العدد 1322 - الأربعاء 19 أبريل 2006م الموافق 20 ربيع الاول 1427هـ

محطات بحرينية سودانية (3)

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

اليوم تغيرت الدنيا وسقط المعسكر الشرقي وظهر قطب واحد على الساحة الدولية: أميركا، الخصم والحكم للعالم العربي اليوم.

إن سنوات الستينات بزخمها السياسي والحماسي انتهت إلى غير رجعة وحل محلها لدى القادة العرب واقعية واضحة، و«إسرائيل» أصبحت الآن واقعاً معاشاً، وفرضت وجودها على الساحة العربية بقوة وتقول للعرب «هل من مبارز» طبعاً عبر المفاوضات وشروطها التعجيزية المنطلقة من القوة المدعومة من أميركا والغرب، ومن الملاحظ أن قرارات القمة الأخيرة في السودان دعت إلى تفعيلها بعيداً عن اجواء البيروقراطية العربية التي تقتل البشر والحجر، ومنها لابد من تطوير الأمور المتعلقة بالعلاقات البينية اقتصادياً ومالياً وطبعاً سياسياً وتنمية مؤسسات العمل العربي الجماعي المشترك ومنها تأسيس منطقة التجارة الحرة العربية الكبري وخفض وإزالة القيود الجمركية التي تعترض انسياب التجارة البينية العربية، وبقى حجم هذه التجارة عند 10 في المئة فقط من مجموع التجارة العربية، وهناك عوائق إطالة عبور البضائع عبر الحدود بسبب التفتيش واجراءات أخرى روتينية ليس هنا مكانها.

بقي أن أقول إن الذي يشد الإنسان إلى صداقة الاخوة السودانيين هو ودهم وما يتمتعون به من صفات إنسانية عفوية تبقى عالقة في ذهن الإنسان ومستقرة بوجدانه مهما تقادمت. وفي لبنان يصبح من الصعب عليّ أن انسى طباخنا السوداني الهمام عبدالحي محمود، كنا نقطن في بناية جميلة في بيروت الغربية واقام فيها المرحوم الشيخ خالد بن علي آل خليفة، وهو مؤسس سفارة البحرين في مطلع السبعينات ويتمتع بأخلاق عالية وشمائل لا تعد ولا تحصى من الكرم والجود والتواضع، وتخرج في كلية فكتوريا الإنجليزية الراقية في مصر التي تخرج فيها أيضا الملك حسين، وحز في نفسي أن الرجل لم ينل أي تقدير يذكر أثناء عمله في وزارة الخارجية ما انعكس على نفسه وعلى معنوياته.

كانت الشقة ذات لمسات راقية وذوق رفيع وسكن هذه الشقة أيضاً علي إبراهيم المحروس، أول سفير للبحرين وتركها بعد اندلاع الحرب الأهلية في ابريل/ نيسان 1975 وسكنتها ما بين الفترة 1977 - 1979 بعد دخول قوات الردع السورية، واستميح القارئ عذراً في التخفيف من الحديث عن القمم العربية ومعها الهمم العربية القعساء التي اوصلتنا إلى ما نحن فيه من عجز عربي مبين يدركه الجميع. ونعود إلى طباخنا العظيم عبده الذي يعاني من عيب شرعي واضح، وهو حبه الجم لمعاقرة الراح الصفراء لإصلاح الكيف وأحياناً تملك عليه لبه وارادته وخصوصاً خلال عطلة الأسبوع، إذ يخفف من أعباء العمل الروتيني الاسبوعي، كنت أذهب في كل يوم أحد مع أسرتي إلى خارج بيروت ولاسيما المناطق الجبلية الجميلة ونعود عصراً، وعندا دخولنا المنزل كان الطباخ عبده عاد لتوه من الخارج وهو في منتهى الثمالة والانبساط والانشراح، ودعاني مرة إلى المطبخ وشباكه الذي يطل من الدور العاشر على تمثال مهيب لشخصية لبنانية وطنية هي أبوشهلا، وجدت عبده يطيل النظر إليه ويحملق بإعجاب ودهشة، وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان أن التمثال اليوم غيره أمس، فهو مستمر في الدوران والالتفاف حول نفسه وعلى غير عادته، وطلب مني أن أمعن النظر معه وقال إن هذه التمثال يعطيه الآن وجه وأحيانا قفاه، وأثارت ملاحظاته هذا غضبي بل وعجبي وزجرته بقوة عن هذا الهذيان الذي لا يستقيم مع المنطق، وقلت له إن لبك وعقلك هو الذي يدور ويبرم لا هذه التمثال الثابت على قاعدته الحجرية، وأضفت قائلاً: «إن الخمرة التي شربتها خارج البيت هي التي لعبت بعقلك واوصلتك إلى هذه النتيجة».

وفي صباح اليوم الثاني بعد أن استعاد عبده وعيه قلت له يا صاحبي هل ترى التمثال الآن يدور فقال إنه كان يدور بالأمس وتوقف اليوم عن الدوران، وقرر عبده أن يتركني إلى غير رجعة إلا انني نجحت في ثنيه عن الاستقالة بشرط ألا نفسد عليه المزاج! وفضل عبده بعد تركنا بيروت إلى طهران للعمل هناك أن يبقى في لبنان، إذ توجد جالية كبيرة من أهل السودان الكرام وأهل النوبة. وفي نهاية الثمنينات عندما ذهبت عائلتي إلى جدة لأداء مناسك الحج كان عبده يعمل طباخاً لدى أحد الأمراء السعوديين وفي المطار كانت المفاجأة، إذ كان معه أكثر من عشرة سودانيين يقومون بواجبات الاستقبال والضيافة ويحملون بعض الهدايا، وفي ختام زيارتنا للسودان أجريت معي مقابلة تلفزيونية طيبة نوهت بما تبذله حكومة السودان من جهود للتغلب على كوارث السيول والأمطار وخصوصاً توزيع المواد الغذائية والمواد الطبية

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1322 - الأربعاء 19 أبريل 2006م الموافق 20 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً