العدد 3542 - الجمعة 18 مايو 2012م الموافق 27 جمادى الآخرة 1433هـ

أرجوك اقبل نصيحتي

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

النصيحة خلق غائب في حياتنا الاجتماعية مع أننا أحوج ما نكون إليه في هذه المرحلة التي نمر بها، خصوصاً وقد أصبح العالم بسبب تعدد وسائل الاتصال قرية صغيرة، والبعد عن هذا الخلق قد يرسخ الخصومات ويكثر من العداوات، فيتبادل الناس فيما بينهم شتى التهم.

والنصيحة هي إحساس بالمسئولية، كما أن الدين يعزز ذلك الإحساس. وبذل النصيحة مبادرة إلى فعل الخير وهو ضد التشهير الذي ينبثق عن البغض والحقد والميل النفسي إلى التقليل من شأن الناس وتحميل الأشياء أكثر مما تحتمل. يقول الرسول (ص): «حسن الظن من حسن العبادة».

لماذا غابت النصيحة إذاً؟ الإجابة لن تكون سهلة وميسورة بلا تفكر ومراجعة وربط للأحداث والوقائع، من هنا نشأ واجب النصيحة. ولعل مجتمعنا يحتل مركزاً مرموقاً بين الشعوب في عدد المتناصحين، وذلك مما يمكن ملاحظته بسهولة! لكن ثمة اعتبارات لهذا المشروع الأخوي بحيث يتم بعيداً عن التشهير والتشفي أو المداهنة والتملق، فهناك فرق بين النصيحة الأخوية والنقد الجارح. فمتى تكون النصيحة والنقد بشكل علني أكثر نفعاً للفرد والمجتمع؟ ومتى تكون سراً بين اثنين؟ وأيهما ادعى للقبول؟

واليوم تنتشر الديوانيات والمقاهي والجلسات ومواقع التواصل الاجتماعي حيث تشيع عملية التشهير بعيوب الناس وهتك الحرمات في المجالس بحجة النصح والجهر بالحق، بحيث اضطربت عند الكثير من الناس حدود النصيحة التي يجب القيام بها، فانقلب النصح إلى التشهير والمدارة إلى تملق وكأن البعض يجهل معنى الغيبة! الغيبة ليست إلا ذكرك أخاك بما يكره وهو عنك غائب. ذكر عيوب الناس له بعد سيكولوجي مهم، فالشخصية المنحرفة تجد نفسها معنيةً بتتبع العثرات والأخطاء التي تصدر من الآخرين لكي تبرر لذاتها الانغماس في الانحراف، وحتى تتوجه الأنظار إلى أخطاء غيرهم فينشأ لديهم شعورٌ بالراحة النفسية، باعتبار أن الجميع يعيشون نفس الوسط الاجتماعي. ولعل أروع تجسيد لهذا الحال ما ذكره الامام علي (ع) حين يقول: «ذوو العيوب يحبون إشاعة معائب الناس ليتسع لهم العذر في معائبهم».

والبعض لا يبادر في النصح سراً بل يفضح المنصوح ويجرح مشاعره، يقول الامام الشافعي «من وعظ أخاه سراً فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه». وكان سيد الخلق (ص) إذا أراد أن ينصح أحد الحاضرين يقول: «ما بال أقوامٍ يفعلون كذا؟ وما بال أحدكم يفعل كذا؟ وقيل: «النصح ثقيل فلا تجعلوه جبلاً، ولا ترسلوه جدلاً، والحقائق مرة فاستعينوا عليها بخفة البيان».

وهناك سلوكيات محببة في النصيحة منها أنه إذا بلغ الإنسانَ المنصوحَ كلامٌ يحتمل وجهين، كان الأجدر أن يحمله محملاً حسناً فذلك أقرب إلى الأخوة وأقرب إلى مكارم الأخلاق. فقد روي أن زوجة طلحة بن عبدالرحمن بن عوف ــ كان أجود قريش في زمانه ــ قد حاورته ذات مرة قائلة: «ما رأيت قوماً ألأم من إخوانك»! فقال لها: مه! ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك وإذا أعسرت تركوك. فقال لها: «هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم ويتركوننا حال عجزنا عن القيام بحقهم». نلاحظ كيف تأول طلحة صنيع إخوانه وقد يكون ظاهره القبح والانتهازية والمنفعة لكنه رده إلى وفاء وكرم.

ومن الاعتبارات المهمة أيضاً أن الناس ليسوا ملائكة ولا أنبياء، فلا يطمع الإنسان بالبحث عن زلة أو هفوة لأحد من الأخوان بل يجب أن يحمل ذلك على الضعف الإنساني الذي لا يكاد يخلو منه أحد. يقول الشاعر العربي:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

وقد وصف الله سبحانه وتعالى النفس الإنسانية على حقيقتها على لسان امرأة العزيز: «وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي». فهناك من يرى في نفسه ميزة على الآخرين بتقواه وعبادته فيتعالى على الناس ويحتقرهم ولا يشفق عليهم. وهل رأيت طبيباً يحتقر مريضاً؟ نعم، أحياناً تكون طريقتنا في التعامل مع الأخطاء أكبر من الخطأ نفسه! يقول معلم البشرية (ص): «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم». ويقول المسيح (ع): «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، فمن منا لا يخطئ؟ وكلنا ذاك الخطاء بل وليس بالضرورة كل إنسان يعرف خطأه ويهتدي إليه. يقول الامام الشافعي: «ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه. فمن كانت طاعته أغلب من معصيته فهو عدل».

في أحايين كثيرة لا يقع اللوم على من لا يقبل النصيحة وإنّما على من يقدمها بأسلوب غير مناسب! واختم بموقف تاريخي (ولعله من أجمل مواقف آداب النصيحة)، فقد روي أن الإمام الحسن والإمام الحسين كانا طفلين، وقد مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء، فاتفقا على أن ينصحا الرجل ويعلماه كيف يتوضأ، فوقفا بجواره وقالا له: «يا عم، احكم أينا أحسن وضوءًا»؟ ثم توضأ كل منهما فإذا بالرجل يرى أنهما يحسنان الوضوء، فأدرك هدفهما وقال متبسماً: «كلاكما تحسنان الوضوء»، وأشار إلى نفسه قائلاً: «أنا الذي لا يحسن الوضوء وقد تعلمت منكما».

عندما يقتنع الناس أننا نلحظ حسناتهم كما نلحظ سيئاتهم، يقبلون منا التوجيه. فما أحوجنا إلى الشفافية والوضوح، على أن يكون الانفتاح والمصارحة مسكونين باللباقة والاحترام وحب الخير للآخرين.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3542 - الجمعة 18 مايو 2012م الموافق 27 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً