العدد 3451 - الجمعة 17 فبراير 2012م الموافق 25 ربيع الاول 1433هـ

الخضوع للسلطة وتوجيه العدوان للأضعف

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

روي أن والي الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز على البصرة بعث له برسالة يقول فيها إن أناساً من العمال قد اقتطعوا من مال الله ولست أرجو استخراجه منهم إلا إن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بشيء من ذلك فعلت.

فكتب إليه الخليفة عمر بن عبدالعزيز: «العجب كل العجب استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جُنة من عذاب الله، وكأن رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه البينة أو أقر فخذه بما أقر، وأيمُ الله لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحب إليّ من أن ألقى الله بدمائهم».

المشهد التاريخي السابق يدعونا إلى التساؤل عن أهمية وجود جهاز يعمل على الحد من سلطات الأفراد أياً كانوا، وعن ضرورة وجود مؤسسات تراقب حالة ضعف البشر أمام شهوة السلطة وفي نزوع النفس البشرية للهيمنة والاستمرار في الزعامة، على أن يكون وقودها فئات من البسطاء والمستضعفين. والأهم محاولة رصد ذلك التغير في القيم والمبادئ عند الأشخاص حال تقلدهم المنصب وصعودهم منصة السلطة.

تاريخياً كان الحجّاج عابداً متهجداً ومعلّماً للقرآن، ولكن ماذا فعل عندما تمكن من السلطة؟ روى الترمذي في سننه (2220) عن هشام بن حسان قال «أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مئة ألف وعشرين ألف قتيل». ولعلنا نوجز الحديث بذكرنا ما قاله الخليفة عمر بن عبدالعزيز: «لو جاءت كل أمةٍ بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم». والخليفة العباسي أبوجعفر المنصور كان قبل توليه الخلافة زاهداً ورعاً يخالط الفقهاء والعلماء، لكنه بعد وصوله للسلطة تغيّر وأصبح متجبّراً وأوغل في الدماء. يقول الرسول (ص): «لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم أمرئ مسلم».

وفي السيرة النبوية وقعت حادثة في عهد الرسول (ص) تكشف عن مدى اهتمام الإسلام بحرمة الدماء، فقد وُجد رجل مقتول من قبيلة جهينة ولا يعلم قاتله، فغضب الرسول (ص) لذلك وأمر باجتماع المسلمين في المسجد وصعد فيهم خطيباً قائلاً: «أيها الناس أيقتل إنسان ولا يعلم قاتله؟ والله لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في دم مسلم واحد بريء أو رضوا به لكان حقاً على الله أن يكبهم كلهم على منخرهم في نار جهنم. وقارون كان من الأخيار الصالحين وكان من قوم نبي الله موسى عليه السلام ولكنه عندما تجبر خسف الله به الأرض».

ولرصد تجربة التحول والانقلاب على المبادئ والقيم والقناعات نستذكر تجربة سلوكية عظيمة في تاريخ علم النفس، وهي تجربة جامعة ستانفورد بكاليفورنيا في العام 1971، التي قام بها البروفسور زيمباردو، وتتمثل في إنشاء سجن وهمي يكون الحرس والمسجونون فيه من طلاب الجامعة المتطوعين. وكان الهدف من التجربة هو قياس سلوك الأفراد عندما يملكون السلطة وقياس كيف يفقد الإنسان توازنه عندما يملك مصدر القوة (منصب، مال، معرفة... إلخ).

ما حدث في التجربة السابقة أن البروفيسور المشرف على التجربة اختار نخبةً من طلاب الجامعة المعروفين بالاستقامة والصلاح (أي أن البروفيسور قسم الطلاب (الشباب) إلى فريقين: فريق حراس وفريق سجناء)، ولكن عندما أصبحوا من ذوي السلطة قاموا بتصرفات قاسية تجاه زملائهم المسجونين، وقاموا بتطبيق الأوامر بدون رحمة بل وبالغوا في العقوبة والقسوة إلى درجة أن أوقفت التجربة وأرسل البعض من المسجونين للعلاج النفسي لإزاحة آثار القسوة والخشونة في التعامل!

يمكننا أن نستنتج دروساً متعددة من التجربة السابقة، فتقلد المناصب ليس مشكلةً في ذاته ولكنه تارةً يكون وسيلةً للعطاء وخدمة الوطن والمجتمع، وتارةً أخرى يكون بمثابة حبٍّ للوجاهة وتضخم في الذات، فـ «حب المناصب» كظاهرة سلوكية لها أبعاد متعددة وصور متفاوتة. وعليه فلا يجب أن نتفاجأ إذا شاهدنا في الانتخابات أن بعض الشخصيات ذهبت لترشيح نفسها وهي من الذوات المغمورة الهامشية التي ليس لها صلة بخدمة الضعفاء والفقراء من الناس، ولا تعلم بحاجات المجتمع فضلاً عن عدم أهليتها وكفاءتها! كما أن هناك شخصيات ذات قدرات عالية تحتجب تواضعاً وتعففاً، وتتوارى عن الأنظار لكي تمارس دورها الإنساني والوطني خلف الكواليس! ونقول: لا تثريب على أمثال هؤلاء أن يتقدّموا، فالمجتمع والوطن بحاجة ماسة لعطائهم.

الدرس الآخر وإسقاطاً على واقع المجتمع المعاش، هناك في تقديري قضيتان على قدر كبير من الأهمية هما «التوحيد» و «العدل». أما التوحيد فقد احتل أولويته في بداية الدعوة الإسلامية عندما كان الشرك والوثنية هما القاعدة في مجتمع الجزيرة العربية. أما الآن وحتى لا تكون المسيرة عرجاء، فقيمة العدل يجب أن تأخذ مساحتها من الاهتمام بمختلف مفاصل حياتنا، ويجب أن تلقى العناية التي تتناسب مع خطورتها. فقد يتعمد البعض تجنب الحديث عنها إيثاراً للسلامة، وحتى لا يقال إن تلك الكتابات تتعرض لأوضاع قائمة وسائدة في عملية إصرار مبيّت على التورط في التزييف الجمالي للحياة. يقول الإمام علي (ع): «أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كِظّةِ ظالمٍ ولا سَغَبِ مظلوم»، أي أن لا يسكتوا حين يكون هناك ظالم متخوم ومظلوم محروم.

فالعدل قيمةُ مهمةُ لا يمكن أن تستقر إلا تحت ظلال الحرية. وهنا ينشأ توأمان للانطلاق الصحيح والطريق السليم في أوطاننا، وهما العدل والحرية، وبذلك تتفجر طاقتنا الروحية لتختزن حركة بمنتهى الآدمية في وجه أولئك الذين يصرون على ظلم الضعفاء

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3451 - الجمعة 17 فبراير 2012م الموافق 25 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:23 ص

      السلطة تعطي الانسان الغرور وتسلبه الرحمة والانسانية الا القليل

      موضوعك شيق جدا لمن القى السمع وهو شهيد فالبعض تراه قبل استلام اي مسؤلية سلطوية انسان لين الجانب ذوا خلق رحيم. وما إن يصل الى السلطة حتى يتبدل حاله وينقلب على نفسه 180 درجة فيصبح شخصا

      آخر.

    • زائر 1 | 12:43 ص

      أسباب الاستبداد...

      قد يكون من أكبر أسباب قوة واستمرار الحكام في استبدادهم هو رثاء بما يسمون بعلماء الدين والشعراء وأصحاب المال والوجّاه اليهم-وشكرا جزيلاً للكاتب المتألق دائماُ في طرحه الشيق لضربه الاوتار الحساسة للمجتمع الحالي!!!!.

اقرأ ايضاً