العدد 939 - الجمعة 01 أبريل 2005م الموافق 21 صفر 1426هـ

لا يجوز

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

بغية تعويدهم على الانضباط وطاعة الاوامر، يربى العسكريون على قانون وعرف سائد في كل مكان: "الخير يخص والشر يعم". في الكليات العسكرية يطبقونه في كل دقيقة. فبموجب هذا القانون يحق للطلاب الأقدم ان يأمروا الطلاب المستجدين بأي أمر يخطر على البال: تحريك مبنى، الوقوف رأسا على عقب أو تنظيف الحمامات وكل ما هو شاق لغرض واحد هو تعويد الطالب العسكري على طاعة الأوامر من دون نقاش. لكن قانون "الخير يخص والشر يعم" لا يصلح بداهة للتعامل مع مجتمع بأسره في ظل دستور وحريات عامة. هذا الاحساس بأننا سنعاقب أجمعين بقوانين مقيدة لحرية التعبير يلازمنا كلما انطلقت مسيرة وكلما نظم اعتصام وكلما احرقت اطارات في هذه المنطقة أو تلك. منذ العام 2001 والمسيرات والاعتصامات باتت جزءا من يومياتنا، يحتج الناس على كل شيء ويتظاهرون من أجل قائمة طويلة من القضايا والمشكلات. وعلى رغم مؤاخذات لا تعد على معظم هذه المسيرات، فإن حق التعبير يجب ان يصان. لكن من الواضح اننا سنتساءل بعد حين: من يصون حرية التعبير؟ من أو ما هي ضمانات الحريات لدينا؟ وفي عمق كل المناقشات والجدل الذي يدور بشأن التظاهرات، نحن منقسمون بين من بات يشعر بالتبرم من المسيرات والاعتصامات وبين من يرى ان هذه ليست سوى وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي. نقطة البداية هنا هي الاتفاق المبدئي على ان التظاهر والاعتصام اداة من ادوات حرية التعبير، لكن هذا لا يلغي الحاجة احيانا في ضروراتها العملية. هنا بالضبط يتعين علينا ان نفصل بين تمسكنا بحرية التعبير وادواتها وبين ظروفها أو موضوعاتها. فموضوعات المسيرات ومطالبها قد تفتح خلافا ونقاشا لن ينتهي لكنها لا تلغي حق التظاهر السلمي نفسه. ابعد من تظاهرة 25 مارس/ آذار الماضي، لا يتعلق الامر بحق الوفاق أو غير الوفاق أو أية جماعة محتجة بأن تنزل للشارع لتعلن رأيها. الأمر يتعلق في الصميم بإيماننا بحرية التعبير. أواخر العام الماضي، كنا في أزمة ايضا لكل منا رأي فيها، لكن المحصلة الاساسية كانت مشروع قانون للتجمعات اعدته الحكومة على عجل. وقبل قانون التجمعات هذا، كان هناك قانون للجمعيات السياسية. وقبل هذا وذاك نحن محكومون بقانون الطباعة والصحافة والنشر والتوزيع. القاسم المشترك بين هذه القوانين هي انها مقيدة للحريات، وهذه عبارة تبدو مترفقة وملطفة لأن تقييد الحريات يأتي في ظل دستور يؤكد على الحريات وصيانتها وفي ظل مشروع اصلاح شامل سياسي واقتصادي واجتماعي. ولإصدار مثل هذه القوانين لا يحتاج الامر الى اكثر من امثلة عملية مستمدة من الشارع إذ يفترض ان يمارس الناس حرية التعبير. لابد من نموذج حي وجاهز لكي يعطي القانون المقيد مبرراته القوية والعملية المستندة الى مثال لا يدحض: تطاول في المسيرات وعندما ينظر المرء لمطلقي هذه الهتافات لن يجد سوى فتية صغار. حوادث اتلاف هنا أو هناك أو شجار يبدو مفتعلا تدفع المرء لكي يضع تساؤلا: هل كل الجموع التي تخرج في المسيرات هي بالضرورة تملك الدوافع المعلنة نفسها للمسيرة؟ في احدى المسيرات المناهضة للحرب على العراق، لم اجد اكثر من شباب لا يزيد عمر الواحد منهم على 22 عاما. خرجت من دون ان يدعو اليها احد وسارت الى السفارة الاميركية. جالت الشارع وهتفت ودوت اصوات المحتجين بالهتافات وعادت ادراجها لكنها انفلتت في نهايتها فقط لأن بعض الصغار رموا احجارا على قوات الشرطة. وفي مسيرة مماثلة في المحرق، انفصل بعض المحتجين عن المسيرة وتوجهوا شمالا بمحاذاة سور المطار وسور قاعدة المحرق الجوية لأن هناك بعضا من الجنود الاميركيين. كاد الامر يتحول إلى مواجهة ايضا لولا سرعة بديهة ضابط شرطة بحريني امر الجنود بمغادرة المكان وتدارك بعض عقلاء المسيرة للوضع. وبإمكاننا ان نشير الى امثلة اخرى، تدارك فيها المنظمون أوضاعا كادت تؤدى الى انفلات، لكن هذا سيبقى بأعين السلطة امثلة جاهزة تعطي المبرر لسن قوانين مقيدة للحريات. المريع في الامر ان هذا لا يقتصر على الحكومة بل على جزء غير قليل ممن يفترض فيهم ان يكونوا مدافعين عن الحريات، نوابا بالبرلمان وناشطين خارجه وزعماء تيارات سياسية. الحكومة كلما لوحت بذلك فإنها لا تفعل سوى ان تذكرنا بأن القانون الذي يحكمنا ليست قوانين الديمقراطية واعرافها المستقرة، بل قانون "الخير يخص والشر يعم". فهي تريد معاقبة مجتمع بأكمله وتقييد حرياته بسبب خلافها في الرأي مع جمعية أو تيار سياسي. هكذا يبقى مستقبل ديمقراطيتنا وحرياتنا معلقا دوما باطارات سيارات تحرق هنا ومسيرة هناك واعتصام من اجل هذه القضية وتلك أو هتاف أو تطاول أو خروج مدان بالطبع أو مؤتمر تنظمه هذه الجمعية أو مقال يكتب أو مشاجرة في البرلمان. لكن الخطأ يرتكب مرتين، لدى الحكومة وهي تتعامل مع المجتمع بقانون الكليات العسكرية ومرة اخرى من قبل أولئك الذين يتطوعون لسلب الآخر حقه في التعبير بدوافع الاختلاف في الرأي والمكايدة، لأن الشر عندما يعم سيكون تأثيره على الجميع. الحكومة وهؤلاء ينسون مادة في الدستور، هي المادة 31 التي تقول: "لا يكون تنظيم الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها الا بقانون، أو بناء عليه. ولا يجوز ان ينال التنظيم الجديد من جوهر الحق أو الحرية". فإن كل ما على أولئك المتجادلين بشأن تلك القوانين والتوجهات لتقييد الحريات سوى العودة لهذا النص وصيغته القطعية: "لا يجوز"

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 939 - الجمعة 01 أبريل 2005م الموافق 21 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً