العدد 3189 - الثلثاء 31 مايو 2011م الموافق 28 جمادى الآخرة 1432هـ

التلفزيونات عندما تعتذر!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في خطوةٍ تاريخية عجيبة، قام التلفزيون الصربي الأربعاء الماضي بتقديم اعتذار عن الدعاية التحريضية التي كان يبثها في التسعينيات، والتي أسهمت في تأجيج نار الحرب الأهلية وانتهت إلى تمزيق يوغوسلافيا إلى ست جمهوريات.

الوكالات التي أوردت الخبر، أوضحت أن التلفزيون الصربي الحكومي (RTS) في أواخر الثمانينيات كان أحد أعمدة نظام سلوبودان ميلوشيفيتش، الشيوعي السابق، الذي وصل للحكم بعد صراع مرير مع منافسيه، ببرنامج عمل يسعى لفرض السيطرة الصربية على بقية قوميات الاتحاد اليوغوسلافي، ما أدى في النهاية إلى نشوب حروب في كرواتيا وسلوفينيا (1991)، ومقدونيا والبوسنة والهرسك (1992). وبعد ثمانية أعوام من الحكم، ألقي القبض عليه في العام 2000 بتهم الفساد وإساءة استخدام السلطة. وفي العام التالي سلمته بلغراد إلى محكمة لاهاي بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، وتوفي في السجن في مارس/ آذار 2006. نهايةٌ تراجيديةٌ لرجل بائس، انتحر أبوه وهو في المدرسة الثانوية، وانتحرت أمه شنقاً بعد عشر سنوات. حياةٌ مفككةٌ، وسيرةٌ انتهت إلى تفكيك البلاد.

في رسالة الاعتذار التي بثها مجلس إدارة التلفزيون الصربي على موقعه الإلكتروني، جاء فيها: «نعتذر للشعب الصربي وشعوب الدول المجاورة الذين تعرّضوا للإهانات والتجريح وخطاب الكراهية. نحن الآن ملتزمون بالترويج لحكم القانون والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحريات الأساسية». إنها إعلان طلاقٍ مع ماضٍ مخجل وكئيب.

بدأت حملات الكراهية صغيرةً وموجَّهةً إلى بعض مكونات الشعب اليوغوسلافي، ما فتئت أن توسعت حتى شملت الجميع، فالعجلة في بداية دورانها بدأت بطحن الكروات، وانتقلت للسلوفاك والمقدونيين... انتهاءً بالبوسنيين والألبان.

الرسالة فيها اعترافٌ واضحٌ ومهمٌ وإن جاء متأخراً عشرين عاماً: «لقد جرحنا بشكل متواصل شعور وشرف وكرامة المواطنين والمثقفين والصحافيين المستقلين والأقليات الدينية والقومية». هل كان التلفزيون الصربي بحاجة إلى عشرين عاماً، ليدرك أنه أساء كثيراً إلى شعور وشرف وكرامة المسلمين والكروات؟

«الجمعية الصربية للصحافيين المستقلين»، وعلى خلاف «الجمعية الصربية للصحافيين غير المستقلين» التي كانت تشارك في جلد الصحافيين والتحريض على محاكمتهم وتقديمهم ضحايا على مذبح الحريات... رحَّبت الأولى باعتذار إدارة التلفزيون، ولكن اعتبرته غير كافٍ، فقد كان عليها أن تكون أكثر صراحةً في انتقاد دورها في إذكاء نار الحروب، وتخريب النسيج الاجتماعي وتفتيت اللحمة الوطنية.

إدارة التلفزيون برّرت مواقفها السابقة بأن الجهاز أسيء استخدامه أيام ميلوشيفيش. وبراغماتياً، يمكن الدفاع عن طواقم التلفزيون بأنهم عبيد مأمورون، بل إن أحدهم اعترف بعظمة لسانه قائلاً: «لقد كنا قروداً». أما انثروبولوجياً، فقد عملوا على تفتيت يوغوسلافيا وزرع بذور الحرب الأهلية وبث روح الكراهية والعداء بين اليوغوسلاف، وحوّلوهم إلى فئاتٍ تتربص ببعضها الدوائر.

في تلك الفترة، كانت هذه الأطقم تشن حملات الكراهية والتحريض وشحن النفوس بالأحقاد. وفي أوج صعودها الإعلامي، قامت بعقد محاكماتٍ لأي شخص غير مرغوب فيه، والسماح لنفسها بـ «شرشحته» على الهواء، ومن ثم إدانته في جلسةٍ واحدةٍ قبل تقديمه للمحاكمة، أو ترك فرصة له للدفاع عن نفسه. أطقم كانت تعمل كفرق تحقيق جنائي، تشق عن قلوب الناس، وتتهمهم في نواياهم، وتأخذهم بالظنة وتدينهم بالشبهة، وتعتمد على أقوال الوشاة، بعيداً عن المهنية ومواثيق الشرف الإعلامي والأخلاق.

أطقم التلفزيون الصربي ظلت تلاحقهم تهم التبعية والعبودية والاستلحاق، وهي إشكاليةٌ واجهت أيضاً رموز الإعلام التونسي بعد سقوط زين العابدين بن علي، وخرج الكثير منهم ليعتذر عن أخطائه وخطاياه بحق التوانسة. وتسبَّبت أيضاً في هزةٍ كبرى للإعلام المصري بعد سقوط حسني مبارك، وما أعقبه من سقوطٍ مدوٍّ لنجوم الفترة السابقة. وفي البلدين يمر الإعلام بمرحلة من التطهر والتطهير، فلم يعد الجمهور يثق إطلاقاً بمن مارس الكذب والبهتان، والتزوير والتضليل، والدس والتحريض، وحوَّل القنوات التلفزيونية إلى مقاهٍ شعبيةٍ وحفلات تشييشٍ على الهوية!

هذه الأطقم الإعلامية هي من أسباب المشاكل وليست من أدوات الحلول. لقد بارت تجارتهم في السوق، وعندما يمشون اليوم في شوارع تونس والقاهرة، يقابلهم الجمهور بنظرات الاحتقار وعبارات الاستهجان.

إنها تبدلات الأزمنة، فنجوم فترات الفتن والحروب الأهلية لا يعودون نجوماً في فترات الهدنة والمصالحة والسلام، إلا إذا بدلوا جلودهم وأفكارهم كما تفعل بعض المخلوقات، وهي وظيفةٌ يتقنون أداءها بامتياز.

قبل أيام، قامت الحكومة الصربية بتسليم أحد مجرمي الحرب إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وهو ما يمكن وضعه سياسياً إلى جانب اعتذار التلفزيون الصربي، في سياق محاولات الحكومة الصربية إرضاء الاتحاد الأوروبي من أجل الحصول على عضوية الاتحاد. والله أعلم بخفايا السياسة والإعلام

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3189 - الثلثاء 31 مايو 2011م الموافق 28 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً