العدد 1428 - الخميس 03 أغسطس 2006م الموافق 08 رجب 1427هـ

هل أصلح أن أكون استاذاً؟

منذ أن تخرجت من الجامعة أحسست أن أبواب الجنة قد تفتحت. سأعمل معلماً في وزارة التربية والتعليم، سأشتري سيارة جديدة وأتزوج وأبني مع شريكة حياتي بيتي الجميل ومستقبلي الأجمل. كم ستكون الحياة جميلة. راتبي سيكون أعلى الرواتب في أسرتي، ومكانتي الاجتماعية سيرفع من شأنها الشاعر الذي قال بأنني كدت أن أكون رسولا. أنا منذ اليوم «استاذ»، في المدرسة وفي القرية وحتى في البيت حين يرن جرس الباب أو الهاتف. عطل رسمية كثيرة وعلاوات وراتب ومكانة اجتماعية ودوام يومي لا يتعدى الظهر، ماذا أريد أكثر من ذلك.

كنت مضطرباً في أول يوم لي في المدرسة. لم أعرف كيف يجب أن أمشي، مسرعاً لأبدو مجداً محباً لعملي، أم بطيئاً لأبدو رزيناً ثابت الخطى. ما جعلني أحسم أمري وأمشي الهوينا هو عقالي الذي ألبسه لأول مرة وأخشى أن يتهاوى عند أي خطوة غير محسوبة. أحيي المدرسين الزملاء وأصافحهم بضغطة بين الشدة واللين وأتصنع التبسم في وجه الطلبة الذين أصادفهم لأخفي نشوة الإعجاب بالنفس. حين ينظر إلي الطلبة بعين الاحترام المشوبة بالانكسار أشعر بأنني شخص محترم وصاحب نفوذ ولو على أطفال. يا له من شعور عجيب.

طاولة جديدة وواسعة، كرسي متحرك، مكتب مكيف، مدرسون يبتسمون في وجهي. يجب أن تكون في جيبي مرآة صغيرة على الدوام لأتأكد من أن عقالي في مكانه المناسب. لم أكن أشعر بأنني شخص محترم لهذه الدرجة من قبل، كنت محترماً بين أفراد أسرتي وفي قريتي، ولكني اليوم شخص آخر. أنا اليوم «أستاذ»، نعم «أستاذ»، إن قلت شيئاً قالوا قال «الأستاذ»، وإن لم أقل شيئاً قالوا لم يقل «الأستاذ». درسي اليوم في الحصة الرابعة، وحتى تحين، سأستمتع بالكرسي الذي أجلس عليه. بشرط الحفاظ على وقاري، صرت ألهو بالكرسي بشكل لا يوحي بذلك. أمثل دور من يبحث عن شيء ما، فأميل تارة لليمين وتارة للشمال. أتمنى لو أستطيع الذهاب للبيت وأنا جالس على هذا الكرسي المتحرك. إنه يشعرني بشيء لا أشعر به في مكان آخر.

بخطوات هادئة ورأس مرفوع ونظرات واثقة، توجهت للفصل الدراسي بعد الفسحة أحمل بعض الكتب وأقلام اللوحة الخشبية ورغبة عارمة في إثبات الذات. إذا وقف لي الطلبة فلن آمرهم بالجلوس مباشرة، سأتركهم واقفين لبضع دقائق، أو لدقيقة على الأقل، لا أدري لماذا بالضبط ولكني أشعر بالحاجة لذلك، وهم واقفون، سأعيد ترتيب عقالي. ليتني قد جلبت معي سبحتي أيضاً. يجب أن أبدو قوياً متماسكاً أمامهم، أنا منذ اليوم «أستاذهم»، تعبت من الدراسة سنوات، وجاء اليوم الذي أقطف فيه الثمار، والاحترام.

دخلت الفصل، ودخلت معه عالماً آخر. طاولات متناثرة، كراس تستجدي، أشياء تتطاير في الهواء تأكدت أن من ضمنها أقلاماً، جو مليء بالضجيج والروائح والفوضى، أطفال يركضون خلف بعض، طفل يبكي وآخر يحاول أن يهدئه. وقفت مشدوهاً، أحاول أن أعتني بنفسي، تحدثت فلم يسمعوا، صرخت فتسمروا للحظة، ثم تصنعوا ترتيب الفصل. لم أعد أكترث للعقال، نسيت ذهولي بالكرسي المتحرك، لم أعد أفكر بالراتب والعطل الرسمية، صرت أفكر في شيء آخر لم أحسب حسابي له، لم أفكر فيه، هل أصلح أن أكون أستاذاً؟

سألت نفسي مختلف الأسئلة إلا سؤال «هل أصلح»؟

فكرت في راتبي، إجازتي الصيفية والأسبوعية، دوامي حتى الظهر، احترامي، ولم أفكر في اليوم الذي أقف فيه عاجزاً عن مخاطبة مجموعة أطفال

العدد 1428 - الخميس 03 أغسطس 2006م الموافق 08 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً