العدد 3583 - الخميس 28 يونيو 2012م الموافق 08 شعبان 1433هـ

هل سنعود إلى عصور الطب الحجرية ؟ (1)

نهاد نبيل الشيراوي comments [at] alwasatnews.com

استشارية العناية المركزة والأمراض الصدرية

في جسدنا خمسون ترليون خلية، ولمن لا يعرف ما هو الترليون، فإننا نملك مليون مليون خلية في أجسامنا، ومع هذا فإن خلية واحدة أو جزء من خلية يمكنه خداعنا والنيل منا و بكل سهولة. كثيرا ما نتفاخر بأننا الكائنات الوحيدة على سطح الأرض التي تملك «عقلا» مفكرا قادرا على التخطيط والاستنباط وإتخاذ القرار، لكن العقل البشري هزم هزيمة منكرة على يد كائنات بلا عقل ولا تفكير.

يختلف العقل اختلافا جذريا عن الدماغ. للحيوانات والطيور وحتى الأسماك دماغ له بعض الوظائف المختلفة، لكن العقل هو من خصائص الجنس البشري وحده. وحدنا من نملك أكثر الوظائف العليا للدماغ تطورا وتعقيدا كالشخصية والتفكير والجدل والذاكرة والانفعال العاطفي. على رغم أن بعض الفصائل الحيوانية تملك بعض الوظائف العقلية المتطورة نوعا ما، إلا أن «الإنسان» هو المقصود الوحيد بمصطلح «العقل».

العقل في لغتنا العربية مصدر الفعل «عقل» وهو يعني المنع أو الحبس. أما سبب تسميته عقلا» فذلك لأنه يمنع الإنسان عن ارتكاب الخطأ والوقوع في التهلكة. قال سبحانه: «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير»(الملك:10)، لكن ما يحدث أحيانا هو أننا نتخذ العقل مادة للتفاخر فقط بغير أن يمنعنا من ورود المهالك. إن أكبر مثال على فشل العقل البشري هو أن خلية واحدة فقط لا تملك دماغا ولا عقلا بل في بعض الأحيان جزء من خلية يمكنه أن يخدع الذكاء البشري ويتغلب عليه ويخلق له العديد من المشاكل التي يعجز «عقلنا البشري الفذ» عن إيجاد الحلول لها. هذه الخلية الواحدة المتناهية الذكاء بل والخبيثة أحيانا هي البكتيريا. نستخدم في حياتنا اليومية مصطلح «الجراثيم» لنصف كل ما له علاقة بالالتهابات، لكن المصطلح يشمل كائنات دقيقة عديدة كالفيروسات والبكتيريا والفطريات وغيرها. اشتقت كلمة بكتيريا من اللغة اليونانية القديمة (بكتيريون) أي عصيات وهي كائنات ذات خلية واحدة، منها ما يشبه الكرة ويسمى المكورات أو على شكل عصاة ويسمى العصيات.

رغم أن البكتيريا كائن مكون من خلية واحدة فحسب، إلا أنها في اعتقادي كائن بالغ الذكاء. تستطيع البكتيريا أن تعيش وتتكيف في أية بيئة على وجه الأرض شاملة التربة والمياه العميقة وقشرة الأرض بل يمكنها أن تعيش حتى ضمن بيئات مشبعة بالفضلات النووية. إن القدرة على التكيف مع مختلف الظروف حتى القاسية منها هو صورة من صور الذكاء الشديد الذي يجعل الكائن يتغلب على الظروف الصعبة ويتمكن من مواصلة الحياة.

ليست هذه الكائنات أحادية الخلية شيئا تافه بلا قيمة. الحقيقة هي إننا لا يمكننا العيش بلا بكتيريا على الإطلاق. للبكتيريا دور حيوي في تدوير المغذيات البيئية عن طريق تثبيت النيتروجين في الغلاف الجوي، كما يستفاد من العمليات البيولوجية التي تقوم بها في معالجة المياة الملوثة وإنتاج المضادات الحيوية والكيماويات.

بداخل أجسامنا وعلى سطحها ملايين البكتيريا التي تعيش معنا بسلام ولا تسبب لنا أي مرض. في الفم والجهاز الهضمي وعلى الجلد توجد بكتيريا مفيدة لصحتنا وغير مسببة للأمراض. أما إذا اختلت معاهدة العيش بسلام بيننا وبين هذه الكائنات الذكية، فإنها تصبح شرسة وتجعلنا مرضى طريحي الفراش.

تعتبر المضادات الحيوية من أعظم اكتشافات البشرية وتعني «ضد الحياة» والمقصود هنا هو حياة البكتيريا لا الإنسان. قبل اكتشاف المضادات الحيوية، استخدم الإنسان النباتات والأعشاب لعلاج الالتهابات المختلفة. على سبيل المثال، استخدم لحاء شجرة (الكينكينا) لعلاج مرض الملاريا، كما استخدم بعض أنواع العفن كمضادات للالتهابات. في عام 1929 لاحظ طبيب إنجليزي يدعى (إلكسندر فليمنج) وجود عفن أخضر ينمو في مزرعة أحد الجراثيم. كان يمكن أن تمر هذه الظاهرة مرور الكرام على الشخص العادي، إلا أن إلكسندر لاحظ أن المستعمرات الجرثومية الملاصقة لهذا العفن قد توقفت عن النمو. بعد سلسة من الأبحاث، استخلص فليمنج المادة التي قتلت تلك المستعمرات الجرثومية وأسماها (بنسيلين) نسبة إلى نوع العفن الذي استخلص منه وهو (بنسيليوم). توالى بعد ذلك اكتشاف المضادات الحيوية وتصنيعها حتى بلغت أكثر من 70 مضادا حيويا.

انتشر استخدام المضادات الحيوية بشكل كبير خاصة مع إمكانية شرائها بلا وصفة طبية. يكفي أن يذهب أحدنا إلى أية صيدلية ويخبر الصيدلاني بالأعراض التي يعاني منها، حتى يصف له الأخير مضادا حيويا. إن الاستخدام الخاطيء للمضادات الحيوية يؤدي إلى خلق جيل من البكتيريا مقاوم لهذا المضاد، وبسبب قدرة البكتيريا على الانقسام السريع، فإن هذه الطفرة تنتشر بسرعة كبيرة حتى تصبح معظم البكتيريا مقاومة للمضاد الحيوي المستخدم.

هكذا نرى كيف يمكن لخلية واحدة من التغلب والإنتصار على العقل البشري، إذا ما أصر الإنسان على الخطأ بل وتمادى فيه. ومن الأخطاء البشرية التي تجعل البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية:

- استخدام المضادات الحيوية لعلاج أمراض غير بكتيرية مثل الإنفلونزا. من المعروف أن الإنفلونزا مرض فيروسي لا يحتاج ولا يستجيب إلى المضادات الحيوية، لذا فإن استخدام المضاد لعلاج هذا المرض يعتبر خطأ كبيرا.

- اللجوء إلى الصيدلاني لوصف المضاد الحيوي بدلا من اللجوء للطبيب، فالطبيب هو الوحيد القادر على تشخيص المرض ووصف العلاج المناسب له، كما إنه ليس جميع الأمراض تحتاج إلى وصف مضاد حيوي.

- الاستهلاك المفرط للمضادات الحيوية.

- استخدام المضادات الحيوية بجرعات غير مناسبة أو لفترات قصيرة غير كافية للعلاج.

وقد يتساءل البعض عن مدى خطورة نشوء أجيال من البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، وأقول لهم إن الأمر بالغ الخطورة. في السابق كان البنسيلين كاف لعلاج معظم الأمراض البكتيرية، أما الآن فهناك بكتيريا مقاومة لأشد المضادات قوة بل ولأكثر من مضاد في نفس الوقت. حذرت منظمة الصحة العالمية من هذا الخطر المحدق الذي مكن بكتيريا كالمكورات العنقودية (Staphylococcus aureus) من مقاومة عقار الفانكومايسين (Vancomycin)، وبكتيريا السل الرئوي (Mycobacterium tuberculosis) من مقاومات المضادات الحيوية التي استخدمت لعقود في علاج هذا المرض الخطير. إن هذا الكابوس العالمي الذي يصيب الصحة العامة متمثلا في زيادة أعداد وأنواع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، مما ينذر بكارثة صحية وعودة لعصر ما قبل اختراع المضادات الحيوية.

لا شك إننا لا نريد أن نصل إلى مرحلة لا يجد فيها الطبيب مضادا حيويا يستخدمه لعلاج الالتهابات وذلك بسبب مقاومة البكتيريا لجميع المضادات الحيوية. إن حدث أمر كهذا يعتبر كارثة بحق يجب التصدي لها. في المقال القادم سوف أحدثكم بتفصيل أكثر عن أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية وكيفية التقليل من هذا الخطر الداهم.

إقرأ أيضا لـ "نهاد نبيل الشيراوي"

العدد 3583 - الخميس 28 يونيو 2012م الموافق 08 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 16 | 1:15 م

      lمقال رائع ا

      مقال روعة ..يدل على ثقافة كبيرة ،وذكاء عالي جدا ، وعقل راجح.. الله يحفظ الدكتورة ويوفقها..

    • زائر 15 | 12:03 م

      مقال رهيب

      لم اكن أتوقع أن لك هذه القدرة الأدبية .. أنا مصدوم بقدر اعجابي بالامتزاج العلمي والأدبي

    • زائر 14 | 11:38 ص

      ام حسين

      موضوع رائع و اسلوب جميل في الكتابه

    • زائر 13 | 11:29 ص

      صراحة مقال رائع

      بمعلوماته، واشكرك دكتورة على اسلوبك المشوق، وبانتظار المقال القادم ..

      شكرا

    • زائر 12 | 10:20 ص

      للكاتبة قدرة كبيرة على تطويع الكلمات العلمية

      الموضوع بلا شك قيّم ومفيد، ولكن السبب الرئيس وراء ارتفاع قيمة الموضوع وفائدته من وجهة نطري، القدرة غير العادية للكاتبة على شرح المصطلحات العلمية بأسلوب ينزل بتلك المصطلحات لمستوى الفرد غير المتخصّص. ولكنني للحقيقة مع استمتاعي بالموضوع وغبطتي لكاتبتة على القدرة على تطويع الكلمات، فإنني لم استغرب من تلك القدرة، لمجرّد أنني قد قرأت بأن الدكتورة نهاد هي إبنة الدكتور نبيل الشيراوي، فالعائلة المحترمة من العائلات الولاّدة في الجانب الثقافي.

      ننتظر بشوق مقالك القادم فبارك الله فيك يا دكتورة.

    • زائر 11 | 9:49 ص

      مقال رهيب

      لم اكن أتوقع أن لك هذه القدرة الأدبية .. أنا مصدوم بقدر اعجابي بالامتزاج العلمي والأدبي

    • زائر 7 | 8:57 ص

      الموضوع لمن بحث عنه ليس جديد ولكن الأسلوب ممتاز

      شكرا للوسط لتعاونها مع من يستطيعون إيصال المعلومة المبسطة وبأسلوب لطيف للقارئ البحريني. هذه طاقات البلد اللتي لو استثمرت جيدا لكانت البلد مقصدا للسياحة العلاجية.

    • زائر 6 | 8:26 ص

      طبيبه قديره

      موضوع يستحق الشكر .

      هذا مستواكم الراقى يا اطبائنا المطهدين.

      الله يوفقكى

    • زائر 5 | 3:47 ص

      عودة محمودة..

      عودة محمودة دكتورة نهاد، ننتظر المزيد لمعرفة دهاليز صحة الانسان..تحياتي

    • زائر 4 | 3:27 ص

      ام حسن

      موضوع اهم من المهم بس عتبي على بعض الاطباء من يروح لهم المريض يكتب له مضاض حيوي ومن فتره قريت عن مخاطر الاكثار من المضادات الحيويه واثرها على اجسامنا والحمد لله ما استعمل المضادات ا لا فى الضروره القسوى

    • زائر 3 | 2:28 ص

      رائع

      طرح رائع واسلوب ممتاز، شكراً

    • زائر 2 | 1:22 ص

      عقلية فذه

      وفقك الله يادكتوره الى ماهو أبعد من ذلك وسسد فكرك النير وابعد عنك جراثيم الارض قبل الجسم

    • زائر 1 | 12:22 ص

      امتياز

      موضوع مهم وعرض جذاب. لذا نحن في شوق ننتظر المقالات القادمة ان شاء الله

اقرأ ايضاً