العدد 1327 - الإثنين 24 أبريل 2006م الموافق 25 ربيع الاول 1427هـ

«الأصالة» و«المصب الرئيس» والتحدي الطائفي

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

في 6 مايو/ايار 2005، صدر تقرير إنترناشونال كرايسز غروب GCI، وجاء فيه أن «التحدي الطائفي» هو أزمة البحرين الحقيقية اليوم، وأن تداخل الصراع السياسي والاجتماعي مع التوترات الطائفية ينتج عنه مزيج قابل للاشتعال في أية لحظة.

ولا أود هنا أن أتوقف عند هذا التقرير، ولا أن أقلل أو أعلي من شأنه، بل وددت أن أنقل حقيقة التحدي الطائفي الذي تمر به البحرين اليوم من مجال الصراع التي يتداخل فيه السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى مجاله الثقافي؛ لأني أتصور أن كل مؤشرات التحدي الطائفي التي ذكرها التقرير مثل التمييز بين المواطنين في الوظائف والمناصب ومناطق السكن والدوائر الانتخابية والتجنيس السياسي وغيرها، كل هذه المؤشرات يمكن أن تنتهي بقرار سياسي حقيقي وجريء، ولكن ما لا ينتهي بقرار سياسي هو الطائفية من حيث هي نسق ثقافي انغرس في النفوس، وانبنت عليه الذهنيات. فلا يقوض هذا النسق إلا نقد ثقافي متوافق مع رغبة جماعية في الخلاص من هذا البلاء. وأخطر مؤشرات هذا النوع من الطائفية اليوم يتمثل في مقولتين هما: مقولة الأصالة، ومقولة المصب الرئيس.

وتقوم هاتان المقولتان على عقلية اصطفائية إقصائية، ويكون من تبعاتها تصيير الآخر المختلف إلى طارئ على هذه الأرض، وتحويل وجوده فيها إلى وجود هش وهامشي وعرضي وزائل. فمن يقول بأصالته في هذه الجزر يريد أن يؤكد أن وجوده فيها ممتد ومتصل منذ الأزل ودونما انقطاع أو فجوات، وهو وجود نقي ومتفرد دونما شركاء يزاحمونه، ودونما تداخل وانصهار واندماج مع الآخرين، هكذا وكأن وجوده انبثق فيها انبثاقاً يوم انفكت هذه الجزر عن التحامها بيابسة الجزيرة العربية.

وكذا تفعل مقولة المصب الرئيس؛ لأن من يقول إنه، وطائفته، يمثل المصب الرئيس في الإسلام والقومية والوطن، فإنه يفترض أن وجوده هو الوجود الأصيل والأساسي في الإسلام كما في القومية والوطن. والحق أن هذه المقولة هي الوجه الآخر من مقولة الأصالة؛ لأن مصب النهر خلاف مخرجه وخلاف فروعه، فهو موضع انصبابه في نهر أكبر أو بحر أعظم. كما أن كلمة «المصب» تشي بالجريان الممتد والمتصل من دون انقطاع، وهي تنطوي على معاني الاستقرار والثبات حتى جاء في «لسان العرب»: انصبت قدماه في الوادي بمعنى استقرتا وهو مستعار من انصباب الماء.

وبهذا تتلاقى المقولتان بما انهما تشتركان في الامتداد المتصل غير المنقطع، والمستقر في مكان ما سواء كان نهراً أو بحراً أو جزيرة. وهذا النوع من الامتداد المتصل والاستقرار الثابت بمثابة تنويع محلي على مقولات العنصرية ومفاهيم النقاء العرقي، لأن امتداد طائفة ما باتصال ومن دون انقطاع لا يعني أن هذه الطائفة لم تتعرض للانقراض فحسب، بل يعني أنها نقية ومطهرة من التداخل والاندماج مع الطوائف والجماعات «الملوثة» الأخرى. هذا هو معنى النقاء العرقي والطائفي، وهذا هو أكبر دلائل العنصرية التي تتحدر منها الطائفية كنسق.

وكما تهيئ مقولة النقاء العرقي لإبادة الأعراق الأخرى المختلفة و«الملوثة» والهجينة، كذلك تعمد مقولتا الأصالة والمصب الرئيس إلى الإبادة المتخيلة - والتي يمكن أن تهيئ لإبادات فعلية - لكل الجماعات المختلفة التي تعمقت صورتها النمطية في المتخيل كجماعات طارئة وهجينة وهامشية وفرعية وهشة وزائلة، أو هي في مهب الريح لكونها بلا جذور، أو بجذور مجذوذة ومعلقة في الهواء.

وتقوم هاتان المقولتان أيضاً على ادعاء منقوص لا لكون الواحدة منهما تقوض الأخرى إذ تتقابل الأصالة والمصب الرئيس وجهاً لوجه في عملية تدمير متبادل، بل لأن هاتين المقولتين تزيفان التاريخ المحلي لهذه الجزر، هذا التاريخ الغني والثري بالتنوع الخلاق.

ينسى القائلون بهاتين المقولتين أو يتناسون أن تاريخ هذه الجزر لم يعرف النقاء العرقي ولا الطائفي طوال امتداده المعروف. وهذا زعم نقول به، ولإثباته نحتاج لوقفة أكثر تفصيلاً، لكن الآن يمكن التذكير بدلائل تاريخية سريعة:

يذكر البلاذري في «فتوح البلدان» أنه «لما كانت السنة الثامنة وجه رسول الله (ص) العلاء الحضرمي... إلى البحرين ليدعو أهلها إلى الإسلام أو الجزية، وكتب معه إلى المنذر بن ساوى... يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية. فأسلما وأسلم معهما جميع العرب هناك وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى فإنهم صالحوا العلاء».

تذكر إشارة البلاذري بالأصل التعددي والمتنوع لأهل هذه الأرض إبان الفتح الإسلامي، إذ احتضنت هذه الأرض كلا من: «العرب والعجم واليهود والنصارى والمجوس»، فكل هؤلاء كانوا من «أهل الأرض»، ولم يكونوا غرباء ولا أجانب ولا طارئين. وحين يكون الجميع من «أهل الأرض» فلا معنى عندئذ لمقولتي الأصالة والمصب الرئيس.

وتتوافق إشارة البلاذري مع إشارة متأخرة جاءت من ناصر الخيري (1876 - 1925) في كتابه «قلائد النحرين في تاريخ البحرين» حين يذكر أن المنامة في العقد الثاني من القرن العشرين كان يقطنها 25 ألفاً من أجناس متنوعة، منهم 20 ألفا من الأهالي سنة وشيعة، والباقي نجادة وعجم وعراقيون وهنود (قلائد النحرين في تاريخ البحرين، ص432).

وبهذا يكون سياق المنامة العشريني المتنوع نموذجاً مشرقاً يعيد سيرة أوال إبان الفتح الإسلامي، وقد استطاعت المنامة كما أوال أن تطورا صيغة مقبولة من التعايش المشترك بين هذه الهويات، ما سمح فيما بعد باندماج كل هذه الهويات، سلمياً وطوعياً، في «الهوية الوطنية» البحرينية، فصاروا جميعاً من «أهل الأرض».

هاتان إشارتان قديمة ومتأخرة، وما بينهما تقع إشارة من العصور الوسطى وهي لابن المجاور الذي صنف كتابه «تاريخ المستنصر» في العام 630هـ (1232-1233م)، يقول في آخر فقرة من كتابه: «وتسمى الجزيرة جزيرة أوال وبها ثلاثمئة وستون قرية إمامية المذهب ما خلا قرية واحدة». ويقف عند هذه الإشارة التي ينقلها - كما يقول - عن أهل البلاد من دون أن يذهب أبعد لتحديد دين هذه القرية الوحيدة أو مذهبها، إلا أن أهمية هذه القرية المختلفة تكمن في قدرتها على تقويض مقولتي الأصالة والمصب الرئيس سواء بسواء وبالدرجة نفسها. فلا نقاء عرقياً ولا طائفياً في هذه الأرض، كما أن وجود هذه القرية المختلفة بين 360 قرية إمامية يقوض مقولة المصب الرئيس، بل يقلبها رأساً على عقب.

هذا هو أصل هذه الجزر وهذا هو فصلها، إذ لا أصالة في هذه الجزر إلا لهذا التنوع الخلاق، ولا «مصب رئيس» هناك غير هذه الأرض كسياق يحتضن هذا التنوع. وما على ظهر هذه الأرض إلا من هو من «أهل الأرض» أو من «أهل البلاد»

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1327 - الإثنين 24 أبريل 2006م الموافق 25 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً