* اعتراف:
لا أنكر بأنني لم أسمع باسمه من قبل، ولم أقرأ له أي شيء، وهذا ليس ذنبي، وإنما ذنب الإعلام السعودي - الثقافي خصوصاً - الذي «يسوّق» أسماء ويقبر أخرى. لكن، ومن خلال تلصصي على بعض المتصفحات، لفت انتباهي مقال «مات صانع النقاد» لصالح الطريقي، وزلزلتني إشارته إلى كلمة الشاعر الكبير محمود درويش، عندما أجري معه حواراً في قرطاج، فسأل الصحافي: «من أين؟»، فرد عليَّ: «صحافي سعودي»، فقال درويش: «أها، من بلد الثبيتي».
مشهد تنقصه بحيرة دموع:
«سيد البيد» في سريره، غاب (طرده) بتلك الطريقة المهينة من مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية، شبه غائب عن الوعي، «وجهه اليوم خريطة للبكاء»، وفي رقدته العاجزة، يرفع بصره ناحية المذيع الواقف بجوار سريره، يحدق فيه بنظرات طفولية. مهلاً! لم تقترب كاميرا البرنامج من ملامحه في لقطة مقربة، حتى نقرأ تعابير وجهه وعينيه. ربما، لم يكن المخرج يتوقع أن سيد البيد سيفعلها، ويهدينا مشهداً تراجيدياً ذابحاً، حتى لو كانت تقاسيمه لا تشي بأي شي، لكن تلك النظرة البريئة المستطلعة أفاضت كأس الشجن، فتخيلت «سيد البيد» يتساءل: «هل يعود الصبا مشرعاً للغناء المعطّر أو للبكاء الفصيح؟». حقا، المشهد تنقصه موسيقى تصويرية مؤثرة، وممثلون يسفحون بحيرة دموع اصطناعية على شفير البوح والانهيار الوجداني، فنسارع بالبحث عن المناديل. معذرة، يا سادة. هذا ليس مشهداً ميلودرامياً. إنه «روبرتاج « عن رجل كهل ممدد - بلا حركة تقريباً - على سرير، يشبه أسرّة الرضع، محاصر بالوسائد، كما لو كان رضيعاً سيتقلب في رقدته، فيتأذى.
« للأسف، هذا الرجل شاعر كبير، بشهادة أحبته، الذين استضافهم البرنامج. شاعر كبير أهانه وطنه!!».
الرجل - الذي لا أعرفه - يتخلى عن شروده الباذخ، ويلتفت ناحية المذيع، كما طفل وديع. رغما عني تنهمر دمعتان حارتان، وأحس أن هذا الغائب عن الوعي قد تنبأ بمعاناته في قصيدة «الظمأ»، فالتفتَ ناحية المذيع، وهو يتلو مقطعاً منها: «ماذا هنا للمستجير من الهجير؟/طعامه ورقه/ماذا هنا للمستجير من الهجير؟/منامه أرقه/ماذا هنا للمستجير من الهجير؟/ مدامه موسيقى».
هدية اليوتوب... طعنة ثالثة
هكذا ألفيتني أبحث عن قصائده الصوتية، قبل أن أقرأ أشعاره؛ ربما، لأن تلك المقطوعات مازالت تختزن شعلة الحياة المقدسة، بعد انطفائها في الجسد الواهن. لذت بالشيخ «غوغل»، ووجدتني في موقع «اليوتيوب»؛ موقع الفضائح بامتياز.. وجاءت الطعنة الثالثة من الموقع، الذي اعتاد أن يجود على المتلصصين بالمسرات المؤقتة... يا الله!
صوت بدوي شامخ، «مترع بلهيب المواويل». لا إرادياً، وجدتني أفكر في التعاسة، التي تنتظر الشعراء في آخر المطاف، كما كتب شاعر مغربي شاب، فضل أن ينتحر، كأنما يتمرد على هذا المصير التراجيدي (المشترك)، الذي يتربص بالشعراء في آخر المطاف، فيرحلون تباعاً، بتلك الطريقة المهينة في أوطان جاحدة. وتبدأ مهزلة حراس المقابر.. محترفي المراثي المتخشبة، والدراسات النقدية، مدفوعة الأجر... متاجرةً بجثث «الأعدقاء».
تتعدد الأسباب والفقد واحد
محمد الثبيتي ( 1952-2011م) ليس أولهم، ولن يكون آخر من يغادرون دنيا الحطام، بتلك الطريقة المفجعة. وهاهو فقيد الشعر السعودي يرحل، مثلما رحل السياب وأمل دنقل؛ يرحلون في أوج عطائهم، والشعر العربي مازال في مسيس الحاجة إليهم.
تتعدد الأسباب والموت واحد، والفقد واحد.
أنشودة للوطن القاسي
تألمت حين علمت أن «سيد البيد»، صاحب التجربة الشعرية اللافتة، لا يملك شقة ولا سيارة خاصة وتطارده الديون!! وحورب كثيراً، فحرم من جائزة نادي أدبي جدة في مطلع التسعينيات، فآثر الانسحاب في صمت: «خرجت من باب خلفي بعد أن رأيت مشاهد وملامح تنز بالتوتر والرغبة في خلق أزمة، وتحويل «التضاريس» إلى وثيقة إدانة».
لم يكن صمت «سيد البيد» وابتعاده عن المشهد الأدبي انهزاماً ولا استسلاماً؛ بل من أجل كتابة المزيد من النصوص المربكة، بدل خوض معارك دونكيشوتية، ونستغرب كيف يحارب رجل أحب وطنه بكل هذا الوله، فكرّس معظم شعره للتغني بكل مفردات الطبيعة في بلده، حتى حبات الرمال، بدل أن يصنع شهرة زائفة، كأي متشاعر يكتب قصائد غزل، لا يقرأها سوى المراهقين.
لقد انحاز الثبيتي في شعره للإنسان، ولقيم الحب، الخير، والجمال وللوطن، فاستهل «تغريبة القوافل والمطر»، التي استلهم فيها تغريبة بني هلال بجملته الشعرية الشهيرة : «أدِرْ مهج الصبحِ / صبَّ لنا وطنًا في الكؤوسْ / يدير الرؤوسْ».
وفي رائعته «التضاريس» قرع (عرّاف الرمل) بوابة الاحتمال، حنّ إلى قريته الأرملة، واعتنق وقار الطفولة، فكتب و»للجرح بوابتان»، وقد ابتكر للدماء صهيلا: «من شفاهي تقطر الشمسُ/ وصمتي لغة شاهقة تتلو /أسارير البلادْ». ولأنه شاعر أحب وطنه، أنشد ترقب بسطائه للصيف، الواعد بأفراح البدو وأعياد الأيتام، وتكررت في أشعاره كلمات شجية متفردة، مضمخة بعبق السنين الخوالي: الطفولة، الجرح، الريح، الشيح، الليل، النخل، الناي، الهديل، الأغاني، التمائم، الحناء. ولا يضاهي حبه للوطن سوى إخلاصه لبداوته، وهذا ليس نكوصاً رومانسياً أو رعوياً، أو ميلاً للعيش البدائي، وإنما رفض لإغراءات المدينة، التي سلبت الإنسان بساطة العيش وبراءته في حياة البداوة، فالتشييء والتسليع، الظلم، الجوع، الفقر والقهر من مظاهر الحياة المتحضرة. وفي قصيدته «صفحة من أوراق بدوي»، يعلن افتخاره ببدواته، بصحرائه وإبلها وشويهاتها في نبرة رومانسية، وبلغة سهلة ممتنعة :
أنا حصان قديم فوق غرته
توزع الشمس أنوار الصباحات
أنا حصان عصيّ لا يطوعه
بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
أتيت أنتعل الآفاق ... أمنحها
جرحي.. وأبحث فيها عن بداياتي
يا أنت لو تسكبين البدر في كبدي
أو تشعلين دماء البحر في ذاتي
فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي
ولا عبير الخزامي من عباءاتي
هذي الشقوق التي تختال في قدمي
قصائد صاغها نبض المسافات
وهذه البسمة العطشى على شفتي
نهر من الريح عذريّ الحكايات
***
وبشغف صوفي يفتتح قصيدة «موقف الرمال.. موقف الجناس» راسماً صورة الوطن من منظور فلسفته الثبيتية: «ضمّني../ ثم أوقفني في الرمال/ ودعاني:/ بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودالْ/واستوى ساطعًا في يقيني/وقال:/ أنت والنخل فرعانِ/أنت افترعت بناتَ النّوى/ورفعت النواقيسَ/هنّ اعترفن بسرّ النّوى/وعرفن النواميسَ/فاكهة الفقراء/وفاكهة الشعراء/تساقيتما بالخليطين:/خمرًا بريئًا.. وسحرًا حلال..».
إنه - و بتعبير سعد البازعي- «في هذا النص المدهش ليس بعروضه اللغوية فحسب، وإنما بما تسفر عنه تلك العروض من صور شعرية موغلة في العمق والجمال معاً يلتحم الشاعر، كما كان يفعل دائماً، بصورة الوطن كما تبرز في مفرداته الطبيعية: النخل والرمال والإنسان والثقافة. السياق الصوفي للقصيدة، كما يبرز منذ البدء، والذي يذكر بالنفري أو ابن عربي، لا يلبث أن يفضي إلى قصيدة تنحاز إلى تفاصيل الوطن بوجوهه المختلفة بعيداً عن أجواء التصوف التقليدية. النخل إحدى تلك التفاصيل التي يرسمها الشاعر بغنائية عذبة».
القصيدة تصافح البؤس اليومي
ولا تسرف «التضاريس» في تأملها الصوفي؛ بل سرعان ما تجترح مشهدية سينمائية، تلقائية ومدهشة، تتغنى باليومي والمنسي والمهمل، معانقة هموم البسطاء والمسحوقين، ويتماهى الشاعر مع النخل، فيعلن رغبته لمصادقة الشوارع، الرمل، المزارع والنخيل، المدينة، البحر، السفينة والشاطئ الجميل، البلابل والعزف والهديل. ويتباهى الشاعر بشموخه، الذي يشبه شموخ النخل، ذي الثمر الخرافي والصبر الجميل، المتسامي في فضاء الليل، غير عابئ بالشجر الهزيل، الذي يغتابه والوتد الذليل، الذي يذمه. وتبلغ اللغة التصويرية المتفردة ذروتها في نص «تعارف»، وهي تغوص في بؤس المعيش اليومي، حيث الغرفة البائسة الباردة، التي بلا باب ولا نوافذ.. ولا موقد ولا سرير ولا لوحة في الجدار ولا مائدة.
وفي «الصعلوك « يتساءل (سيد البيد) على لسان الصعلوك، بعد أن يفيق من الجوع والخوف ظهراً، فيمضي إلى السوق، وكل زاده أوراقه وخطاه: «من يقاسمني الجوع والشعر والصعلكهْ/ من يقاسمني نشوة التهلكهْ ؟؟»، ويحضر في كتابات الثبيتي الهم القومي أيضاً، حيث يكتب عن الهوان العربي في «تقاسيم»:
شاعر :
لم يبق من خيل الفتوح
سوى الأعنة والسروجْ
فأنا هنا،
شطرٌ بلا معنى
وقافية لجوجْ
القصيدة/ المرأة/الوطن :
تبدو علاقة «سيد البيد» بالمرأة/الأنثى شديدة الخصوصية، مترفعة عن المادي والشهواني، وهذا ليس بغريب على شاعر تتوسل نصوصه بلاغة الأسلوب القرآني، وتستلهم الموروث الشعري والصوفي. وقد علمتنا التجارب الشعرية القديمة أن الغزل العفيف ارتبط بالبداوة والصحراء وقسوة العيش، لذا لا نستغرب أن يكون عمر بن أبي ربيعة وامرؤ القيس ماجنين في شعرهما. هكذا يستعير الثبيتي عفة أسلافه، ويكتب قصائده الغزلية بـ»لغة طعنت في البكاء طويلاً»؛ لغة يطمح أن يستهل بها وطنه وقلب معشوقته، ويثير انتباهنا أن الوطن يحضر قبل العشيقة في قصيدته الغزلية. فلنتأمل غزله الرقيق في قصيدته «برقيات حب إلى غائبة»: «أنا حلمك الذهبي.. أنا/ أنا همك الأزلي.. أنا/ أنا لحنك البدوي .. أنا / أنا فرح الدمع في مقلتيك/أنا وهج الوشم في وجنتيك/ وأنت الشباب/ وأنت السراب/ وأنت العذاب /..وأنت أنا!!».
وفي قصيدة «أغنية» يناجي المحبوبة القريبة من «أرقه العذب» وهي تحرس سهاده، حتى لا ينام، تلك الحبيبة التي أسكنته حدائقها، و»لثمت روحها وجعه» :
يَا التي سَكَنَتْ غُرْفَةً لاَ تُمَسُّ سَتَائِرُهَا
وحِينَ لَمَسْتُ قُيُودِيَ كَانَتْ ضَفَائِرُهَا
فَاحْتَجَبْتُ بِأَحْشَائِهَا أَلفَ عَامٍ وعَامْ
وصِرْتُ أُغَنِّي بِلاَ شَفَتَينِ
وأَحْيَا بِلاَ رِئَتَينِ
وألْجِمُ بَينَ يَدَيهَا خُيُولَ الكَلاَمْ
ستتضح رؤية الشاعر أكثر، حيث تصير الحبيبة والغناء معادلين جماليين للوطن.. فيمضي الشاعر/ المغني إلى المعنى، ممتصاً الرحيق من الحريق، مجهشاً بــ»اللحن اللذيذ». يمر بين المسالك والمهالك، والحبيبة هي الملاذ، حيث لا شجر يلوذ به حمام الشاعر، ولا يم يلم شتات أشرعته في قصيدة «موقف الرمال..موقف الجناس»:
أُحدّق في أسارير الحبيبة كي
أُسمّيها
فضاقتْ
عن
سجاياها
الأسامي
ألفيتُها وطني
وبهجةَ صوتها شجني
هذه الحبيبة لن تكون سوى القصيدة، وهي «شهد على حد الموس» تتصادى مع الوطن، وفي «بوابة الريح» يغالي شاعرنا في التغزل بها (بالقصيدة/ الوطن) : «قصائدي أينما ينتابي قلقي/ ومنزلي حيثما ألقي مفاتيحي». وفي خاتمة البوابة الريحية، يتساءل: « أي قوليّ أحلى عند سيدتي/ ما قلت للنخل أم ما قلت للشيح». والنخل والشيح - كما نعرف - من مفردات الصحراء/ الوطن، بينما المقصود بالسيدة القصيدة.
آخر الكلام
لا أريد إنهاء هذه السطور بتلك العبارة المستهلكة: «(سيد البيد) لم يمت»، لأن من يكتب نصوصاً، بهذه العذوبة والشجن، مسكونة بكل هذه الفجيعة، باقٍ في قلوب محبي الشعر، ولن يغيب سوى بيولوجياً، بينما روحه ترفرف بين كلماته كلما صافحناها، سيظل بيننا كـ»عاشق بكر ينام معطراً / بالريح /مرتدياً غموض الليل». لن نرثيه، فمن يستحقون الرثاء أولئك الأحياء - الأموات الذين حاربوه.. يستحقون أن نشفق عليهم لأنهم أهانوا شاعراً كبيراً، ولا ندري إن كانوا قد اطلعوا على «الرقية المكية»؛ هل قرأوا سطوره النورانية، وهو يتغزل بميم وكاف وهاء مدينته المقدسة (مكة)؟! هل انتبهوا إلى استعاراته الآسرة للغة القرآنية، بخلاف شعراء كثيرين يميلون إلى اللغة التوراتية والأساطير؟ هل رأوا سناء الفجر، الذي فاته «إذ طالت تروايحه»، وهو»تلقاء مكة يتلو آية الروح» في قصيدة «بوابة الريح»؟
أسمعه يشتعل غناء كالعصافير، وهو يحيي (سيد البيد)، ناظماً مرثية خالدة لأولئك الأحياء/ الأموات.. في رائعته «تحية لسيد البيد»:
ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا
وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تموتْ
مرحبًا سيّد البيد..
إنّا نصَبْناك فوقَ الجراحِ العظيمةِ
حتّى تكون سمانا وصحراءنا
وهوانا الذي يستبدُّ فلا تحتويه النُّعوتْ
ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا
وأنت الذي في حلوقِ المصابيح أغنية لا تموتْ
مرحبًا سيد البيد..
إنّا انتظرناك حتّى صحونا على وقع نعليكَ
حين استكانتْ لخطوتكَ الطرقاتُ
وألقت عليكَ النوافذُ دفءَ البيوتْ
ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا
وأنت الذي في قلوب الصبايا هوًى لا يموتْ.
إقرأ أيضا لـ "هشام بن الشاوي"العدد 3251 - الإثنين 01 أغسطس 2011م الموافق 01 رمضان 1432هـ