العدد 3356 - الإثنين 14 نوفمبر 2011م الموافق 18 ذي الحجة 1432هـ

عبقٌ من التاريخ

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يلذّ للقلم أن يتوقف عند مآثر الإمام علي (ع)، وصولاته وجولاته، وريادته في ميدان الفكر والسياسة.

وفي الميدان الأخير، يستوقف المرء ما كان لمصر من منزلةٍ خاصةٍ في نفس الإمام علي (ع)، إذ اختص واليها (مالك الأشتر) بأطول كتاب أفرغ فيه مشروعه السياسي للحكم النظيف، لاستنقاذ مصر من أغلال المرحلة الماضية، لتستعيد دورها الرائد على رأس إفريقيا.

بعد تطرّقه إلى بعض القوى الفاعلة في المجتمع، ينصح بمحاسبة الوزراء وفق أدائهم الوظيفي، فـ «لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه». ويوجه إلى حسن السياسة مع الرعية، بإحسان الظن بهم، وتخفيف المؤونات عليهم، واحترام العادات الاجتماعية الحسنة، «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية». وينصح واليه بمشاورة ذوي الرأي في القضايا الكبرى: «وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك».

عليٌّ ليس شيوعياً، ولكنه يتحدّث قبل 14 قرناً عن الطبقات بوضوح، فـ «الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض». وينظر للمجتمع ككائن حي، لكلّ عضو وظيفة ودور يكمل غيره، فالجنود «حصون الرعية وعز الدين وسبل الأمن»، وهؤلاء لا يقومون إلا على دافعي الضرائب (الخراج). ولا يقوم هذان الصنفان إلا على القضاة والعمال والكتاب، ولا قوام لهم جميعاً إلا «بالتجار وذوي الصناعات».

ثم يصل في تحليله للشرائح الاجتماعية إلى «الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حقٌ بقدر ما يصلحه». سياسة تكافل اجتماعي، ومبادئ كأنها كتبت قبل ساعة، وحبرها لم يجف. حتى المصطلحات قريبةٌ من الأدبيات الاقتصادية التي تشيع في هذا الزمان.

كان يهمه كثيراً أوضاع هذه الطبقة الدنيا، من الفقراء والمساكين والمعدمين، وتذكر كتب التاريخ الكثير من قصص تعامله معها، وحرصه على إنصافها وتوفير حقوقها. وكان يلزم نفسه بمأكلٍ قليل، ولباسٍ بسيط، مواساةً لأفقر الطبقات.

ينصح واليه الجديد الذي أرسله إلى مصر، بأن يتخذ من الجنود «أنصحهم... وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء». ويوصيه بالالتصاق «بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف». أي دولةٍ كريمةٍ يمكن أن تقوم على أكتاف هذه النخب الفاضلة؟

من النظرات التي تستوقفك في هذه الوثيقة التاريخية، قوله (ع): «وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية». ولا تدري هل هو شعورٌ مشتركٌ بين جميع الحكام عبر مختلف الأزمان أم خاصٌ بتلك الفترة العابرة من التاريخ المجيد؟ ولم كل تلك الدماء التي سفكت عبر العصور من أجل كراسي ومطامح شخصية سرعان ما تزول كالسراب؟

ويتوقف عند السلطة القضائية ليثبت في الأرض أوتادها، فيأمر واليه بالإكثار من تعاهد قضائه، والإفساح لقاضيه في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وتكون للقضاة منزلةٌ خاصةٌ تحفظ موازين العدل، «فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا». أما اختيار القاضي فيجب أن يكون «أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع... أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور... ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل»... عبر العصور

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3356 - الإثنين 14 نوفمبر 2011م الموافق 18 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 10:14 ص

      لبيب بالاشارة ... واشارة اللبيب

      متى ما كان اللبيب بالاشارة ... فان اشارة اللبيب بالغة كذلك
      فمن البديهي أن الاشياء المشتركة بين الناس في بلد ما معروفة وهي الثروات الطبيعية التي يحتاج الناس الى تقاسمها بينهم وتسمى common wealth . الثروة المشتركة في الاسلام تودع في بيت مال المسلمين ويكون عليها انسان قوي صادق وأمين. وفي الاشتراكية والشيوعية كأنظمة عرفها الانسان من أجل ان تكون العدالة الاجتماعية عنصر ثابت وليس للسياسة والتجارة دخل في هذا الثابت. فمن الذي ينازع الشعوب ثرواتها؟؟

    • زائر 11 | 8:42 ص

      سلام الله على أمير المؤمنين علي (ع)

      السلام عليك يا رجل العدالة، بل عدالة السماء كلها، السلام عليك يا زاهدا ياعابدا يا ياخير خلق الله بعد رسوله. السلام علك يا أمير المؤمنين يا علي بن أبي طالب

    • زائر 9 | 2:26 ص

      الامام علي و الامم المتحده

      الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان: «قول علي ابن أبي طالب يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية» وبعد أشهر اقترح عنان أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب علي إلى مالك الأشتر ، فأحيلت إلى اللجنة القانونية في الأمم المتحدة ، وقد طرحت على للتصويت ، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي .

    • زائر 8 | 2:16 ص

      القذوة الالهية والنبوية اذا لم يرجع المسلمون لها

      شاءت ارادة الله ان يجعل في كل الامم قذوة يرجعون لها حتى في غياب الانبياء، فأنبياء اولي العزم وغيرهم
      لهم أوصياء هكذا حدثتنا كتب التاريخ ونبينا ص ليس بدعا من الرسل هكذا قال عنه القرآن أيضا (قل ما كنت بدعا من الرسل) اذا مسألة الوصاية والوصي هي سنة
      الانبياء السابقين كما هي سنة نبينا محمد ص
      وفي هذه الوصاية تكون القذوة والحجة على الناس
      للمرجعية للمسلمين في كل امورهم وقد أثبت لنا التاريخ رجوع معظم الصحابة اذا اصطكت عليهم الامور
      لعلي ع السلام رغم عناد البعض ولكن لله امر
      هو بالغه

    • زائر 6 | 2:00 ص

      غريب الرياض قد عاد

      نبارك للامة الاسلامية (اللي تعترف بالحق بس) ولاية أمير المؤمنين (غصبا عنهم طبعا)

    • زائر 5 | 1:30 ص

      اشكرك

      اشكرك اذ اوقفت شعر بدني لاسباب انت لا تجهلها

    • زائر 4 | 1:02 ص

      انه الخسران ..

      لقد خسرت مصر خسراناً كبيرا بعدم وصول مالك الاشتر اليها محملا بهذا الدستور الرائع الذي وضعه امام المتقين علي بن ابي طالب ( ع ) وكلف صاحبه مالك الاشتر بتطبيقه في تلك البلاد ، نحن لا نرى خسران مصر فقط وانما خسران الانسانية مضمونات هذا لكتاب ، لقد اغتيل مالك الاشتر قبل وصوله لمصر ، ولك ان تتصور من اغتاله وما هي مصلحته الوقتية من ذلك الاغتيال .

    • زائر 3 | 12:21 ص

      سلام الله عليك يا إمام المتقين

      «وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية»، والله لو أن كل حاكم أخذ بكتاب الامام علي لمالك الأشتر منهاجا لعشنا في مدن فاضلة.

اقرأ ايضاً