«الربيع، الصيف، الخريف، والشتاء» هو عنوان فيلم كوري يتحدث عن فصول الطبيعة وتعاقبها وتشابه تلك الفصول مع طبيعة تطور الإنسان وتعاقب السنوات من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة وانتهاء بالشيخوخة والرحيل عن الحياة. عنوان الفيلم جميل فهو يدل على نزوع المخرج من حكمة شرقية في التعامل مع الطبيعة، ويشير إلى تلك الوداعة الكامنة في وجدان الإنسان حين يتعاطى مع طقوس التحول والانتقال من حال إلى حال. الإنسان كالطبيعة. هذا هو جوهر الحكمة الشرقية التي اراد ان يقولها المخرج الكوري. فهو يدخل في اطوار وتحولات وينتقل من حال إلى آخر وتتجاذبه الكثير من النوازع وتتقاذفه الاقدار فينزلق هنا ويتعلم هناك وينتكس مرة وينهض مرة... وهكذا إلى أن تأتي لحظة الرحيل لتبدأ الحياة من جديد وتعود الفصول تحكي حكاياتها. الإنسان كالطبيعة. واحوال الطقس متغيرة. وفي كل طور تأخذ الطبيعة شكلها الجميل. فالربيع جميل وكذلك الصيف. حتى الخريف الغاضب يملك من الجماليات التي لا تنضب. كذلك الشتاء العاصف يتمتع بخصوصية تعطيه ذاك الطابع الذي يميزه عن بقية الفصول. الإنسان في هذا المعنى الفلسفي (الحكمة الشرقية) وهو ما اراد المخرج الكوري قوله للمشاهد (المتلقي) يشبه تلك الطبيعة في تقلباتها وغضبها وسكونها وتوازنها وتوالدها وتعاقبها وديمومتها. فالإنسان ينقسم عمره إلى محطات أربع. ويتطور معرفة (الفطرة) وتجربة (الاكتساب) ويراكم الخبرة التي تؤسس له الوعي والتفكير والكتابة والتصوير وممارسة الطقوس التي تتشعب على مختلف الحقول وتتأقلم بحسب الحاجات والمتطلبات. انها دورة الإنسان (الفرد) وكذلك دورة الجماعات (البشر)، والدول أيضاً تمر في الاطوار الأربعة. فهذه الدورة تعيد تكرار نفسها ببساطة إلى درجة الملل. وكذلك تتطور الدورة في كل فترة بفعل تراكم التجربة وتوارثها من جيل إلى جيل. تعاقب الاجيال هو تطور بحد ذاته. ولكن التطور لا يعني ان كل جيل لا يكرر اخطاء ما قبله. فالتعلم لا يكفي للاستفادة والامتناع عن الوقوع في الاخطاء السابقة. والتعلم في هذا السياق لا يلغي التراكم. لكن التراكم لا يعطل عند الإنسان (الفرد) والإنسان (الجماعات) النزوع نحو التجربة الحسية المباشرة حتى لو كانت التعاليم المتوارثة تنبه إلى المخاطر والسلبيات. فالإنسان في اطواره المتعاقبة يستفيد من السابق لكنه أيضاً يميل إلى تجربة حظه واكتشاف المجهول بناء على التعلم الحسي واكتساب الحكمة مباشرة ومن دون مداورة. هذه هي الخلاصة الفلسفية (الحكمة الشرقية) التي اطل المخرج الكوري منها على المشاهد. وحتى تقترب الصورة من الفكرة اختار الطبيعة مسرحاً لتعاقب المشاهد. فالمخرج ذهب إلى واد تحيط به الجبال وتقع في وسطه بحيرة صغيرة. وفي تلك البحرة يقع ذاك المنزل/ المعبد ويقبع وحيداً بعيداً عن المدن وازدحام البشر. اختار المخرج هذا المكان الجميل في مناظره والموحش في علاقاته الاجتماعية ليقدم فكرته عن ذاك التجانس البعيد بين تحولات الطبيعة واطوار البشر كأفراد وجماعات. ومن هذا المكان المعزول عن الحياة الصاخبة في ضجيجها وآلاتها وازدحام بشرها وتراكضهم للعمل واللهو واللذة اخذ المخرج ينسج حكاية الطبيعة وتطابقها مع طبيعة الإنسان. الإنسان كالطبيعة. فهو خاص حتى لو عاش وسط جماعة. وهو يملك تجربة تقوم على مجموعة خصوصيات تميز شخصيته عن غيره. ولكنه في النهاية مهما كان الطريق الذي اختاره لنفسه تتحكم فيه مجموعة قوانين تتصل بالنشوء والارتقاء والموت. وبين الحياة الأولى والسنوات الأخيرة هناك مجموعة حلقات مترابطة لها بداية ولها نهاية. وهذه القوانين (الطبيعة) توحد البشر مهما اختلفت الديانات والمعتقدات والنظرة إلى الكون والحياة. وتمايز الناس بين ثقافة وأخرى وبيئة وأخرى لا يعني ان الاطوار (الزمنية) ليست متشابهة في درجاتها من الطفولة إلى الشيخوخة. الإنسان كالطبيعة وضدها احياناً. كذلك الإنسان هو نفسه وضد نفسه وضد الآخر. وهذا ما حاول المخرج اظهاره من خلال حفنة من الأشخاص. فالفيلم صامت إلى حد ما. وقلة الكلام فيه ربما قصد المخرج منها توضيح خلفيات تلك «الحكمة الشرقية» التي حاول ايصالها للمشاهد. كثرة الكلام احياناً تشوش الذهن وتعطل ذاك الانسياب الذي ظهر جلياًمن خلال تعاقب الصور التي عكست مشاهد تبدل طقوس الطبيعة واختلاف فصولها... وهي تشبه كثيراً تبدل طقوس الإنسان واختلاف فصوله بين حقبة عمرية وأخرى. اختصر المخرج الكثير من الكلام وترك الصورة تأخذ مكان السيناريو. فالصورة هي البديل وهي البطل الذي يتحدث عن ذاك التعاقب الطبيعي/ الزمني. فالفكرة (الحكمة) بسيطة ولكن المخرج قام بتصويرها من خلال تحولات الطبيعة وتغيرات طقوس (فصول) الإنسان. الفكرة صورة. وبعدها تأتي تلك المشاهد المتسلسلة التي تصل بالمتلقي احياناً إلى درجة الاحساس بالملل من كثرة الإطالة والتكرار. ولكن حياة الإنسان هكذا. فالإنسان أيضاً يشعر بالضجر وطول الوقت ويحس احياناً بثقل الزمن ويعاني من الفراغ. الاحساس بالضجر مسألة مهمة في حياة الإنسان. ومثل هذا الشعور يدفع كثيراً بالإنسان نحو العمل والنشاط والبحث عن التغيير والتفكير بالتطوير هربا من ذاك الاحساس الذي يطلق عليه: الضجر. الإنسان كالطبيعة. فالطبيعة أيضا ساكنة ولا تتحرك وهي أحيانا تولد الاحساس بالضجر على رغم جمالها الخلاب. ضجر الطبيعة ربما يكون ذاك المحرك نحو التوليد والتغير والتحول من ربيع إلى صيف ثم من خريف إلى شتاء. ثم العودة من جديد لإعادة رسم المسار البياني وتكراره مجددا في اطوار متشابهة ولكنها احيانا تتعرض لتدخل الإنسان الذي يجتهد لتعديل توازناتها أو كسر دائرتها من ربيع إلى شتاء ومن شتاء إلى ربيع. الإنسان أيضا كالطبيعة. فهو يكرر نفسه ويدخل في حالات ضجر تدفعه نحو العبث والانقلاب على نفسه لكسر الروتين وتعديل السياق المبرمج لحياته من فترة الطفولة والشباب إلى فترة الكهولة والشيخوخة... والرحيل عن الدنيا والطبيعة. هناك حكايات كثيرة قالها المخرج الكوري في فيلم قليل الكلام. فالفيلم صورة أولا وبضعة اشخاص ثانيا. وبين الصورة والاشخاص هناك حلقات تتحكم فيها طقوس الطبيعة وتحولاتها بكل جغرافية السلسلة الزمنية من الربيع إلى الشتاء. قصة الفيلم بسيطة فهي تتحدث عن صلة رجل (حكيم) علمته الطبيعة والدنيا اصول التعامل مع الإنسان والاشياء بطفل يعيش معه في ذاك المنزل/ المعبد الذي يقبع في وسط بحيرة تحيط بها الغابات والجبال. المنزل/ المعبد بسيط أيضا. فهو يتألف من غرف مفتوحة على بعضها تفصلها ابواب لا وظيفة لها ولكن المخرج قصد من وضعها بعض المعاني. فالباب هو الفاصل بين الحدود وهو يقفل على خصوصية الإنسان من دون ان تتحول الخصوصية إلى عزلة قاتلة. الأبواب موجودة في كل مكان من مدخل غرف النوم إلى مدخل المعبد/ المنزل وانتهاء بذاك الباب الذي يفصل حدود البحيرة عن حدود اليابسة. الباب لا وظيفة له ولكنه يعطي اشارة إلى الفصل بين الاشياء وحدودها. فكل إنسان له بابه الخاص وهذا العازل هو الاساس في فصل خصوصيات البشر وحدودهم. إذاً هناك الرجل / الحكيم والطفل / الوحيد. فالحكيم يعلم الطفل ويدربه. كذلك الطبيعة فهي تلهم الطفل الكثير وتفتح له اذرعها للتعلم والتكيف وحتى التدخل في تغيير نمطها وسلوكها. وكبر الطفل وشاخ الرجل. واستمرت العلاقة على حالها بين استاذ يعطي المواعظ من تجربته وشاب يتلقى الحكمة من تجربة غيره. وتحت هذه العلاقة الطبيعية (الروتينية) المملة يحصل الانقلاب. فالمنزل هو معبد. ولأنه مكان له صفة دينية يتعرض احيانا لزيارات ناس يبحثون عن التوازن والهدوء بعيدا عن صخب المدينة وازدحام بشرها. الانقلاب يبدأ في حياة الشاب المعزول عن الدنيا حين يكتشف الجنس الآخر. ويبدأ مزاج هذا الشاب الذي تعلم الحكمة بالتلقين أو بالتجربة الحسية بالتغيير حين يلتقي المرأة. وهي أول امرأة يراها في حياته. وهكذا تدخل الطبيعة في طقس آخر. والإنسان كالطبيعة في تقلباته واحواله المختلفة بين فصل وآخر. الشاب يدخل بعد رؤيته المرأة في طقس جديد لا يتصل بتلك المعرفة الحسية التي اكتسبها ولا بتلك الحكم التي تعلمها من ذاك الرجل الحكيم. وهكذا يقرر الشاب مغادرة المكان والرحيل إلى المدينة ليلحق بتلك الفتاة التي قلبت حكمته إلى جنون. رحل الشاب وبقي الرجل الحكيم في مكانه. كذلك مخرج الفيلم لم يغادر المشهد ويلحق بذاك المتمرد الذي انتقل إلى مكان آخر بحثا عن امرأة اعطته ما افتقده في ذاك المكان الذي أسس شخصيته على العزلة. ذهب الشاب وبقي مخرج الفيلم في مكانه يعيد تصوير تقلبات الطبيعة واختلاف طقوسها. وبعد زمن ليس بالطويل يعود الشاب إلى مكانه كهلاً. بينما الكهل تحول بعد طول انتظار إلى شيخ يكتسب المزيد من المعرفة عن طريق تطوير وسائل التعلم من خلال التجربة. الطفل/ الشاب/ الرجل يدخل من جديد في مواجهة مع الرجل/ الكهل/ الشيخ. وهذه المرة بسبب اقدام الهارب ضجرا من العزلة إلى الصخب على قتل تلك الفتاة التي احب واعطته ما كان يفتقده. المواجهة إذا حدثت على حدود تلك الأبواب التي تفصل بين الجريمة (المخالفة) والعقاب (القانون). فالشيخ الحكيم أدرك أن ذاك الطفل الذي لقنه وعلمه الدروس واعطاه المواعظ واكسبه الكثير من التجارب الموروثة والمكتسبة ارتكب خطأ (جريمة). ومن يرتكبها عليه أن يدفع ثمنها. وهذا ما حصل. إذ يأتي القانون (الشرطة) ويأخذ المذنب ليقضي عقوبته في سجن يشبه تلك الطبيعة في عزلتها. وحين يعود من السجن (العزلة) إلى المكان (المعبد/ المنزل) يكون الشيخ قد رحل وبقيت الاشياء على حالها والطبيعة في مكانها تكرر المشهد وتعيد انتاجه في طقوس مشهدية جميلة وخلابة. الطفل اصبح كهلا واحتل مكان الشيخ واخذ يكتسب من جديد تلك «الحكمة الشرقية». وهنا تأتي مفاجأة أخرى هي دخول امرأة على خط الكهل / الحكيم حاملة معها طفل. وهذا الطفل بدأ أيضا يتعرض بدوره لتجربة تشبه كثيرا تلك ا
العدد 1241 - السبت 28 يناير 2006م الموافق 28 ذي الحجة 1426هـ