التي ذكرها الفقيه الراحل السيدمحمد حسين فضل الله (قدس سره) في كتابه «ثمار البحر» وهي الرواية الحادية عشرة وهي صحيحة حماد بن عثمان، قال:

«قلت لأبي عبدالله (ع): الحيتان ما يؤكل منها؟ فقال: ما كان له قشر، قلت: ما تقول في الكنعت؟ قال: لا بأس بأكله، قال: قلت: فإنّه ليس له قشر، فقال: بلى، ولكنها حوت سيئة الخلق تحتك بكل شيء، فإذا نظرت في أصل أذنها وجدت لها قشراً».

والكنعت بحسب رواية لسان العرب هو سمك الكنعد وقد شكك بعض العامة في العصر الحديث بوجود سفط يغطي جسم الكنعد.

4 - أسطورة «عصب» الكنعد

غالباً ما تلجأ العامة لحياكة الأساطير في حال عجزت عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية، روى لي بعض أهل الاختصاص بصيد الأسماك من العامة أن سمك الكنعد به عصب (أي أعصاب) بمعنى أنه مريض بالعصبية فإذا اقترب من الشبك لا يستطيع الرجوع إلى الخلف وما أن تلامس مقدمة رأسه الشبك يقوم الكنعد بقتل نفسه. قلت وهذه أسطورة طريفة في تعليل ظاهرة شاهدها الصيادون وهي موت الكنعد حال خروجه وهو مصطاد بالشبك، إلا أن هناك تفسيراً علمياً لهذه الظاهرة فالكنعد وجميع أفراد العائلة التي ينتمي لها الكنعد وكذلك أسماك القرش جميعها تختلف في طريقة تنفسها عن باقي الأسماك، فحتى تحصل هذه الأسماك على الأوكسجين الذائب في الماء يتوجب عليها أن تسبح باستمرار لكي يمر الماء المحمل بالأوكسجين على خياشيمها، وهذا يعني أنه في حال توقفت هذه الأسماك فإنها تختنق وتموت. فالكنعد يبدأ بالموت أول ما يتم إيقافه وحال إخراجه من الماء يموت. وهذه الطريقة في التنفس تسمى علمياً ram ventilation

العدد 3134 - الأربعاء 06 أبريل 2011م الموافق 03 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً