العدد 3295 - الأربعاء 14 سبتمبر 2011م الموافق 16 شوال 1432هـ

بين برجي 11 سبتمبر وأبراج الطغيان

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

مرَّت الذكرى العاشرة لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، حاملة معها عشر سنوات هي ما بعد العجاف، عرفها العالم في القلاقل والتوترات، وازدهار الحروب، وتصفير موازنات الدول، ورواج مصانع السلاح، عمدت فيها الولايات المتحدة، وهي التي بشَّرت بأكثر من مشروع في المنطقة، من الشرق الأوسط الجديد، إلى الشرق الأوسط الكبير، لم تخجل من رفد ومساندة وحماية أنظمة استبدادية مزمنة، تريد بها - ومن خلالها - تغيير وجه المنطقة الحالك إلى ما هو أحلك وأعتم منه. لم يطل الإنسان العادي والمقهور والمسحوق أي تغيير في نمط إهانته وتهميشه بعد أكثر من مشروع للشرق الأوسط، ولم تصب الأنظمة الاستبدادية في مقتل، قبل تفجُّر الربيع العربي الذي باغت الولايات المتحدة الأميركية، تماماً كما باغتت مجموعة من القتلة الأصوليين المارقين على أخلاقيات دينهم قبل مروقهم على الإنسانية، برجي مركز التجارة العالمي، ومقر البنتاغون في العاصمة (واشنطن)؛ بل العكس رفدت الآلة الاستخباراتية والأمنية الأميركية تلك الأنظمة بكل مقوِّمات بقائها واستمرارها، في خطاب مزدوج ومنافق لكلا الفريقين: الحكومات الاستبدادية، وشبح المعارضة فيها. وأقول «شبح» لأن آلة القمع التي سلَّطتها تلك الأنظمة على المعارضات لم تترك أي متر لتحركها وهي في حدود دولها، أما خارج تلك الحدود فكانت متشرذمة تعيش في جزر معزولة.

عشر سنوات تغيَّرت فيها صورة الولايات المتحدة، من دولة تمثّل صوتَ وممارسة العالم الحرّ، إلى دولة لم تخلُ من استبدادها وتمييزها في الداخل الأميركي، بعيْد أحداث 11 سبتمبر، عدا استبدادها الفاضح، وتمييزها الكريه، وفظاعاتها التي باتت نقطة سوداء في تاريخها وسجلّ إنجازاتها الغابر، في كل من العراق وأفغانستان، وعديد من الدول.

عشر سنوات ترهَّلت فيها آلة الاستبداد والقمع في الدول التي ساندتها الولايات المتحدة؛ ولو لم يقل الربيع العربي كلمته في عديد من الدول لامتدَّت خريطة الطغيان والاستبداد وتعمَّقت وأصبحت واقعاً لا يمكن الفرار منه، أو الخروج عليه.

الولايات المتحدة ليست فرِِحة إطلاقاً بالتغيُّرات والاحتجاجات التي يشهدها عديد من الدول العربية، وكان الربيع العربي - كما أشرت في بداية هذه المقالة - بالنسبة إليها بمثابة زلزال آخر، وسقوط أبراج بالنسبة إليها، «أبراج طغيان» ولكن خارج حدودها. أبراج طغيان ظلَّت تتعهَّد امتدادها وتطاولها المرعب على حساب الضحايا وانتهاكات حقوق الإنسان، من دون رادع أخلاقي أو قيمي.

لم تنصت الولايات المتحدة لضحايا الأنظمة التي غذَتها بأسباب بقائها قبل الربيع العربي، وقبله أيضاً لم ينصت العالم لأصوات الضحايا في معتقل غوانتنامو، سيء الصيت، ومن بعده معتقلات العراق، وخصوصاً «أبوغريب»، من دون نسيان معتقلاتها في أفغانستان، وإطلاق يدها في باكستان وعديد من الدول.

لاحظوا أن الولايات المتحدة، مع بداية هبوب رياح الربيع العربي ظلَّت مكتفية بالفرجة، من دون أن تحسم أمرها، وتلك سابقة في سلوكها ومزاجها، أمام أي تحولات في هذا الجزء من العالم. ظلَّت متحفظة تقرأ... تحلل... ترجّح... تتكهّّن، وترى أن مزيداً من الانتظار والفرجة أكثر ضمانة لتحديد خياراتها من جهة، وحماية مصالحها من جهة أخرى على المدى البعيد.

ربما هي المرة الأولى التي لم تمارس فيها أميركا وقاحتها في التدخل لإنقاذ أبراج الطغيان والقمع في عديد من دول ظلَّت الملعب الخلفي لها؛ ليس لأنها مدفوعة بالتزام أخلاقي؛ ولكن لأنها المرة الأولى التي لم تستطع أنظمة القمع من الاستمرار في فرض خياراتها على الأمة والمواطن. المواطن المسحوق المقهور، من صاحب عربة الخضار الذي أحرق نفسه احتجاجاً على الإهانة في تونس، فأشعل احتجاجه غضبة وهبَّة الأمة، إلى خالد سعيد، الذي مارست عليه زمرة مباحث أمن الدولة في مصر كل عقدها وأمراضها تعذيباً وموتاً بطيئاً في معتقلاتها. أولئك هم من حدَّدوا خريطة طريق دولهم ومستقبلها لا العسكر، وأسقط في يد أميركا أن كل ذلك ظل خارج سيطرتها وهيمنتها، على رغم آلة تجسسها، وأجهزة جس النبض لديها. لكنها نسيت - أو تناست - أنها أجهزة صمِّمت للإحاطة بنوايا الذين ائتمنتهم على وجودها وتدخلاتها في المنطقة، مقابل بقائهم، ولم تُصمَّم لجس نبض عاطل عن العمل، ومدوّن تكون شهادته تحت التعذيب، صك عار لن يمّحي مع الوقت.

سقط برجا التجارة العالمي في نيويورك، وتم ضرب رمز القوَّة والصلف والكبرياء (البنتاغون)؛ فيما أبراج الطغيان تتهاوى الواحد تلو الآخر خارج الحدود. إنها سنَّة الله، وسنَّة القيم وسنَّة الحقوق. لا أحد بمنأى عن تلك السنن، مِنَ الذي نعتَ شعبه بالجرذان، وهو هارب كجرذ في ليبيا، وليس انتهاءً بأكثر من زعيم مرشَّح إما للإذعان لإرادة شعبه، أو البحث عن ملاذ آمن، والخيارات لم تعد متاحة مثل ذي قبل.

الشعوب ستظل باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لكن هل ستصمد أبراج الطغيان بعد سنوات من الترهل والتآكل، والتعامل مع البشر تعاملها مع الأشياء في عقلية لا تنتمي حتى إلى قرون وعي الإنسان الأول؟ لا أعتقد ذلك. ذلك خلاف سنَّة الله والقيم والأخلاق، وحتى منطق الأشياء

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3295 - الأربعاء 14 سبتمبر 2011م الموافق 16 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً