العدد 3481 - الأحد 18 مارس 2012م الموافق 25 ربيع الثاني 1433هـ

التنفس وحده لا يصنع الحياة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

من هم الأحياء؟ هل هم أولئك الذين يتنفسون فحسب؟ هل هم أولئك الذين لا تستطيع تمييزهم إن كانوا مقبلين أم مدْبرين؟ هل هم أولئك الذين يختصرون الحياة وموقفهم من حراكها بـ «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر»؟ هل هم أولئك الذين لا يهمهم إذا انقلب أو احترق العالم مادام الحريق لم يطل حيّزهم وأمكنتهم؟ تلك حياة تشاركنا فيها أبسط الكائنات؛ لكن الفارق يتضح في المغزى والهدف والقيمة والأثر من تلك الحياة. متى ما غاب وانحسر لا فضل لأحد على أحد بتنفسه. ثم إن التنفس لوحده لا يصنع الحياة ولا يقيم الإنجاز، ما يصنعها هو الهدف من ذلك التنفس.

مليارات من البشر عبروا على الأرض ممن كتبت لهم الحياة وجالوا في الحركة... مضيّاً ونكوصاً أحياناً. مليارات منهم تنفسوا؛ لكن الذين صنعوا الأثر وأحدثوا الإضافات وتجاوزوا واقعهم المزري إلى واقع أفضل هم بضع نفر تجاوزوا تنفسهم الذي لا إرادة لهم فيه كسواهم ليخلقوا فرقاً هائلاً بين أن تكتفي بالتنفس لتعيش وبين أن تتنفس لتحدث فرقاً في حيوات وواقع الآخرين من حولك؛ بل وحتى ما بعد حيّزك والبشر الذين تنتمي إليهم.

ثم إنه لم نسمع ولم يثبت على الأرض ولن يثبت بالعقل أن رئة صنعت إنجازاً، هكذا بمعزل عن عوامل الصنْع من إدراك ووعي وإيمان وإرادة ووضوح هدف وتسلّح بما يوصل إلى ذلك الصنْع. فكثير من أصحاب الرئات الضخمة هم على الهامش من الأثر والصفر من الإنجاز. كثير من الذين يستهلكون هواء هذا العالم هم عالة على العالم نفسه بحصص من ذلك الهواء الذي يشتركون فيه مع بقية البهائم والأنعام من دون ما يدل على وجودهم الفعلي والحقيقي والمؤثر في هذا العالم، من دون ما يدل على أنهم ينتسبون إلى أكرم المخلوقات وأجدرها بصنع المذهل والفارق في هذه الحياة.

كل احتلاب لأعمار الناس وخياراتهم وحقوقهم في التنفس كما يجب. تنفس الحراك والمبادرة والفعل الخلاّق والاحتجاج، هو بمثابة احتلاب لدم الحياة، ومحاولة لوضع حد ونهاية لها إن بصورة أو أخرى؛ فمتى ما حُجّم وصودر حقه في صنع الحياة، كلما تحوّل إلى كائن برسْم تقديم العلَف له، وليست تلك وظيفته في الحياة، أن يعلف ويتنفس، ففي ذلك عنوان ومعنى عبث.

مقولة «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» انطلقت وتأسست في جانب منها لتحييد وتحجيم خيارات الإنسان في التعامل مع الحياة من حوله. أن يتحول إلى شيء، وفي أحسن الأحوال إلى كائن يتنفس ويتحرك ضمن دائرة شئونه ولا علاقة له بشئون الخلل والإرباك والانحراف الذي ينتاب الناس والحياة ويطولهما. مقولة كتلك اخترعها شخص يتنفس على حساب الآخرين وأحياناً بالنيابة عنهم.

ربما خير شاهد أختم به ما ذهبت إليه، مقاطع من خطبة للحجاج بن يوسف الثقفي حين قدومه العراق والياً من قبل عبدالملك بن مروان، فبعد أن توعد وهدد وقرّع وسخّف واستهان واستباح في خطبة يذكر المسعودي في الجزء الثالث من «مروج الذهب» أنه قبل أن يبدأ خطبته «فو الله ما حمد الله ولا أثنى عليه ولا صلى على نبيه». ليصل في خطبة الإهانات والحط من قيمة الإنسان بالقول: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، والله ما أغمز كتغماز التين (أضغط وألوي)، ولا يقعقع لي بالشّنان (القرْبة البالية)، ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، والله لألحونّكم لحو العود (قشره)، ولأعصبنّكم عصب السلمة (من الأشجار)، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، ولأقرعنكم قرع المروة (حجارة كالصوان)». هل انقرضت تلك النماذج؟ عليكم بالسيد «غوغل» سيخرج لكم ما قيل قبل ساعات وأيام.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3481 - الأحد 18 مارس 2012م الموافق 25 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً