العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ

تعدد المجموعات وتنوع اللهجات ن(2)

فقر الدم المنجلي العلامة الجينية المميزة

أصول فقر الدم المنجلي الإفريقي:

لقد تم دراسة تاريخ نشوء وانتشار أنواع فقر الدم المنجلي الإفريقي في عدة دراسات. وتشير تلك الدراسات إلى أن انتشار نوع الكاميرون ينحصر في مجموعات إثنية محددة توجد في الكاميرون، وكذلك نوع السنغال الذي ينحصر في مجموعات إثنية تقطن السينيغال. وكلا النوعين الكاميروني والسنغالي محدود الانتشار ربما بسبب حداثة حدوث الطفرة المسببة للمرض في تلك الجماعات، بينما النوع بنين فهو واسع الانتشار ليس فقط في إفريقيا بل أيضا في الشرق الأوسط وأوروبا، وهذا دليل على قدامة حدوث هذه الطفرة المؤدية للمرض والتي صادف أن حدثت على جين بيتا غلوبين ذي تباين محدد وهو فرامورك 2 بنين. وهذا النوع من الفرامورك منتشر بنسبة كبيرة في المجموعات الإثنية في بنين والمناطق المجاورة لها. ويمكننا القول إن نشأة النوع بنين حدثت في منطقة بنين وما جاورها منذ زمن بعيد وقد تسببت هجرات الشعب الأصلي (أو من خالطهم أو انحدر منهم) في تلك المنطقة إلى المناطق الأخرى، والدليل على ذلك إننا لا نجد جين بيتا غلوبين ذا فريمورك 2 بنين في الأشخاص السليمين (غير المصابين أو الحاملين للمرض) في المناطق التي ينتشر بها النوع بنين إلا في بنين وما حولها.

احتمالات أصول طفرة فقر الدم المنجلي العربي- الهندي:

كما هو موضح بالخارطة رقم (2)، فإن توزيع الهابلوتايب العربي- الهندي يوضح أنه ينتشر في مملكة البحرين وشرق الجزيرة العربية وإيران، بالإضافة لانتشاره في الشعب القبلي في الهند وهو غير موضح في الخارطة.

قبل البدء في سرد الاحتمالات الممكنة لأصل فقر الدم المنجلي العربي- الهندي يجدر بنا أن نسرد تاريخ القبائل الهندية. ففي الفترة ما بين 1750 - 1500 ق. م. بدأت حضارة وادي السند في التدهور وذلك لعدة أسباب منها جفاف النهر الذي كان يعتبر العصب المغذي لهذه الحضارة. وفي نفس هذه الفترة حدثت هجرة لشعب عرف بالأريان (الشعب الهندي الأوروبي) لحضارة وادي السند ما أدى إلى ظهور الطبقية الاجتماعية. جزء من شعب حضارة وادي السند أندمج مع الأريان وكوّن نظام الطوائف أو الطبقات الاجتماعية (castes) ويشمل ثلاث طبقات: العليا والوسطى والسفلى. وتدل الدراسات الجينية التي أجريت على هذه الطوائف أن نسبة اندماج الشعب الأصلي مع الأريان تتفاوت من الطبقة العليا إلى الطبقة السفلى لأن الأريان كانوا يعتبرون من الأشراف وبالتالي يمثلون الطبقة العليا بنسبة أكبر. أما المجموعة الثانية من شعب حضارة وادي السند والتي لم تندمج مع الأريان وبالتالي لم تندمج في النظام الطبقي فقد كونت مجموعات قبلية، ومن هنا بدأ تكون هذه القبائل وانتشارها في شبه القارة الهندية منذ 1500 ق. م. و في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد أصبحت هذه القبائل واضحة ومنتشرة بصورة أوسع. وهذه القبائل بقيت حتى يومنا هذا. وغالبا ما تعتبر هذه القبائل منعزلة عن المناطق المدنية القريبة منها. وهذه القبائل ليست كلها قريبة من بعض البعض، فبعض هذه القبائل يبعد آلاف الأميال عن بعضها البعض. ويتفشى مرض فقر الدم المنجلي حصريا تقريبا بين هذه الشعوب القبلية. وتدل الدراسات الجينية على أن هذا النوع من فقر الدم المنجلي هو النوع ذاته العربي- الهندي في كل القبائل. وعليه يمكننا القول إن هذا النوع ظهر قبل أن تبتعد تلك القبائل عن بعضها البعض أي عندما كانوا يعيشون في حضارة وادي السند.

وتدل الدراسات التي أجريت على عظام شعب حضارة وادي السند (قبل 1800 ق.م) أن الأنيميا كانت موجودة في تلك الفترة وأن الأنيميا الوراثية (المنجلية و الثلاسيميا) كانت منتشرة فيها. من ذلك نستنتج أن طفرة فقر الدم المنجلي العربي- الهندي ظهرت قبل العام 2400 ق. م وانتشرت في حضارة وادي السند في فترة ذروتها (2400 ق. م - 1800 ق.م).

ولكن إذا كان فقر الدم المنجلي قد ظهر في شبه القارة الهندية قبل تكوّن نظام الطبقات والشعوب القبلية، فلماذا لا يوجد في أفراد نظام الطبقات؟. أثبتت الدراسات التي أجريت على DNA الميتوكندريا لشعب نظام الطبقات والشعب القبلي أن هناك نوعا من التقارب من ناحية الانحدار الأمومي رغم نظام الحياة المختلف. لقد اختلط جزء من الشعب القبلي مع الأريان وكوّنوا نظاما اجتماعيا يقوم على المدنية والتطور العمراني مما أدى إلى أولا: تخفيف وجود جين فقر الدم المنجلي بسبب الاندماج. وثانيا: الابتعاد عن نظام الحياة الريفية وأساليب الحياة التقليدية ما أدى إلى تناقص الملاريا وبالتالي التقليل من الخاصية الانتقائية لجين فقر الدم المنجلي­. كذلك يجب أن لا ننسى أن الأريان اختاروا النساء السليمات ليتزاوجوا معهن (انتقاء اصطناعي) وأدى ذلك لانحسار جين فقر الدم المنجلي ­في الشعب القبلي.

بالمقابل أثبتت الدراسات التي أجريت على عظام شعوب جزر البحرين القدماء مستخرجة من أربع مقابر يعود تاريخها للفترة الهلنستية (300 ق. م. - 250 بعد الميلاد) وجود أنيميا وراثية (منجلية وثلاسيميا) وهذا يعني أن طفرة الأنيميا المنجلية وفدت أو نشأت في جزر البحرين قبل 300 ق. م.

فهل نشأ جين فقر الدم المنجلي من النوع العربي الهندي على جزر البحرين؟. هذا احتمال يرجحه بعض الباحثين. فهل يمكن أن لجين فقر الدم المنجلي­ من النوع العربي الهندي قد نشأ في الشعوب التي استوطنت البحرين وشرق الجزيرة العربية ومن ثم انتقل إلى شبه القارة الهندية عن طريق التجار العرب؟. هذا السيناريو لا يرجحه أحد من الباحثين المعاصرين وخاصة بعد الدراسات المستفيضة التي أجريت على هذا النوع من فقر الدم المنجلي، وسنوضح لماذا يستبعد هذا الاحتمال بعد أن نوضح السيناريو الأكثر احتمالا والذي يلاقي قبولا علميا في الأوساط العلمية.

السيناريو المحتمل لتواجد طفرة فقر الم المنجلي العربي- الهندي في دلمون:

كما أشرنا إليه، فإن هذه الطفرة نشأت في حضارة وادي السند قبل العام 2400 ق.م وانتشرت في أنحائها (بسبب وجود الملاريا كسلبية ثانوية لوجود المياه الراكدة) في فترة ذروتها (2400 ق. م. - 1800 ق. م) ومن هناك انتقل إلى جزر البحرين. فالبحوث الأركيولوجية تدل على تأثيرات قوية لحضارة وادي السند على حضارة البحرين القديمة (دلمون) في الفترة (2200 ق. م. - 2000 ق. م) (كما أوضحنا في الحلقات السابقة). و من هنا يبدو أن طفرة فقر الدم المنجلي وصلت إلى البحرين عن طريق هجرة جماعات من شعوب حضارة وادي السند ومن ثم انتشرت بين شعوب البحرين القديمة في فترة التوسع الأولى (2200 ق. م. - 1800 ق. م) وهي فترة ذروة الازدهار والتوسع الزراعي وهي نفس الفترة التي انتشر فيها مرض الملاريا نتيجة المياه الراكدة التي أدت لتكاثر البعوض الناقل لطفيل الملاريا.

ومن بعد العام 1700 ق. م. بدأت حضارة دلمون (البحرين قديما) تضعف ويتقلص شعبها. وقد اعتبرت الفترة ما بين 1250 ق. م - 650 ق.م أضعف فترة لدلمون حيث تقلص شعبها لأقل ما يمكن وخلال تلك السنوات حدثت غربلة لشعب دلمون حيث إن المصاب بفقر الدم المنجلي يموت بسبب المرض كما يموت السليم النقي متأثرا بالملاريا. وأصبحت فرصة الحاملين لجين فقر الدم المنجلي­ أكبر للنجاة وبالتالي زاد عدد الحاملين لهذا الجين عبر السنين. وبوصول شعب دلمون إلى أقل ما يمكن أصبح هذا العدد القليل والذي يحمل جزءا كبيرا منه جين فقر الدم المنجلي­ هو المؤسس للشعوب الدلمونية اللاحقة.

أما الفترة الهلنستية في البحرين فقد شهدت ازدهارا في الزراعة من جديد وازديادت أماكن الاستيطان في البحرين مما أدى لوفود شعوب أخرى تزاوجت مع الشعب المتبقي من حضارة دلمون. وقد استمرت موجات الهجرة إلى البحرين بعد ذلك حتى مجيء القبائل العربية قرابة 300 م. وقد تغلبت العناصر العربية المتمثلة في قبيلة عبدالقيس والقبائل المنضوية تحتها من بكر بن وائل وبني تميم، فكتبت لها السيادة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأذابت الشعوب القديمة في بوتقتها حتى طبعت التركيب السكاني في المنطقة بطابعها، بانتشار أفخاذها في المدن والأرياف والبادية.

وهكذا تكوّن شعب البحرين القديمة (جزر البحرين وشرق الجزيرة) الذي ساد عليه العرق العربي فيما بعد إلا أن تأثيرات الأعراق الأخرى لم تندثر كليّا، فبعض الصور الجينية لتلك الشعوب القديمة والتي لها ميزات انتقائية بقيت وانتشرت بسبب انتشار مرض الملاريا في تلك المناطق. وما أهل القرى اليوم في البحرين إلا امتداد لتلك الشعوب العربية العريقة، فقد أوضح المسح الأخير لمرض فقر الدم المنجلي في البحرين أنه ينتشر بصورة أساسية في المناطق الريفية بالأخص قرى الساحل الغربي (23 في المئة) وقرى الساحل الشمالي (22 في المئة)، تليها جدحفص (22 في المئة) وجزيرة سترة (21 في المئة)، وأقل النسب كانت في المحرق (7 في المئة)، تليها الرفاع (4 في المئة) ثم الحد (2.7 في المئة).

لماذا يُستبعد نشوء طفرة فقر الدم المنجلي العربي - الهندي في دلمون؟

لا توجد أية دلائل تاريخية أو اركيولوجية لتواجد سكان دلمون في حضارة وادي السند. إذ بعد انتهاء حضارة وادي السند تكوّن الشعب القبلي المنعزل على نفسه الذي نادرا ما اندمج مع باقي شعوب القارة الهندية فكيف له أن يندمج مع شعوب أخرى وافدة أو مع التجار العرب؟ وكيف أن أولئك التجار اختلطوا مع الشعب القبلي دون غيرهم من شعوب القارة الهندية؟

ما هو احتمال حدوث طفرة فقر الدم المنجلي العربي - الهندي في شعبين منفصلين؟

هناك احتمال آخر لأصل طفرة فقر الدم المنجلي العربي - الهندي يستبعده جميع من تطرق لأصل هذا الجين من الباحثين وهو احتمال أن تكون الطفرة حدثت في شعبين مختلفين أي شعب حضارة وادي السند والشعب الدلموني كل على حدة. هذا الاحتمال ضعيف جدا والسبب يرجع إلى أن الهابلوتيب التي حدثت عليه الطفرة سائد في الأفراد السليمين في الشعب القبلي الهندي بصورة كبيرة بينما نسبته منخفضة في شرق الجزيرة العربية، وسبق أن أشرنا إلى أن الطفرة غالبا ما تحدث على الصورة الجينية الأكثر انتشارا بين الأفراد، وأن عدم وجود أو ندرة الصورة الجينية التي حدثت عليها الطفرة في الأفراد السليمين يرجح حدوث هجرة للمرض من مناطق أخرى، وخاصة أنه في حالة مرض فقر الدم المنجلي هذا فإن الشواهد التاريخية ترجح حدوث الهجرة كما أسلفنا سابقا و في حلقات سابقة أيضا.

العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً