العدد 3309 - الأربعاء 28 سبتمبر 2011م الموافق 29 شوال 1432هـ

البخلاء وبؤس تصنعه ثلة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أستضيء بحكمة تركية شائعة: «أن تطلب شيئاً من البخيل، كأن تحفر بئراً في البحر». والبخلاء في حياتنا بعدد الأثر الذي يخلفه التأخر عن البذل، والتآزر والتضامن بين الأفراد والجماعات، بروح من المسئولية وحس من الهدف الواحد والمشترك.

لا نتحدث هنا عن بخلاء المال وحده. هناك بخلاء المشاعر، وبخلاء الحس، وبخلاء الحضور، وبخلاء الوعود، وبخلاء الوفاء، وبخلاء الثبات، وبخلاء المواقف. بخلاء لا حصر لهم. يفسدون الحياة من حولهم، ويجدون في ذلك الإفساد صلاح حالهم ورخاءه. وبين البخلاء اليوم من يرتاد المساجد ودروس الوعظ؛ لكنه في النهاية لا ينال كل ذلك من تذبذبه في حق يراه فيغض الطرف عنه. حق أن يبسط فيما هو يقبض، ويمنع ويجفو ويتنكر، لا يحرك كل ذلك في دمه مثقال ذرة من حس.

والبخلاء لا يفسدون حياتهم ويضمِّرون السعة والرفاهية فيها؛ يطول ذلك من هم تحت رحمتهم وكفالتهم، يسومونهم سوء شظف العيش في تأجيل وحكر النعم، ويسومونهم الخسف؛ فيما باستطاعتهم إعمار حياة من هم في ذمتهم وما بعدهم، بالمتوازن من البذل والعاقل من بسط اليد.

ثم إن البخلاء لا يقتصر منعهم ومرضهم على أنفسهم والذين يكفلون؛ بل يطول المجتمعات التي ابتليت بهم، ومنها يستمدون مصدر قناعتهم بالمنع والقبض، في تخيل وتصور نذهب إليه عبر مجتمعات غالبة في بخلها ومنعها وقبضها، ومدى التأثير الذي تحدثه على الدورة الاقتصادية في الأمة التي تكنز أموالها فيها ومن خلالها. عطب يطول الجميع، وتحتقن عبره دورة المنافع والانتشار والتبادل وتنشيط المرافق. يسهمون عبر كل ذلك في خنق كل محاولة للفرص ورواجها، وسد كل منافذ الانتشار في الأرض التي حرص القرآن الكريم على تأكيده في سورة «الجمعة».

وبالعودة إلى الحكمة التركية، وبالاستناد إلى ما طرح، يصبح حفر البئر في البحر أمراً ممكن التحقق، في تحول العلوم وتحركها، فيما الطلب من البخيل بثبات الموقف وجموده وتعميقه أحياناً، صعب البلوغ.

كان بعض البخلاء يأكل نصف الليل، فقيل له في ذلك، فقال: يبرد الماء، وينقمع الذباب، وآمن فجأة الداخل، وصرخة السائل، وصياح الصبيان.

وقد عرف أهل مرو بالبخل، ومن عادتهم إذا ترافقوا في سفر، أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم، ويشدها في خيط، ويجمعون اللحم كله في قدر، ويصبون عليه الماء ويطبخونه، ويمسك كل واحد منهم طرف الخيط الذي قد شدّه في لحمه، فإذا نضجت القدر، جر كل واحد خيطه، وتفرد بأكل ما فيه، وتساعدوا على المرق.

وقال بعضهم لبخيل: لم لا تدعوني يوماً؟

قال: لأنك جيد المضغ، سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى.

قال: فتريد مني إذا أكلت لقمة أن أصليَ ركعتين، ثم أعود إلى الثانية!

وقيل لبخيل: من أشجع الناس؟ فقال: من سمع وقع أضراس الناس يأكلون من طعامه، ولم تنشق مرارته.

وكان محمد بن الجهم من البخلاء المشهورين، ومرة قال له أصحابه وهم في منزله: إننا نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار رغبتك فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت انصرافنا. فأجابهم: علامة ذلك أن أقول: يا غلام، هات الغداء.

يكفي أن نقف على تعريفات وأقوال في البخيل: سائله محروم، وماله مكتوم. غناه فقر، ومطبخه قفر. جعل ميزانه وكيله، وضرسه أكيله، وكيسه أنيسه، وخبزه جليسه، ورغيفه أليفه، ومأكوله حليفه، وديناره شقيقه، ودرهمه رفيقه، ويمنه رفيقه، ومفتاحه دفينه، وصناديقه صديقه، وخاتمه خادمه.

يبقى تأكيد القول، إن الحياة لا يمكن لها أن تعمر بعمار وامتداد وشيوع البخل والبخلاء، ولا عمار في البخل أساساً؛ ثم إنه لا يمكن لحياة أن تستقيم بالمنع؛ إذ لا تستقيم وتعمر إلا بالبذل. والبسط في الحدود التي شرعها العقل والذوق والأخلاق، من حيث عدم الإفراط والتفريط، ومن حيث مراعاة الذين لا يملكون كنزاً إلا آلامهم وفقرهم وحاجتهم. ومن حيث الوعي بكفالة مفروضة على القادر لغير ذي القدرة، ولذي السعة على المحشور في ضيق ذات اليد وما دونها، ومن حيث إدراك أن المال الذي قدّر لأحدهم أن يكتنزه ويكنزه لم يهطل هطولاً من سماء في برية لا زرع فيها ولا ضرع؛ إنما بفعل بسط طاله فأحاله إلى قبض.

نظل بخلاء في عجزنا عن تتبّع البؤس الذي تصنعه ثلة هي عنوان صارخ لفساد الحياة؛ فيما تحرم من متعة ما منعته وكنزته وحازته. ذلك يمتد إلى دول هي في الصميم من بخلها في الحقوق، وفي الصميم من بخلها في مراعاة التوازن في التعاطي مع مكوناتها، من حيث حصر بسطها لمن يزيّن لها القبيح ويؤلّب على الحسن ويجيّش على الأصوات التي لها حصة في الحياة وتلك الحقوق كسائر الخلق

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3309 - الأربعاء 28 سبتمبر 2011م الموافق 29 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:33 م

      مقال و لا اروع

      شخصت العلة بالتحديد وين...نفس قناعاتي بس اكيد اسلوبك اكثر عمق و تماسك و اروع

    • زائر 2 | 6:43 ص

      رائع

      تأسرني كلماتك دائما يا ابو محمد
      ما أجملكـ

      عاشقة المطر

اقرأ ايضاً