على رغم التعارض القائم بين الأصولية الحداثية والأصولية الإسلامية، فإن هاتين الأصوليتين تشتركان في الطبائع والمنطق الذي يحكمهما، فكلتاهما محكومة بمنطق الوعي الضدي، فالأصولية الحداثية أيديولوجيا ضد الإسلام، والإسلاموية أيديولوجيا ضد الحداثة. كما أن الاثنتين تتفقان في تشخيص أزمة الأمة، فإن الإسلامويين يسمون ذلك «جاهلية»، والحداثيين يسمونه «تخلفاً». و«الجاهلية» عقبة في وجه الانبعاث الروحي، كما أن «التخلف» عقبة في وجه التقدم الحداثي. ولهذا لا بد من تجاوز هاتين العقبتين، ولا يتأتى ذلك بـ «حاكمية» مطلقة لشريعة الله في الأولى، و«حاكمية» الحداثة وعقلانيتها وعلمنتها في الثانية.
والحق أن كلتا الحاكميتين مستحيلة التطبيق، ومحاولة تحقيق المستحيل هي التي أدت إلى العنف البغيض والإرهاب الديني والتطرف الحداثي. وفي هذا الشأن يقول كارل بوبر، أبرز دعاة العقلانية الليبرالية في العصر الحديث: «إن إرهاب العقلانية كان أسوأ من إرهاب المتطرفين المسيحيين والمسلمين واليهود. إن النظام الاجتماعي العقلاني الأصيل مستحيل استحالة المجتمع المسيحي الأصيل؛ ومحاولة تحقيق المستحيل لا بد هنا أن تؤدي إلى انتهاكات بغيضة مماثلة». وهذا ما حصل بالفعل.
وفي هذا السياق، لابد من التمييز بين هذه التجربة أو الحساسية المختلفة التي تقوم على التنوع والاختلاط، وبين الحداثة الضدية msinredom-itna كأيديولوجيا تحرص على نبذ الحداثة وتجاوزها في كل شيء. فالموقف الضدي من الحداثة لا يعبر عن هذه التجربة المختلفة التي نحن بصددها، كما أن الموقف الضدي من الدين لا يمثل هذه التجربة. وهذا خطأ يقع فيه كثيرون يتوهمون أن شرط ما بعد الحداثة أن يكون المرء ضد الحداثة وضد الدين معاً، ولهذا، فإن كثيراً من التجارب «ما بعد الحديثة» في الفن والعمارة والأدب إنما تعبر عن حساسية الحداثية ضدية، وذلك حين ترفض كل شيء جديد، وحين تشدد على ضرورة العودة إلى الصيغ والتجارب الكلاسيكية ما قبل الحداثية. والحق أن هذا ديدن الأصولية الدينية كأيديولوجيا ضد الحداثية، أما التجربة الجديدة فهي تعبير عن أسلوب حياة ضد منطق الكلية والأيديولوجيا المغلقة والوعي الضدي. وهذا ما يسمح أصلا بالتجاور بين الحداثة والإسلام في صورة «الحداثي الذي يصلي».
وبما ان تجربة «الحداثي الذي يصلي» علامة على أسلوب حياة مختلف هو ضد الكلية المغلقة والوعي الضدي، فإن هذه التجربة تفقد مبرر وجودها حين تنتهي إلى أيديولوجيا ضدية كلية ومغلقة، فتكرر بذلك خطأ الأصولية الحداثية والأصولية الإسلامية من بعدها؛ لأن ما تغير في الاثنتين هو محتوى الأصولية فقط، في حين بقي المنطق الثقافي ثابتاً، ولبرنارد شو قول بالغ التعبير عن هذا التغير، يقول: إن ما تغير في حضارة الغرب (مع الحداثة) «ليس إلا محتوى خرافاتنا وعقائدنا: استبدلنا بعقيدة الدين عقيدة العلم، ومن يجرؤ على معارضة عقيدة العلم فسيحرق على خازوق مثلما أحرق غيوردانو برونو فيما مضى من زمان».
والحق أن هذه النهاية هي مصير كل أصولية ضدية وكل أيديولوجيا كلية مغلقة. وهذا ما ينبغي على تجربة «الحداثي الذي يصلي» أن تحذر منه لكي لا تتحول إلى أصولية وعقيدة (دوغما) مغلقة؛ لأن الدوغما لا تقبل المنافسة، وهي تنفر من الحرية والتنوع وتجاور الأنماط والأساليب، كما أنها تقوم على الفرز وترسيم الحدود بين الداخل والخارج، بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبين الحداثيين وغير الحداثيين.
وحين تتحول تجربة «الحداثي الذي يصلي» إلى «دوغما» فإنها سترسم حدودها الخاصة والمغلقة. وحين تنتهي هذه التجربة إلى أيديولوجيا كلية ومغلقة كما انتهت كل الأيديولوجيات قبلها، فإنها ستقضي بذلك على خصوصيتها ومبرر وجودها من الأساس، وهذا مصير ينبغي على التجربة أن تكافح ضده؛ لتحتفظ بوجودها كتجربة لا كأيديولوجيا مغلقة، وكحساسية جديدة لا كـ «دوغما» نهائية. لا تقبل الدوغما بالتعايش والتجاور والاختلاط، وهذا على النقيض تماماً من أساليب ما بعد الحداثة التي تنهض على التعدد والاختلاط بين صيغ كلاسيكية وحداثية. البعض يرى أن ما بعد الحداثة اليوم هي «روح العصر»، وهي من يعيد إلى العالم سحره الذي نزعته عنه الحداثة العقلانية، وهي ما تسمح بتجاوز العلمنة من خلال «مجتمعات ما بعد العلمانية» seiteicos raluces tsop، أي مجتمعات تسمح بالتعايش المشترك بين مختلف الأنظمة الثقافية وأساليب العيش الدينية والعلمانية واللادينية واللاعلمانية سواء بسواء.
وإذا كانت المجتمعات الغربية تتحدث عن حقبة «ما بعد العلمانية» فإن مجتمعاتنا أحوج إلى هذا الحديث اليوم، لا لأن مجتمعاتنا - كما يزعم دعاة الإسلام السياسي - ابتعدت عن الدين ودخلت في «جاهلية ثانية» وبحاجة إلى من ينير لها «معالم الطريق»، بل لأن هذه المجتمعات دخلت في لعبة لم تضع هي شروطها، وفرض عليها أن تحسم أمرها في صراع بين «الدين» من جهة، والحداثة والعلمانية من جهة ثانية. واليوم وبعد أكثر من قرن على انطلاق الشرارة الأولى لهذا الصراع، نجد أنفسنا في منطقة «البين بين»، فلا يزعم أحد أن هذه المجتمعات دينية كلية أو علمانية كلية، ولا هي كذلك لا دينية ولا علمانية. إنها متذبذبة بين الاثنتين. والمطلوب اليوم أن نحول هذا التذبذب من قيمة سلبية كعلامة على التمزق إلى قيمة إيجابية تسمح بتحول هذه المجتمعات إلى «مجتمعات ما بعد علمانية» على أن تفهم هذه الـ «ما بعد tsop» بدلالتها المزدوجة على التجاوز والاستمرار معاً، استمرار العلمانية بما هي أسلوب ممكن من بين أساليب العيش والمعرفة المتحررة من سلطة الدين من جهة، وكذلك بما هي تجاوز لها حين صارت بمثابة الدين المدني الحاكم من جهة ثانية. والأمر ذاته ينسحب على الدين.
وبهذا المعنى تكون «مجتمعات ما بعد العلمانية» رد فعل ضد أدلجة الدين والحداثة معاً، ضد تطرف العلمانية الذي بلغ ذروته في قانون منع الحجاب والرموز الدينية و«صون العلمانية» بفرنسا في العام ، وضد الحداثة العقلانية التي انتهت إلى حداثة رأسمالية جشعة تشجع الاستهلاك الضخم والربح غير المحدود، وإلى عقلانية أداتية تبحث عن الوسائل الفعالة للوصول إلى أهداف تفلت حتى من قيم الحداثة التقليدية كالحرية والعدل والمساواة. وكذلك ضد تطرف الأصوليات الدينية الذي بلغ أوجه في إرهاب / وما بعده.
وإذا كانت مجتمعاتنا تعيش في أزمة فإن خلاصها ليس في استمرار «العلمنة» كدين مدني، ولا في الرجوع إلى حكم ثيوقراطي، بل في القبول بالعيش المشترك في عالم ما بعد علماني يعترف بحق الجميع في العيش وضمن تسامح متبادل وخال من القسر والعنف والإكراه والتعصب؛ لأن حدود التسامح تنتهي حين تبدأ الدوغما أياً كان نوعها، ومن أي مصدر جاءت. وهذا ما تكافح ضده ما بعد الحداثة؛ ولهذا يقول ميشيل مافيزولي ان ما بعد الحداثة وأسلوب العصر وهو تصور عام للحياة، إلا أنه «تصور يعاش، عمداً، في الحاضر ولا يسعى أبداً إلى الاستمرار إلى ما لا نهاية». هذا هو الوجه الجديد من مفهوم «منطقة الفراغ» و«المصالح المرسلة» عند الفقهاء، إذ كل جيل يملأ «مناطق الفراغ» بما يتناسب مع ظروفه ومصالحه المتغيرة. لقد دمرت الحداثة الصورة الأولى، ودمر الإسلام السياسي «مناطق الفراغ» وفقه المصالح. وآن الأوان لوقف هذا التدمير المزدوج من قبل أدلجة الدين وأدلجة الحداثة، بالعودة إلى ما قبل الأدلجة أو بتجاوزها إلى ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية. وخصوصاً بعد أن تكشف أن أدلجة الدين لم تؤد بنا إلا إلى العنف وإلى مزيد من الإرهاب والتعصب المتبادل. وينبغي أن أذكر هنا أن الرد القبطي في مصر على أدلجة الإسلام هو أدلجة المسيحية وظهور «جماعة الأمة القبطية» في العام والتي رفعت شعار «الإنجيل دستورنا» وقامت بعمليات إرهاب وخطف حتى لقساوسة.
وأخيراً فإذا لم يكن، بحسب ما يقول جان بودريار، للحديث عن الحداثة أي معنى في بلدان بلا تقاليد وتراث، ومن دون عصور وسطى، فإن الحديث عن «مجتمعات ما بعد علمانية» لا يكتسب قيمته ومعناه إلا في بلدان عاشت التذبذب والتمزق بين نمطين حضاريين قديم وحديث، وعالمنا اليوم هو في مقدمة هذه البلدان ذات التقاليد الحضارية العريقة، والمكتوب عليها أيضاً أن تتواءم مع تقاليد حضارية جديدة وقوية. وفي هذا الصدد يذكر المفكر الإيراني داريوش شايغان أن الإسلام بفعل الحداثة، المستوعبة أو المفروضة، الواعية أو اللاواعية، يعيش مثل سائر الحضارات التقليدية حال «البين بين»، ويمر بـ «مرحلة انتقالية بين حدث هو في طور الإعداد، ولكنه غير معلن بصفة صريحة، وبين نظام روحي يهتز ولكنه ما انهار بعدُ نهائياً، ولن يتجدد أبداً على شاكلته الأصلية. فهذه الحضارات تعيش إذاً بين ما لم يحدث بعد وما لن يعود أبداً». ويرجع شايغان السبب في هذه الوضعية إلى «تغريب» العالم الذي لا عودة عنه، والذي يسبب قطيعة تطول مصير البشرية جمعاء، وتظهر، في أجلى صورها، في «الحال الفصامية لإنسان العصر» في هذه الحضارات التقليدية الكبرى.
وهذا تشخيص دقيق يبنيه شايغان على أساس منهج مقارن يكشف من خلاله عن التجانس الذي يجمع الحضارات التقليدية الكبرى (الإسلامية، والهندية، والصينية) في كل واحد أسماه شايغان «التجمع الروحي الواحد». إلا أن ما لا ينبغي أن يفوتنا هو ما خلص إليه شايغان في حديثه عن ضرورة «توجيه الفكر نحو وظيفة نقدية مزدوجة» بالكشف عن الأدلجة المزدوجة التي طالت الدين والحداثة معا. وأتصور أن هذا هو المأزق الحقيقي الذي تواجهه الحضارات التقليدية الكبرى اليوم، وأن لا خلاص منه إلا بنقد مزدوج لفعل الأدلجة بما هي وعي زائف، ونسق يقوم على الاختزال الثنائي (نحن والآخرون) ووهم المطابقة مع الأصل.
يعرف يورغن هابرماس «العلموية» بأنها «إيمان العلم بنفسه، أي القناعة بأنه لم يعد باستطاعتنا اعتبار العلم كأحد أشكال المعرفة الممكنة، وبأنه علينا على العكس من ذلك اعتبار العلم و
العدد 1364 - الأربعاء 31 مايو 2006م الموافق 03 جمادى الأولى 1427هـ