العدد 3579 - الأحد 24 يونيو 2012م الموافق 04 شعبان 1433هـ

التاريخ ليس دُكَّاناً للقرارات السياسية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل يومين، تحدثت عن أهمية «أحداث» التاريخ بالنسبة للسياسة. البعض فهِمَ الأمر بغير ما يجب أن يُفهَم. ففكرة المقال كانت مفاضلة ما بين «اختزال السياسة في وسائل التواصل الاجتماعي» و «تخليق السياسة عبر استدعاء تجارب التاريخ الثوري/ السياسي». وقد خلصت إلى أن الأول هو إعلام، بينما الثاني هو تأسيس. وما بين الإعلام السريع والمقتضب، والتأسيس المبني والمتين، فروقات لا حدَّ لها في مسألة النضج السياسي وترشيد أفعاله وأفكاره.

اليوم، أعالجُ أمرًا ذا صلة بالموضوع، بُغية توضيحه أكثر. هذا الأمر، هو ما يتعلق بأحداث التاريخ نفسها، وعلاقتها بحاضرنا. فعندما كنا نقول، بأهمية الاطلاع على التراث الإنساني في مجال السياسة، كنا نهدف من ذلك الاطلاع إلى صناعة الصورة السياسية غير المبتورة، ولا المجتزأة لحركة الشعوب الحالية. بمعنى أننا أردنا أن نجعلها وصلاً بما كان، لا قطعًا معه، وفي الوقت نفسه، الاستفادة منه (وليس المطابقة) في اتخاذ ما يلزم من قرارات في واقع نعيشه اليوم.

فالتاريخ وأحداثه، ليست أمورًا مادية أو ملموسة أو ذات حيِّز، يتم أخذها من على الرفوف، لتثبيتها داخل ثقوب سياسية لأحداث الحاضر. فهذا المنهج إن حصل، فهو تجميد للعقل، وليس ضرب بعْض الرَّأي بِبَعضٍ ليَتولَّد منه الصَّواب كما يقال، فضلاً عن كونها أحداثا تتناسب ومقطع زمني بذاته فقط. المشكلة لدى البعض، أنهم يتفننون في استجلاب ما ينفع مواقفهم السياسية من التاريخ ليُعضِّدوها، ويتركون ما يُخالفها، لكي لا يُوهِّنوها، وكأننا في حفلة نقاش سياسي على شاشات التلفزيون أو في الدواوين، وليس في ساحة معركة سياسية وميدانية.

نرى الآن، أن كل مَنْ رامَ الاعتدال السياسي في حركته تشَدَّق بتجربة الجيرونديين في فرنسا ضد عصر الإرهاب اليعقوبي. وكل مَنْ أراد الاعتماد على منهج التشدد السياسي، اعتمد على تجربة مكسمليان روبسبيير، وثقافة المقصلة. وكل من أراد اختطاط المنهج الدموي الأحمر في تغيير الأنظمة السياسية، اعتمد على تجربة الديمسمبريين في بطرسبورغ. وكل مَنْ أراد أن يعيش منبطحًا ممالئا فسيقول مثلما قال لويس دو بونال أو فرانسوا دو شاتوبريان المؤيدون للرجعية.

في الجانب الآخر، نرى الاستدلالات من أحداث التاريخ الإسلامي والتمترس خلفها بلا حصر. فالإسلاميون في عمومهم اليوم يستخرجون ما ظَهَرَ من الأحداث والممارسات وما بطن، من داخل قراطيس الكتب والمخطوطات، لتبرير مواقفهم السياسية، تطرفاً واعتدالاً وخنوعًا وعبودية، على رغم فواصل التاريخ والزمن المديد. فالثورة والصلح والمهادنة والمسايرة والتجنُّب (الحياد) لها ما يُناسبها من التاريخ الإسلامي، وهم يتسترون بها إرضاءً للضمير وإراحة له لا أكثر.

إلاَّ أن الواقع يشير إلى أن الموضوع، ليس بهذا التبسيط. فالتاريخ هو عبارة عن وقائع مَسْكُوكة، يتم ملاحظتها وقراءتها والاستفادة منها طمعًا في إكمال حركة التاريخ، وليس إعادتها إلى المربع الأول، فنبتَلى بثقافة «الاجترار الأعمى»، هذه هي الحقيقة. فلأول وهلة، يُدرك المرء مدى اختلاف الظروف التي كانت حاكِمة في ذلك الوقت، وما نعيشه اليوم من أحداث، لكي نفهم الفارق الذي لا يسمح لأحد بأن يستخدم أدوات سابقة بذاتها، وكأن العقول والضمائر قد غابت عن الفعل.

لذا، فإن الإدراك الحقيقي لضرورات الاستفادة من التاريخ، هي المتعلقة بالاستدلال وإكمال النضج السياسي، لكي نتجنب الأخطاء ما أمكن، وليس شيئًا آخر. هنا يدفعنا النقاش إلى التساؤل إذاً: ما الذي يحكم الحركة السياسية في حاضرنا؟ إنه باختصار ما تتطلبه الأحداث من قرارات سياسية، تتناسب وتلك الأحداث، ثم ما يتطلبه الضمير الإنساني تجاه ما يراه من وقائع. وبالتالي، فإن الأولوية هي للتقديرات الحالية، ثم بالاستناد إلى الخبرة السابقة. فالعلاقة بين الحاليْن هي علاقة تكامل وليس عبر ولاية أحدهما على الآخر بطريقة ساذجة.

فلو رجعنا إلى حركة التاريخ العام لوجدنا أن هذا النمط من التأثير هو الذي حَكَمَ أحداث التاريخ الكبرى. فالتجربة الإنجليزية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثرت كثيرًا بالتجربة الفرنسية، لكنها لم تكن طبقًا لأصلها تمامًا. كما أن قانون الإصلاح السياسي الإنجليزي الذي صدَرَ في العام 1832 كان متأثرًا بحركة يوليو (تموز) الفرنسية في العام 1830 ومدفوعًا بوهَجِها الثوري لكنه أيضًا (القانون) لم يكن طبقاً لأصل ما كانت تنادي به وتؤمن تلك الحركة الفرنسية.

كما أن العديد من الدول الأوروبية الرجعية، كانت قد وصلت إلى قناعة لا تقبل التشكيك، بعد فشلها في مواجهة المد الثوري الفرنسي، أنها ليست في وارد تغيير النظام الملكي لديها إلى نظام جمهوري راديكالي، لكنها أيضًا لم تستطع أن تبقى على الملكية المطلقة التي كانت حاكِمَة عندها، والتي تخوِّل المَلِك صلاحيات لا حصر لها، وبالتالي حصل التغيير السياسي الجذري فيها، الأمر الذي انعكس هو الآخر على حركة المطالبات الشعبية التي كانت تحملها قيادات سياسية في تلك البلدان، والذي جاء متساوقًا مع ذلك التغيير.

وعندما وقعت الثورة في إسبانيا في العام 1820 تأثرت بها الدول التي كانت مُستَعمَرة من قِبل الإسبان في المنطقة اللاتينية بالعالم الجديد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، لذا، فقد جرى تحرير أراض شاسعة في أميركا الجنوبية، بفعل الثورة الإسبانية، لكن التغيير في الجنوب أيضًا، لم يكن مطابقاً للتغيير الثوري الذي كانت الثورة الإسبانية الموؤودة تطالب به. وهذا يمنحنا مؤشرًا لكيفية فهم القيادات السياسية اللاتينية في الجنوب الأميركي للأحداث.

خلاصة القول هي أن الواقع والضمير هما الحَكَمَان فيما يجري. إذ لا يعقل أن نرى مشكلة سياسية، تكاملت فيها أركان التغيير السياسي الضرورية، وبان عنف الدكتاتورية ضدها في القتل والتنكيل والترهيب والظلم، ثم نريد أن يكون التاريخ وأحداثه حَكَمًا فيها، فهذه تسمى سذاجة وتهربًا من استحقاق قائم. كما أن وجود حالة مشابهة ولكن بشكلها المعقوف، يتطلب هو الآخر مواقف مختلفة، لكنها أيضًا غير معتمدة على أحداث التاريخ، وهكذا دواليك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3579 - الأحد 24 يونيو 2012م الموافق 04 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:48 ص

      المقال رائع

      المقال رائع يستحضر لنا الواقع بشتى الوانه المتغيرة والسريعة وفيه جوهر غامض وواضحا في نفس الوقت ممكن ان نستلهم وننهل منه الكثير من الدروس والعبر . كم نتمنى من أرباب السياسة يستظلوا بجزء من حصافة الفكر والرأي وايجاد حلول ناجعة لرقي أمتنا بدلا من الاجترار الاعمى او السير في ظلام دامس بدلا من احلب حلباً لك شطره

    • زائر 1 | 11:40 م

      شكرا

      مقال جميل ومن افضل من قرات

      تحياتي لك استاذ محمد

اقرأ ايضاً