العدد 3312 - السبت 01 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي القعدة 1432هـ

قصص تؤرّخ للشقاء الإنساني

تقليب المواجع» لخيري شلبي:

هشام بن الشاوي comments [at] alwasatnews.com

كاتب مغربي

في مقدمة مجموعته القصصية «تقليب المواجع» (الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2008)، والتي اجترح لها كعنوان «تواصل» يشير فيها الروائي الراحل خيري شلبي (1938-2011) إلى أن هذه الأقاصيص من طفح الواقع المصري الراهن، مشحونة بعذابات مروعة، هي حكايا بشر تعساء لا ذنب لهم إلا قدرهم الذي أوجدهم في أشد عصور التاريخ فسادا، مؤكداً أنه ليس سوى «حكواتي سرّيح» يشتري الحكايا من منابتها، يجوب وراءها الأسواق والشوارع والحارات والمنعطفات والقرى مهما كلفه ذلك من مشقة، لكنه لا يبيعها مطلقاً، إنما هو مولع بعرضها بأسماء أصحابها وبأصواتهم، ليس افتتاناً بهذه الألوان المختلفة من طرائق السرد الشعبي الساحر في تلقائيته دون الحاجة إلى وسيط لغة خارجية، إضافة إلى أنهم أدرى بمكامن نفوسهم ومواطن مواجعهم. ويختم مقدمته «مقراً بأن: «في تقليب المواجع تجديد لحرارة الألم وتخليد له في الذاكرة الإنسانية التي تنضجه فيكون رابطاً بين قلوب الموجوعين كافة؛ إذ ليس ثمة من جسر للتواصل الإنساني أنجع من جسر الألم المشترك، وليس أنجع منه في إثارة الغضب النبيل!».

في قصة «خلاص»: يصور صاحب «الوتد» معاناة أم نوال وهي تعاني شظف العيش مع أسرتها، بعد أن آثر الزوج الهروب/العودة -على رغم تقاعده- إلى السعودية مرة أخرى، ليعمل في مستشفى خاص، أما الابن فيبيع كل ما يصلح للبيع بالبيت، لأنه مدمن على المخدرات، ويصطحب رفاق السوء لشرب الخمر والتدخين في البيت، فتغلق الأم عليها وعلى بناتها غرفتها...

أثناء ترقيع أم نوال الفستان، تكتشف ثقباً آخر، وتذهب للبحث عن أنبوبة السم.. للانتقام من الفأر، وتتذكر كيف اعتدى الابن عماد على أخته الكبرى نوال، الجامعية.. بحلق شعرها وتشويه وجهها بسكين عند رفضها الزواج بـ «عربجي»، وعند رفض الأخت فايزة دخول الحجرة مع أحدهم قام بإضرام النار فيها، ولم تمت... لكنها كانت تموت كلما نظر أحدهم إلى وجهها المسلوخ... وعند عثورها على أنبوبة السم تأتيها صرخة ابنتها مديحة وشعرها محلول وثوبها ممزق، بعد أن حاول الأخ أن يغتصبها، ولم تجد «بدّاً من أن تدس السم بنفسها في العصير، بعد أن طلب من أخته أن تأتيه بليمون، ثم أمرت ابنتها أن تبلغ البوليس.

في «مضيق العتمة» : يعود خيري شلبي إلى عالمه الأثير.. عالم المقابر، الذي يمثل جزءاً كبيراً في أدبه، فقد عاش بها فترات طويلة، وكتب عنه أكثر من رواية... في هذه القصة يتحدث عن لجوء السارد إلى اصطحاب أحد زملائه من طلبة الطب، وقيامهما بعملية سمسرة مع المعلم حنّس، بعد جمع المال من زملائهم، ويقومان بإخفاء فارق ثمن الجثة في جيوبهما... وعند عودته مع زميله وائل إلى المقبرة نفسها، سيكتشف الزميل أن المعلم باعه جثة عمه الذي دفن قبل شهر، لكن المعلم ورجاله يحاصرونهما، ويسلمهما للشرطة يداً بيد باعتبارهما من لصوص المقابر.


«اللحم المصري»

عنوان القصة يشي بموضوعها، هي عن البؤس و زواج المتعة... الساردة تضحي بأن تتزوج أكثر من مرة، لتضمن شقة، ولا يبدي حبيبها سعيد أي اعتراض، وتسلّمه مالاً ليستأجر شقة تحتها محل، لكنه يختفي، وتنتهي القصة بسؤالها للمحامي: هل تنفع قضيتي هذه أمام المحاكم؟

أما «قلب كلب»: فهي كوميديا سوداء عن كلب يعيل أسرة. الزوج الجزار يستغرب كيف أن الكلب يتركه ويتمسح بزوجته التي تسارع إلى غسل ثيابها سبع مرات.. وهي المرأة التي تعطف على كل الحيوانات، مما يجعل الكلاب تحتك بها، فتسارع بضرب الكلب بمقدمة حذائها، وهي تصرخ وتسب... في حين لا تهتم به الكلاب ولا بعظامه التي يلقي بها إليها. ولاحظ بأن ما يتبقى من الطعام تضعه الزوجة في كيس يحمله الكلب، فتعقبه وهو يتجه نحو مساكن عشوائية، وتكون في انتظار الكلب صبية، تتلقفه وتأخذ منه الكيس، وعند استغرابه تخبره بأنه معيلهم وهي التي دربته.


«شبح الغروب»

ترصد معاناة الأستاذ قاسم، أستاذ اللغة العربية وآدابها بالجامعة.. التي بدأت حين أخبرته زوجته بأن جارتها تلح عليها بزيارتها في شقتها، وقبلها لاحظ امرأة متشحة بالسواد تتردد على العمارة، وتصير تلك الزيارة طقساً يومياً، يجعل الأب والولدين ينتظران ثلاث ساعات حتى تنتهي الجلسة الوعظية، وبعد أن انفردت بابنيها في غرفتها، صارا مثل عجوزين أحمقين.. يراجعانه في صلاته ووضوئه وكل أمور الدنيا.. لم يعد يحق له أن يتابع برامج التلفزيون كالمباريات والتمثيليات السينمائية، بينما هم يحرصون على متابعة الفضائيات الدينية، وبدأ الثلاثة يشمئزون من مكتبته وما تحويه من علوم دنيوية، وعلى رغم إيمانه القوي ونقاء قلبه وجد نفسه يقاوم الوضع.. بدل أن يفقد السيطرة على زوجته وولديه، إلى أن استسلم ووقع فريسة للاكتئاب، وقد أهملت الزوجة واجباتها الأسرية، فاختفى وغادر البيت، كما علم السارد/الصديق من البواب.. وحين رأى الصديق شبحاً أسود (امرأة مبرقعة) يتجه نحو العمارة التي يسكن فيها، في إشارة إلى الخطر نفسه الذي عصف باستقرار الأستاذ قاسم، ركض خلفها وهو يصرخ...


«نار الجنة»

نص يُروى بشفافية الأطفال وبراءتهم. نزولاً عند رغبة صغيرته يزوران محل الفواكه الجديد، فاكهة لا يراها أبناء المعدمين سوى في كتب الدراسة. تشهق البنت عندما تعلم ثمن كيلو التفاح، وتتحايل عليه حتى تعرف ثمن التفاحة الواحدة (ثلاثة جنيه)، وتشده من يده، كأنما أدركت بأنهما دخلا المكان الخطأ، وبعد أيام تقرصه في قلبه، وهي تنتحي به جانبا، تمسد صدره وتسأله: «بابا... ألاقي معك ثلاثة جنيه سلف؟».


«الميزان القاتل»

يكتب خيري شلبي عن عالم الباعة المتجولين ومعاناتهم مع الشرطة التي تصادر بضائعهم وأغراضهم.. حينما حاول عزت/ابن عم السارد إنقاذ الميزان، حتى لا يلقى نفس مصير الموازين الثلاثة السابقة، التي بقي مديوناً بثمنها.. رماه في اتجاه ابن عمه - وهو بائع متجول أيضاً - فأصاب المخبر، وترجاهم ابن العم وهم يطاردونهم في رزقهم - بعد القبض على الميزان القاتل ومن بعده المتهم- ألا يقبضوا على الموازين، ويضيعوها في ديوان المحافظة.


«مصرية»

بمقهى المثقفين والكتاب، كانوا يشتكون من ارتفاع الأسعار وازدياد عدد المتسولين، في حين هاجم - بنبرة خطابية وهو يشرب البيرة - الزميل الذي التحق، مؤخراً، بصحيفة بترودولارية... الحزب الوطني ومبدأ التوريث، مستمتعا بالنظر إلى شريحة اللحم الساخن بطبقه، ويمسكها بالشوكة والسكين على مهل منتظراً أن تبرد، وتمر صبية متسولة بجوار طاولته، وفي لمح البصر غيبت شريحة اللحم في جوفها، وهي ماشية وكأن شيئاً لم يكن، وشيعتها ضحكاتهم الصاخبة التي كانت مزيجا من السخرية والتأييد. «فقدان الرشد»

عند لقاء الصديقين، بدا أحدهما منزعجاً، بعد أن استحالت حياته جحيماً بسبب فضيلة المفتي، الذي خيم بشبحه على حياته في بيته. من قبل كان وزوجته وأبناؤه يتفنون في اختراع مشاكل فقهية حتى يسألونه على الهواء، ويستمتعون بإجاباته مقرونة أصواتهم بصوته، حتى غدا كل شيء - من أمور الدنيا - يستحق أن يسأل عنه، وصار فضيلته يحجز بينه وبين زوجته في الفراش، فكل لمسة من يده تحتاج إلى استشارة فضيلة المفتي.


«بتاعة الحلاوة»

يتذكر السارد والدة زميله صلاح، التي كان يشتري منها الحلوى، والتي كان يحسدها الأهالي على تفوق ابنها الدراسي؛ إذ على رغم توافر كل أسباب النجاح والحياة الهانئة لا يفلح أبناؤهم مثل ابن الأرملة الحافية، وهو الذي يقضي المسافة من بيتهم إلى المنصورة ماشياً، ولا يبيت فيها إلا في شهر الامتحانات في حجرة مشتركة يستأجرها مع أبناء القرى المجاورة.. تفوقه الدراسي باعد زياراته لأمه وهو يساعد أساتذته في عياداتهم الخاصة في الإجازات الصيفية.

يتعرف السارد إليها وهو عند مدخل الجامعة ، وكانت حافية وتلبس الثوب الأسود الكالح نفسه. تسأله إن كان يعرف تلميذاً في مدرسة الطب قاصدة ابنها، وتفرح حين تعلم بأنه زميله ويسبق اسمه لقب الدكتور. عندما سألها إن كانت أمه أجابت بالنفي، واستطردت قائلة: « قول له جارتكم بتاعة الحلاوة...»، وهمس في أذن ابنها : «فيه واحدة ست شبه بلدنا بتسأل عنك».


«سيلان الحجر»

هذا النص شهادة وفاء، ورد على لسان إعلامي عاش مقرباً من العندليب الأسمر، ركز فيها على الأيام الأخيرة ومعاناته مع المرض، ويتذكر استقبالات الزعماء والأمراء وعلية القوم له في المطارات وتوديعهم له، بيد أنه في رحلته الأخيرة يعود مشحوناً داخل صندوق خشبي خفيف الوزن ضمن المنقولات، ويفاجأ بأن نهراً من الدموع يتلقف التابوت في مطار القاهرة.


«علاقة مشبوهة»

بعد أن غالى السارد في إظهار تعاطفه مع الفلاحة التي تبيع بضاعتها على الرصيف المقابل للمؤسسة، انطلقت الوشايات والشائعات من الزملاء حتى وصلت إلى زوجته، ولا يدركون أن السبب هو وجه الشبه القوي بينها وبين جدته لأمه، التي كانت أهم مصادر الحنان في طفولته.

«ليلة السلعوة»: فيها هذا النص يعود شلبي إلى البئر الأولى مستلهما حكايا القرية، ويكتب عن الإنسان وعلاقته الحميمية بالحيوان، والتي تتجلى من خلال الكلبة التي تموت عن طريق الخطأ، معتقدين أنها ذلك الكائن الخرافي المعروف بالسلعوة، ويبرع الكاتب في رصد مشهد مؤثر والجراء تمص أثداء الأم القتيلة...

يلاحظ بأنه في أكثر من قصة يعلو صوت السارد لا الكاتب، لأن القصص تروى على لسان أحد المقربين من بطل القصة.. جار أو صديق أو جدة كما في قصة «زفاف» متهماً النظام بأنه السبب في ما يحدث.. إنه يسلب البسطاء والأبرياء أحلامهم وفرحهم، كقوله في قصة «زفاف»: «بلده منهوبة مدهوسة تحت جزمة ذلك المسمى بالحزب الوطني». فالأب يموت مرتين من أجل زفاف ابنته.. مرة حين هاجر إلى العراق، وبعد حماقة صدام حسين، عاد خاوي الوفاض إلا من شظية تسلبه رجولته، جعلت الزوجة تترك ابنتها وتهرب لتتزوج غيره، وحين صارت عروسة هاجر مرة أخرى، لكنه عاد في تابوت هذه المرة. وفي قصة «عيد الضحية» يتساءل الولد البريء يوم عيد الأضحى، والرعب في عينيه كبقية الصغار عند رؤية قوات الأمن، وهي تحاصر متظاهرين يفتقدون لأبسط ضرورات الحياة، ومجلس الوزراء من وراء الحائط لا يسمع ولا يرى، كأنه ووري الثرى على الأبد :»هي الحكومة بتكرهنا ليه يا عمي؟».

في معظم قصص «تقليب المواجع» ثمة حضور قوي للتفاصيل الصغرى، وفي تدفق سردي لافت، ينهض على لغة قريبة من لغة الحياة اليومية‏، بعيدة عن البهرج البلاغي، لغة تعزف سمفونية الشقاء الإنساني.. بحس إنساني مرهف، وتؤرخ هموم وأحلام وانتكاسات من يعيشون على حافة الحياة، وهذا ليس بغريب على خيري شلبي وعوالم كتاباته... لقد اضطر الكاتب للعمل مع «عمال التراحيل». العمال الجوّالين الذين يعملون في الحقول مقابل طعامهم، كما تنقّل بين مهن مختلفة من الخياطة والحدادة إلى النجارة. كلّ ذلك جعله لسان حال المهمّشين والفقراء والمعدمين... فظفر الأدب العربي بحكّاء شعبي من طراز رفيع، عاش بين البسطاء، وعايش أحلامهم وانكساراتهم، وامتلك فرادته الجمالية والرؤيوية

إقرأ أيضا لـ "هشام بن الشاوي"

العدد 3312 - السبت 01 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً