العدد 2484 - الخميس 25 يونيو 2009م الموافق 02 رجب 1430هـ

من بذخ باريس لقاع المحرق مطابقة أم مفارقة

تشكيل شانتال ونص علي خليفة

جاءت الفنانة التشكيلية الفرنسية شانتال لوجندر لتجربة شاعر امتدت منذ الستينيات إلى الآن، وهذه رحلة طويلة وكلها كانت تحفر في إطار علاقة الشعر بالعذاب وحتى من درس تجربة هذا الشاعر لم يستطع الفكاك من علاقة الشاعر بهذه المعاناة اليومية التي يصوّرها للبحار وللإنسان والعذاب، فماذا تفعل فنانة فرنسية جاءت من بذخ باريس ومن رفاهية الفكر والفلسفة، ماذا تفعل بتجربة شاعر من الخليج من قاع المحرق، ومن أدفأ وأحن وأقسى مشاعر الحياة في المحرق ماذا يمكن أن يحدث في هذا التقاطع، هل ستنظر في نصوص هذا الشاعر كقارئة فقط، كمؤولة لنصوصه، كفاهمة لمعاني نصوصه، كمتوغلة في عذاباته، أم إنها ستقترح شيئا آخر». بهذه الأسئلة يواصل الناقد إبراهيم غلوم قراءته في مشروع وشائج في الأمسية التي عقدها الملتقى الأهلي الثقافي.


ذكورة النص وأنوثة التشكيل

وعبر غلوم عن استغرابه ودهشته بأن «الشيء الذي يثير الغرابة والدهشة، أن نص علي في هذه التجربة صار أمام مجموعة من النساء، التشكيلية، والناقدة، والمترجمة، وفي هذه الفترة بالتحديد كانت تجربة لبنى مع قاسم وتجربة فريال مع نصوص من الشعر العربي وكلها تشير لرؤية الأنثى إزاء النص، فهناك أنوثة في مقابل هذا النص بصرف النظر عن رمزية النص، إن كانت هي فحولة الشعر أو النص المذكر، أنا لا تعنيني المقابلة المتصلة بالجنس، وما يعنيني أن الأنثى التشكيلية حاولت أن تقترح رؤية موازية للنص، منطلقة من الخلفية المتصلة بالجنس، فكيف سترى هذه الأنثى لتجربة هذا الشاعر الذي لا يفصل بين العذاب والحماية أو اللذة.

إزاحة اللغة واستنطاق الصورة

أول ما أثار استغرابي هو أن هذه الفنانة أزاحت وأقصت اللغة، وهذا أول عنصر فوضوي في التأويل وإن كانت الإجابة أن العلاقة بين تشكيل شانتيل نص علي خليفة علاقة تأويل فهي لم تتعامل مع اللغة، ولكنها تعاملت مع الصور، وأسوق مثالا القصيدة التي يفحص فيها ضمير الشاعر حجر الزبرجدة في إناء الورد، فلوحة الصندوق الذي وضعته فيما يشبه الساعة الرملية ووضعت داخل الساعة الرملية من أسفل هذا الحجر حيث الشاعر يحاول أن يفك أسئلة التكوين الأولى لهذا الحجر وكأنه يتفحص الزمن نفسه ونلاحظ كيف أن شانتال اتخذت من صورة الحجر وسيطا لتأويل النص بفكرة صندوق الساعة.

واستعرض غلوم الأعمال التي أعطت مؤشرات مهمة جدا عن علاقة النص بالتشكيل، إذ وجد أن أول ما فعلته الفنانة أنها نظرت بلا مبالاة مدهشة لفكرة اللغة، وراحت تتلقط أو تبحث بدأب عالم النفس ومن طريقة قراءتها للنصوص وجدت أنها بالفعل سيكلوجست، هذا أول ما حاولت شانتال أن تفصل فيه مواجهتها للنص فكانت تذهب إلى أصل الشعر الصورة؛ لأن المسألة في الأساس هي علاقة النص بالصورة، والشعر هو واحد من الفنون التي كرست تقاليد مهمة جدا للصورة وإن أهم مفردة في تشكيل الصورة في قصيدة الزبرجدة هي مفردة الحجر الذي وقف الشاعر يفك علمه المغلق من الداخل ليستكشف رحلة الزمن داخله، لأنه يتكون عبر زمن طويل من التشيؤ ودهشت أن الفنانة راحت مباشرة إلى استنطاق الحجر في القصيدة أي إلى الصورة الأولى التي تشكل مكمن النص صوريا وبصريا.


إقصاء الميثلوجيا والأساطير والعذاب

وأضاف غلوم بأن الشيء الثاني الذي أقصته التشكيلية لكي تفهم دلالات النص الشعري فهما معمقا إبعادها للميثلوجيا والأساطير، إذ لم تحاول أن توازي الشاعر بأساطير ولا بميثلوجيا بل وازته بأضواء وبثيمات مراوغة وما يميز تجربة شانتال هو حبكة المراوغة التي تصنعها، فكانت كل لوحة في الحقيقة تحكي حبكة لأكثر من ثيمة في آن واحد ولذلك لا تفلت قصيدة علي خليفة من هذه الثيمة، وهي تقنية عالية جدا في التشكيل لم أجدها في أفق تجربتنا الفنية وأهم شيء في التجربة على الإطلاق تنحية فكرة العذاب، وهذا هو لب تجربة علي خليفة وهو أساس مفهومه للشعرية وقصيدته طائر النار وهي من القصائد الأخيرة جدا يصور فيها بعنف أكثر وأشرس فكرة ارتباط الشعر بالعذاب وصنع من الشاعر كائنا خرافيا سماه طائر النار، وفي هذه الصورة عمل تشكيل الأنثى على أن يبعد فكرة العذاب، كأن لم تصدق تماما هذا الأفق الأساس في التجربة، ونظرت إليه نظرة الأنثى فقلبت وجهه الآخر، فوجدت فيه اللذة، ومن هنا صنعت في أعمالها هذه صورة للذة القابعة وراء العذاب، الجانب الذي كان يحمي الشاعر من سقوطه الأبدي فعلي خليفة منذ أربعين سنة يتعذب كشاعر وقد حمته تجربته وحمت مؤسسة الشعر سمعته والآن عندما يقرأ فنان تشكيلي هذه التجربة لابد أن يستنبط السيرة الفنية من نص قطع كل هذه الرحلة فليس من العبث أن يظل الشعر بوجه واحد وبشكل أبدي، من هنا كانت اللفتة البارعة والعبقرية في مواجهة تشكيل شانتيل لنص علي أنها نحت وجه العذاب واستنطقت اللذة من العذاب فماذا ظهر لديها غير الموتيفات المراوغة.


ثنائية المفارقة والمطابقة

وقد قسم غلوم علاقة النص بالتشكيل في تجربة وشائج إلى قسمين حتى يرصد المدى العميق الذي تستكشفه هذه الفنانة فصار لديه قائمة لأعمال تشكيلية مطابقة للنص وقائمة لأعمال تشكيلية مفارقة للنص، الأعمال المطابقة للنص كانت تحاول أن تترجم النص غالبا مع إضافة عنصر الضوء واللون والخامة الزجاجية التي تضيف بريقا وأضواء مضاعفة للمشاعر الإنسانية التي تستخدمها في تشكيل صور الشاعر، ومن جهة أخرى العلاقة المفارقة وجدتها ويتابع غلوم في نحو خمس عشرة لوحة، خمس منها رسمتها الفنانة قبل التجربة ومن دون أن أعلم ذلك وبكل بساطة وضعتها في التجربة المفارقة، وهذا لا تعني أن شانتال قد تخلت تماما عن النص، ولكن يعني أنها بنت ثيمة التشكيل من خلال المفارقة والاختلاف نفسه فالبنية هنا قائمة على بنية الاختلاف والمفارقة ومثال على ذلك أرنبة البياض، وأخرى رسمتها بعد تجربة لقائها بعلي مثل قصيدة في التجلي والتضاد ولننظر فيها الثيمة التشكيلية. ففي هذه القصيدة التي غمرها الشاعر بمناخ مثقل بالعذاب والميثلوجيا المعذبة، هنا ليست قناعا ولكنها نابعة من الإحساس المباشر والمكثف بفكرة العذاب الكوني للشاعر، ففيها تصوير لبدء الخليقة، للجنة، لظهور المدينة لمسائل كثيرة خاصة بالتكوين وحسب قراءتي. يتابع غلوم «أرى أن هذا الإصبع يحرك العالم والمرأة في وسط تيار النهر، فالفنانة شانتال التقطت عناصر بسيطة جدا صورية من القصيدة ليس لها علاقة باللغة ولا بالميثلوجيا التقطتها لتصور كيف أن الشاعر هنا يستخدم ضميرا يوجه الكون، وأن الخطيئة التي سوف تظهر - الغواية والغواية امرأة - هي التي سوف تلوي حركة هذا النهر حركة هذا الضوء ونحن نرى هنا شكلا عجيبا يمكن أن نقترح له تكوينات عديدة وخاصة إذا تمثلنا اللون الذهبي المضيء لهذه الانحناءة وللتفرع في النصف الثاني من اللوحة وعلاقة هذا اللون المضيء بالجزأين الأساسيين من السواد المشارف لضفاف الأنهار غالبا كما هي التربة السوداء في دجلة والفرات والنيل والأنهار العظيمة التي مرّ عليها زمن طويل وهي تتكون حتى اسودت التربة فيها، ونحن هنا أمام حبكة مراوغة أينما فرت القصيدة تذهب إلى أن تلتقي بهذه الثيمة».


فناء البحر

وأضاف غلوم أن شانتال ما أغوتها لغة علي خليفة الشعرية ولا عذاباته ولا أساطيره ولا خرافاته، لكن صورة فناء البحر فعلت الكثير هذه الصورة التي تعني شيئا مخيفا جدا وكونيا ولا يمكن أن يخرج من الذاكرة، فقد نظرت لفناء البحر في قصيدة غياب لعلي برؤية استشرافية بعيدة جدا فتخيلت أن البحر سيفنى تماما من هذا الكون، إذ صورت الكون كله والكرة الأرضية وقد غمرتها بالتوحش من داخل، وهذه هي البنية المفارقة والتي تقع داخل بنية نص علي عبدالله خليفة، فثمة شكل غريب كأنه جنين لحشرة غامضة ككائن خرافي، ويتخلل ذلك اللون الأزرق الذي لم يغادر أعمالها إلا قليلا جدا، واللون الرمادي فالأزرق إما أن يكون داكنا دكنة عميقة جدا أو يكون كزرقة البحر في مياه الخليج، وهنا يدخل مع ما أسميته التشكيل المفارق للنص، ولكنه يقع في لب بنية النص وعمل شانتال لوحة تشكيلة مستقلة بذاتها تماما ونص علي خليفة قصيدة مستقلة بذاتها تماما والآن لا يمكن أن أتصور ذلك من دون قصيدة غياب واللوحة المصاحبة لها التي وضعتها الفنانة في نطاق التجربة.


فلسفة الضوء ووعي سيكلوجي

ووضع غلوم لوحة نص «في وداع السيدة الخضراء» من التشكيل المفارق فثمة نخلة من حديد انسلت منها سعفة خضراء وبقيت النخلة الحديدية، وإن تكنيك شانتيل في التعامل بالنص أن لا تتوغل في المفردات ولا في الأفكار، فهي فنانة تشكيلية ولديها وعي فلسفي سيكلوجي عميق بالحياة فبمجرد أن تلتقط فكرة السيدة الخضراء تكون الفكرة الأم قد ثبتت في اللوحة، فهذه نخلة سعفاتها من حديد أسود ولها جذع وتبدأ الألوان تغادر هذه النخلة الأصفر والأخضر يتحول إلى أسود فيما بعد وهكذا فحركة الزمن موجودة في تناسل اللون في جذع النخلة، فهي اعتمدت كثيرا على فلسفة الضوء في هذه الأعمال ودلالاتها المشحونة بالفكر، أما أرنبة البياض فتتمثل فيها الثيمة المراوغة بشكل مذهل فالقصيدة تحكي قصة الأرنبة الناصعة البياض في أشبه ما يكون بميثلوجيا، بمقدمة رائعة فثمة رسم للمناخ الأسطوري لأجواء القصيدة ودخول في المدينة بأوساخها وفجأة تنفتح فوهة عميقة وجدا وكلاب ضارية تركض وراء أرنبة داكنة البياض تريد أن تفترسها، وتقفز على لوح من البركة الآسنة، وتقف فلا تستطيع الكلاب المفترسة أن تصل إليها، وهذه اللوحة وضعتها شانتال قبل لقائها بعلي، وهي دخلت في تجارب عديدة في التعامل مع النصوص الشعرية وغير الشعرية فلما هيأت لهذه التجربة وجدت أن هذا العمل يلتئم تماما مع نص أرنبة البياض صحيح أن هناك نقطة قد يثيرها البعض لأن هذا المفترس الذي يقع على وردة بيضاء يظهر في شكل إنسان أو هو نصف إنسان ونصف حيوان، فالهيكل جسم إنسان ولكن الوجه مفترس لنمر أو لبؤة، وهذه الكتلة الصغيرة التي تقع في يده من البياض لا تبدو أرنبة بالمعنى الواقعي لكنها تبدو كزهرة صغيرة، ونلاحظ العلاقات المراوغة فالأرنبة الشديدة البياض أصبحت زهرة شديدة البياض والكلاب المفترسة صارت كائنا بنصف إنسان وبنصف حيوان مفترس، ولكن الصورة هناك مختلفة حيوانات وأرنبة ما يجري في الحياة المليئة بالعذاب، ومن الصعب أن أقول إن شاتال هنا أخطأت وأعطتني بنية مفارقة في هذا التشكيل دخيلة على النص، فأنا وجدت أن هذا التشكيل كشف عن فلسفتها في التعامل مع النص الشعري لقد حولّت الافتراس من عالم الكلاب الشرسة إلى عالم البشر وساوت بينهما، وتلك الضحية حولتها إلى شيء طري وندي جدا قمة ما نلمس من الطراوة والشفافية متمثلة في الزهرة، ولننظر كيف ذهبت بعيدا مع النص، أبعد مما يمكن أن يذهب إليه التأويل فساقت شانتيل أعمالها التشكيلية في نطاق ما سميته بالتشكيل المفارق وهو أعمق ما في التجربة.


المطابقة والتأويل

أما التشكيلات الأخرى المطابقة فكانت مؤولة للمعاني الجزئية مع الإضافة تضيف إليها، فثمة قصيدة يتخيل فيها علي الشاعر امرأة تتلظى بالشوك صورتها بشكل رومانسي شفاف جدا فأسقطت الملابس في العمل كألوان قرمزية في الأرض بمجرد بقع، وقصيدة ازدواج اللوحة حوت على زهرة رمان وقرنفلة وتكررت هذه الشعلة بألوان متعددة وقصيدة ازدواج بسيطة جدا ومذهلة، فهي عبارة عن ما يراه الشاعر في عاشقين وكأس نبيذ. واللوحة هنا عبارة عن كأس بتدرجات ألوانه وتترتب المفردات التي وردت كتشيؤات في القصيدة زهرة الرمان والأقحوانة والشعلة والرغوة التي هي مفردة خطيرة في شعر علي خليفة، هي التي ورطته مع شانتال وخاصة في كيفة دمجها بين فكرة العذاب واللذة مما جعل لهما رغوة واحدة فهذه اللوحة على بساطتها توازي بساطة القصيدة.


الحقيقة خارج النص والتشكيل

وخلص غلوم إلى أن تجربة علي مع شاتيل تجربة مختلفة ومحصلاتها عميقة الدلالة، عن تساؤله هل هي علاقة تأويل وفهم للمعنى؟ أجاب في كثير من الأحيان هي علاقة تأويل مشددا على أن شانتال استخدمت بعض الآليات التي قد يعتبرها التأويليون من العناصر التي تسبب فوضويات في فهم المعنى، وأضاف أنا لست متزمتا في فهم فلسفة التأويل، ولا فهم المعنى فعندي أن النص لا يكتفي ولا يستقل بإعطاء الحقيقة وكذلك التشكيل لا يستقل بإعطاء الحقيقة، وعندي أن الصورة وإن كانت ثابتة ولكنها لا تفي مطلقا بالحقيقة فالصورة اليوم يمكن تركيبها ويمكن بناءها بطرق مراوغة وملتوية، ولذلك أرى أن التأويل يمكن أن يصعد هذه العتبة التي اجترأتها شانتايل في تشكيل موتيفاتها أو ثيماتها في التعامل مع النص فافترضت افتراضات أو حدوس خطيرة جدا؛ لأنها ألغت اللغة واعتمدت حدسها المطلق أو افتراضاته المطلقة فلما وقفت مع فكرة الحجر وحولت القصيدة إلى صندوق للزمن صنعت شيئا مدهشا، وهذا لا يعني إلا أنه ليس هناك أساس فلسفي تتعامل به هذه الفنانة مع هذه النصوص، ولكي نؤسس لعلاقة متينة وراسخة بين النص والتشكيل لابد أن يكون لدينا وعي تاريخي وفلسفي بهذه الأشياء منا النص كشيء والصورة كشيء ثم الوجود الذي نكون فيه، وهذه مسائل لم يفرغ النقد ولا الفلسفة ولا التأويليون من الإجابة عليها ويستطيع الشاعر ببساطة شديدة أن يمسك فيها مفاصل والتشكيلي أن يمسك فيها مفاصل أدق وأدق، وهذا ما أعتقد بأنه قد حدث في تشكيل شانتال نص علي عبدالله خليفة.

العدد 2484 - الخميس 25 يونيو 2009م الموافق 02 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:03 ص

      الشكر

      أشكركم على هذه المواضيع الجميله
      و أتمنى المزيد أنشاء الله
      أريد شرح قصيده في روائع الجليج
      وشكرا متمنيه لكم التوفيق و التقدم
      و اقبلو مرووووووووري

اقرأ ايضاً